جعل الله الطلاق الحل الأخير للزوجية المتعثرة التي لم تفلح محاولات إصلاحها في الإبقاء عليها، وقد شُرع الطلاق مع كرهه لما في استمرار مثل هذه الزوجية من ضرر وعنت يتنافى مع ما شُرع الزواج من أجله، فالزواج شُرع للسكن والمودة والرحمة لا للقهر والتعاسة والبغضاء، يقول تعالى: «وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»، فإذا فُقدت الرحمة وانعدمت المودة وحل محلهما ما يرهق النفس ويكدر الصفو فلا جدوى من استمرار الزوجية على هذه الحال التي تضر ولا تنفع. وقد جُعل الطلاق في يد الزوج بغية ترشيد استخدامه والتقليل من حالاته؛ وذلك لما عُرف عن الرجال من قدرة أكبر على التحمل وضبط النفس؛ حيث خلقهم الله لمواجهة أعباء الحياة والسعي لكسب العيش مع ما يتطلبه ذلك من أعمال مرهقة واحتكاك بالمجتمع، وهيأ عقولهم لتحمل عمق التفكير والنظر في مآلات القرار قبل اتخاذه، وذلك بخلاف النساء اللاتي تغلب عليهن العاطفة مما يجعلهن أسرع في اتخاذ القرارات دون روية وتدبر أحيانًا، فضلًا عن أنهن خُلقن للعطف والحنان وهو ما يناسب طبيعة المهام الملقاة على عاتقهن من التخفيف على الأزواج ضغوط الحياة وتربية الأطفال ونحو ذلك، ولو جُعل قرار الطلاق بيد المرأة لندر بقاء زوجية على حالها، وذلك لتعجل المرأة بما تريده، بدليل حزنها وغضبها الشديد إذا ما استجاب الزوج لتطليقها حين تبادر بطلبه مع أول شجار بينهما.
وقد جعل الله عز وجل الطلاق منضبطًا بضوابط تضمن عند الالتزام بها عدم حصوله إلا إذا كان هو العلاج الذي لا بد منه، فقد جُعل متكررًا ثلاثًا وليس مرة واحدة، وجُعل متفرقًا بين كل طلقة وأخرى ثلاثة أشهر على الأقل، كما جُعلت معه مفسداته ومستأنفات الزوجية؛ فجُعلت الرجعة قبل انتهاء العدة، وأُبقيت المطلقة رجعيًّا في بيتها رجاء تذكر الزوجين ما كان بينهما من ود لعلهما يستأنفان زوجيتهما من دون حاجة إلى تزويج جديد ما داما في العدة، كما جُعل إيقاع الطلقة في طهر المرأة لا حيضها، واشتُرط عدم حصول جماع بينهما في الطهر الذي يطلقها فيه. والناظر إلى ضوابط الطلاق وشروطه يجد أنها في الغالب تمثل عوائق تعوق إيقاع الطلاق في الحال؛ وذلك ليبعد حصوله عن دائرة الغضب الذي يدفع إليه في كثير من الأحيان، فإذا هَمَّ الرجل بالتطليق وتبين أن زوجته في حيضها كان عليه الانتظار حتى تطهر، فإن كان متعجلًا تأثرًا بغضب ما فإنه قد يزول فيما بقي لها من أيام حيضها، وإذا هَمَّ بالتطليق في حال طهر غير أنه حصل بينهما ما يكون بين الزوجين في أثناء هذا الطهر؛ فإن عليه أن ينتظر حتى ينتهي هذا الطهر ثم الحيضة التي بعده، وقد يستغرق هذا غالب الشهر، وهي فرصة كافية للتفكير والبعد عن دائرة التأثر بالغضب قبل أن يتخذ قراره، كما أبطل الشرع عبارة المطلق في حال الغضب المغلق والمخرج عن حد الاتزان الانفعالي، فـ«لا طلاق في إغلاق».
وعليه، فإن مقصود هذه الضوابط الحد من وقوع الطلاق وتقليل حالاته، ويأتي في هذا السياق أيضًا خطوات الإصلاح التي تسبقه من الوعظ والهجر في الفراش والضرب الإشاري المنذر بقرب الطلاق في حال التمادي ثم التحكيم بين الزوج والزوجة من خلال حكمين من أهلهما، وهذا يدل دلالة واضحة على عدم إرادة الشارع حصول الطلاق ما وُجدت فرصة للإبقاء عليه؛ فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا على خلاف الزواج الذي رغَّب الشارع فيه ويسَّر أسبابه؛ لما في الزواج من البناء والاستقرار وما في الطلاق من الهدم والضياع في كثير من الحالات بل في معظمها، لكن هذه الحكمة قد تخفى على كثير من الأزواج، فتجدهم يجهلون الضوابط التي جاءت بها شريعتنا السمحة للحفاظ على الزوجية والحد من الطلاق وتقليل حالاته، فيطلق بعضهم زوجته لأتفه الأسباب من دون وعظ ولا هجر ولا ضرب ولا تحكيم، ويطلق بعضهم زوجته وهي في الحيض أو في طهر جامعها فيه، وهو ما يعرف بالطلاق البدعي، وإن كان الفقهاء يختلفون حول الاعتداد به، والراجح وقوعه مع إثم فاعله، وهو قول الجمهور كما سيأتي بيانه في مقالة لاحقة. وقد يجمع بعضهم الطلقات التي جعلها الله للزوج على الزوجة فيطلقها ثلاثًا دفعة واحدة دون أن يفرق بين الطلقات، ولا خلاف بين الفقهاء حول بدعية جمع الطلقات التي باعد الله عز وجل بينها لحكمة الترشيد في استخدامها والإبقاء على الزوجية، يقول تعالى: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ»، ومن ثم فالطلاق يكون مرة بعد مرة ثم يكون الزوج بعدهما في غاية الحذر؛ لأن إيقاع الثالثة معناه نهاية الزوجية تمامًا، لقوله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ».
وقد اختلف الفقهاء حول حكم التطليق ثلاثًا دفعة واحدة على أقوال: أولها – وهو لبعض الحنابلة – أنه لغو لا يعتد به؛ لأنه طلاق بدعي والبدعة مردودة في شرعنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وقد عُلل لهذا الرأي بما روي أن عبد الله بن عمر طلق زوجته وهي حائض، فحكى عمر ذلك للنبي، فقال له: «مُره فليراجعها حتى تطهر، فإن شاء طلَّق وإن شاء أمسك»، لكن هذا دليل ضعف لهذا الرأي وليس شاهدًا له؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجعتها دليل على حصول طلاقها؛ فلا رجعة إلا بعد طلاق، كما يدل على ضعف هذا الرأي أن البدعة في الطلقة الثانية والثالثة وليست في الأولى، وفساد الثانية والثالثة لا يفسد الأولى، بخلاف فساد الأولى فهو مفسد لهما. وثانيها – وهو قول جمهور الفقهاء – أن الطلاق يقع. ومع اتفاق جمهور الفقهاء على وقوع طلاق الثلاث بلفظ واحد، لكنهم انقسموا إلى فريقين: يرى أحدهما أنه يقع ثلاثًا؛ أي يحسب ثلاث طلقات، مستشهدين بأن الثلاث يملكها الزوج على الزوجة ومخالفته في تفريقها لا يبطلها، بدليل اعتداد النبي صلى الله عليه وسلم بتطليق عبد الله بن عمر لزوجته وهي حائض، وكذلك إمضاء سيدنا عمر لهذا الطلاق ثلاثًا؛ حيث قال حين كثر التطليق ثلاثًا في عهده: «تعجل الناس في أمر كانت لهم فيه أناة فأمضيناه عليهم». ويرى الفريق الآخر أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة فقط؛ لأنها وافقت ضوابط الشرع في إيقاع الطلقات فصحت عندئذ وبطل ما عداها، ولكل من الفريقين أدلته على ما ذهب إليه، وقد بسطها ابن القيم في كتابه «زاد المعاد»، ولا يتسع المقام لذكرها هنا، ويصعب مع قوة أدلة الفريقين ترجيح رأي على آخر، ولذا تعد هذه المسألة من المسائل القلائل التي يعبر عنها بالمسائل التي استقر الخلاف فيها، فلا يمكن مع تعادل الأدلة ترجيح رأي على آخر.
وعليه، يبقى الأمر في هذه المسألة بيد المفتي ليختار ما يناسب حال المستفتي، فإذا جاءه زوجان تزوجا حديثًا وكلاهما يبغض الآخر وربما زوَّجَهما الأهل رغمًا عنهما، وقد طلق الزوج زوجته ثلاثًا دفعة واحدة؛ أمضاه المفتي وفرَّق بينهما قبل أن ينجبا ويباعَد بينهما وبين أولادهما؛ لأن ظاهر حالهما عدم استمرار الزوجية بينهما، وإن جاءه زوجان بينهما أولاد وقد طلق الزوج زوجته ثلاثًا، لكنهما نادمان على التطليق ويبحثان عن حل لاستمرار الزوجية بينهما ورعاية أولادهما؛ أمضاه واحدة فقط.