خطبة الجمعة الثانية : حِفْظُ النَّفْسِ ، للدكتور أحمد رمضان
الخطبة الأولي عن : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها

خطبة الجمعة الثانية : حِفْظُ النَّفْسِ ، إعداد: رئيس التحرير للدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 28 صفر 1447هـ، الموافق 22 أغسطس 2025م. بينما الخطبة الأولي عن : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها
وكذلك : لتحميل خطبة الجمعة الثانية 22 أغسطس 2025م بصيغة pdf بعنوان : حِفْظُ النَّفْسِ ، لـ صوت الدعاة.
-عناصر خطبة الجمعة الثانية 22 أغسطس 2025م بعنوان : حِفْظُ النَّفْسِ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
أَوَّلًا: ح حِفْظُ النَّفْسِ مَقْصِدٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.
ثَانِيًا: الاِنْتِحَارُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ.
ثَالِثًا: التَّهَوُّرُ فِي القِيَادَةِ صُورَةٌ مِن صُوَرِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ.
رَابِعًا: وَسَائِلُ حِفْظِ النَّفْسِ وَمَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ.
ولقراءة خطبة الجمعة الثانية 22 أغسطس 2025م بعنوان : حِفْظُ النَّفْسِ إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
حِفْظُ النَّفْسِ
28 صفر 1447هـ – 22 أغسطس 2025م
للدكتور أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الَّذي جَعَلَ حِفْظَ النَّفْسِ مِن أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَحَرَّمَ الاِعْتِدَاءَ عَلَيْهَا بِأَيِّ صُورَةٍ كَانَت، وَجَعَلَهَا أَمَانَةً عِندَ صَاحِبِهَا، لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إِلَّا بِمَا شَرَعَ اللهُ.
نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَمِن سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللهِ، حَدِيثُنَا اليَوْمَ عَنْ رُكْنٍ عَظِيمٍ وَمَقْصِدٍ جَلِيلٍ مِن مَقَاصِدِ الإِسْلَامِ: حِفْظُ النَّفْسِ. نَعَمْ، هَذِهِ النَّفْسُ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، وَالَّتِي هِيَ سِرُّ حَيَاتِكَ، وَالَّتِي أَقْسَمَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10].
فَالإِسْلَامُ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ جَاءَ لِحِمَايَةِ هَذِهِ النَّفْسِ، وَصِيَانَتِهَا مِنَ الهَلَاكِ، وَحِمَايَتِهَا مِنَ الاِعْتِدَاءِ، وَجَعَلَ الاِعْتِدَاءَ عَلَيْهَا مِن أَعْظَمِ الكَبَائِرِ، فَقَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
وَلِذَلِكَ جَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ القَتْلِ، وَتَحْرِيمِ الاِنْتِحَارِ، وَتَحْرِيمِ التَّهَوُّرِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى إِهْلَاكِ النَّفْسِ وَإِزْهَاقِ الأَرْوَاحِ، مِثْلَ التَّهَوُّرِ فِي القِيَادَةِ، الَّذِي أَصْبَحَ اليَوْمَ سَبَبًا لِإِزْهَاقِ آلَافِ الأَرْوَاحِ، وَضَيَاعِ مُسْتَقْبَلِ كَثِيرٍ مِنَ الأُسَرِ.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، حَدِيثُنَا سَيَطُوفُ بِكُمْ حَوْلَ هَذِهِ المَعَانِي:
أَوَّلًا: ح حِفْظُ النَّفْسِ مَقْصِدٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.
ثَانِيًا: الاِنْتِحَارُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ.
ثَالِثًا: التَّهَوُّرُ فِي القِيَادَةِ صُورَةٌ مِن صُوَرِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ.
رَابِعًا: وَسَائِلُ حِفْظِ النَّفْسِ وَمَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: حِفْظُ النَّفْسِ مَقْصِدٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ جَاءَتْ بِحِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا اسْتِقَامَ لِلدُّنْيَا إِلَّا بِهَا: حِفْظُ الدِّينِ، وَحِفْظُ النَّفْسِ، وَحِفْظُ الْعَقْلِ، وَحِفْظُ النَّسْلِ، وَحِفْظُ الْمَالِ. وَقَدْ صَدَّرَ الْعُلَمَاءُ النَّفْسَ فِي ذِكْرِهَا بَعْدَ الدِّينِ، لِأَنَّهَا الْوِعَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ التَّكْلِيفَ، وَالْأَدَاةَ الَّتِي بِهَا تُعْمَرُ الْأَرْضُ وَتُقَامُ الشَّرِيعَةُ.
قَالَ الْإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ»: إِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِقِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خَمْسَةٌ، أَوَّلُهَا حِفْظُ النَّفْسِ، فَإِذَا فُقِدَتْ أَوْ أُهْمِلَتْ فَسَدَ نِظَامُ الْعَالَمِ. الموافقات» (ج2، ص8).
وَقَدْ أَكَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، فَجَعَلَ النَّفْسَ مَكْرَمَةً عَظِيمَةً، وَقَضَى بِحُرْمَتِهَا حُكْمًا قَطْعِيًّا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الإسراء: 33].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ (تَفْسِيرُهُ، ج5، ص73): «أَيْ لَا تَقْتُلُوا نَفْسًا مُحَرَّمَةً بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، كَالْقِصَاصِ بَعْدَ الْقَتْلِ، أَوِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، أَوِ الْمُرْتَدِّ”.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ (الْجَامِعُ، ج7، ص134): «نَهْيٌ الله عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ، مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ مُعَاهَدَةً إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِبُ قَتْلَهَا”.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ (الْجَامِعُ، ج6، ص146): «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً وَانْتَهَكَ حُرْمَتَهَا فَهُوَ مِثْلُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ تَرَكَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَصَانَ حُرْمَتَهَا وَاسْتَحْيَاهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ فَهُوَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”.
وَقال النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ». قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ دَمَ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا”. رواه الترمذي (ح 1395) وابن ماجه (ح 2619) صحيح.
وقد أكَّد الشُّرّاح عِظَمَ حُرمة دم المسلم، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي قَتْلِ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْتَدِي عَلَى نَفْسِهِ هُوَ بِالِانْتِحَارِ، أَوْ يُهْلِكُهَا بِالتَّهَوُّرِ وَالطَّيْشِ فِي الْقِيَادَةِ، وَإِهْمَالِ الْأَسْبَابِ؟!
النَّفْسَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُزْهِقَهَا، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُزْهِقَ نَفْسَ غَيْرِهِ، وَهَذَا محمّد بن الحنفية يقول: «ليسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثمنٌ إلا الجَنّةُ، فلا تبيعوها إلا بها”. (تاريخ دمشق لابن عساكر 54/336)
️ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَالنَّفْسُ عِندَ وَلِيِّهَا غَالِيَةٌ *** وَاللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْجِنَانَ ثَمَنَهَا
إِخْوَتِي فِي اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ هِيَ رَأْسُ مَالِكَ، بِهَا تُصَلِّي، وَبِهَا تَصُومُ، وَبِهَا تَتْلُو الْقُرْآنَ، وَبِهَا تَسْعَى لِرِزْقِ أَوْلَادِكَ، وَبِهَا تَحْفَظُ دِينًا وَتُعَمِّرُ دُنْيَا، فَمَنْ أَهْدَرَهَا فَقَدْ أَهْلَكَ كُلَّ شَيْءٍ مَعَهَا. وَمَنْ صَانَهَا فَقَدْ قَامَ بِأَعْظَمِ أَمَانَةٍ وَوَفَّى بِأَعْظَمِ عَهْدٍ.
أيها الأحبة، إذا كان الإسلامُ قد جعل قتلَ الغير من أعظم الكبائر، فإن قتلَ الإنسان نفسَه – وهو ما يسمّى بالانتحار – أعظم جرمًا، لأنه تعدّى على حق الله في نفسه، وسنُفصّل ذلك في العنصر التالي من خطبتنا هذه إن شاء الله.
العُنْصُرُ الثَّانِي: الانْتِحَارُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، لَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَحْذِيرٍ شَدِيدٍ مِنْ إِهْلَاكِ النَّفْسِ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النِّسَاء: 29-30].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ (تَفْسِيرُهُ، ج2، ص269، 270): “بارتكابِ مَحارِمِ اللهِ، وتعاطِي مَعاصِيه، وأكلِ أموالِكم بينكم بالباطلِ”
عن عَمرو بن العاص، رضي اللهُ عنه، أنَّه قال: لَمّا بعثَه النَّبيُّ ﷺ عامَ ذاتِ السَّلاسِلِ قال: احْتَلَمْتُ في ليلةٍ باردةٍ شديدةِ البرد، فأشفَقْتُ إنِ اغتسلتُ أن أَهلِكَ، فتيمَّمتُ، ثم صلّيتُ بأصحابي صلاةَ الصُّبح. قال: فلمّا قدِمتُ على رسولِ الله ﷺ ذكرتُ ذلك له، فقال: «يا عمرو، صلّيتَ بأصحابِك وأنتَ جُنبٌ؟» قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنّي احتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ شديدةِ البرد، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أَهلِكَ، فذكرتُ قولَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النِّساء: 29]، فتيمَّمتُ ثم صلّيتُ. فضحِكَ رسولُ الله ﷺ ولم يَقُلْ شيئًا”. أبو داود (رقم 334)، وأحمد (4/203)، والدارقطني (1/179)، وغيرُهم. صحيح.
استدلّ عمرو رضي الله عنه بالآية: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ على مشروعيّة العدول إلى التيمم عند خوف الضَّرر بالاغتسال، وقال ابن قدامة في المغني (1/174): «وفيه دلالة على أنَّ مَن خاف على نفسِه باستعمال الماء انتقل إلى التيمم، ويكفيه”. وقال النووي في المجموع (2/213): «هذا الحديث أصلٌ في أنَّ مَن خاف على نفسه الهلاكَ باستعمال الماء جاز له العدول إلى التيمم، وصلاته صحيحة”.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: “مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهو في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (البُخَارِي 5778، مُسْلِم 109).
وَقَالَ النَّوَوِيُّ (راجع: شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِم، ج2، ص130- 132): «قال الْعُلَمَاءُ أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ لَا يَكْفُرُ، وَلَكِنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً عَظِيمَةً مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ”.
وفي قصة الرَّجُلُ الَّذِي قَاتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ: كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، “قَاتَلَ رَجُلٌ قِتَالًا شَدِيدًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأَثْنَى الصَّحَابَةُ عَلَى بَلَائِهِ، فَقَالَ ﷺ: «هُوَ فِي النَّارِ». فَلَمَّا تَفَقَّدُوهُ وَجَدُوهُ قَدْ جُرِحَ فَلَمْ يَصْبِرْ، فَوَضَعَ سَيْفَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» (البُخَارِي 2898، مُسْلِم 112).
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ الانْتِحَارَ لَيْسَ إِنْهَاءً لِلْأَلَمِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ هُوَ انْتِقَالٌ مِنِ ابْتِلَاءٍ مُؤَقَّتٍ إِلَى عَذَابٍ سَرْمَدِيٍّ.
وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُنْتَحِرَ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ بِوَسِيلَتِهِ نَفْسِهَا: فَمَنْ شَرِبَ السُّمَّ عُذِّبَ بِهِ، وَمَنْ طَعَنَ نَفْسَهُ طُعِنَ بِهِ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ جَزَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
إِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ لِتَغْرِسَ فِي الْمُسْلِمِ مَعْنَى الصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطَّلَاق: 2-3].
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ (رَوَاهُ أَحْمَد، 21969)، لِيُعَلِّمَنَا أَنَّ أَبْوَابَ الْفَرَجِ بِيَدِ اللَّهِ، لَا بِيَدِ الانْتِحَارِ أَوِ الْهُرُوبِ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا ضَجِرْتَ مِنَ الزَّمَانِ وَنَكْبَةٍ *** فَاصْبِرْ فَإِنَّ الصَّبْرَ عُقْبَاهُ الرِّضَا
لَا تَجْزَعَنْ فَاللَّهُ يَكْشِفُ كُرْبَةً *** وَيُعِيدُ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْرًا وَهُدَى
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: «وَيْحَكَ يا ابنَ آدَم، ما يضرُّك الذي أصابك من شَدائدِ الدنيا إذا خَلَصَ لك خيرُ الآخرة؟ حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ ج2، ص142.
عِبَادَ اللَّهِ، إِذَا تَبَيَّنَ خَطَرُ الانْتِحَارِ وَمَا فِيهِ مِنِ الاعْتِرَاضِ عَلَى قَدَرِ اللَّهِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ التَّهَوُّرَ فِي الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ – كَالاسْتِهْتَارِ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْقِيَادَةِ بِغَيْرِ مُبَالَاةٍ – صُورَةٌ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ الاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَالْغَيْرِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لانْتِحَارٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، وَهَلَاكٍ جَمَاعِيٍّ.
وَهَذَا مَا سَنَتَحَدَّثُ عَنْهُ فِي العُنْصُرِ الثَّالِثِ: التَّهَوُّرُ فِي الْقِيَادَةِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: التَّهَوُّرُ فِي الْقِيَادَةِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ الطُّرُقَ الْيَوْمَ أَصْبَحَتْ مَيَادِينَ ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ، وَالسَّائِقُ عَلَى مَقْعَدِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَقَامِ الأَمَانَةِ الْعُظْمَى؛ أَمَانَةِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَمَانَةِ الْمَارَّةِ فِي الطَّرِيقِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البَقَرَة: 195].
والنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنْ كُلِّ فِعْلٍ فِيهِ خَطَرٌ عَلَى النَّفْسِ أَوْ إِلْقَاءٌ بِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (ح 2599): «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. وَقَالَ ﷺ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» (مَالِك فِي الْمُوَطَّأ 1429، صَحيح).
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ (جَامِعُ الْعُلُومِ وَالْحِكَم، ج3، ص911): “الضَّرَرُ أن يُدْخِلَ على غيرِه ضررًا بما ينتفعُ به هو، والضِّرارُ أن يُدْخِلَ على غيرِه ضررًا بما لا منفعةَ له به”.
فَالتَّهَوُّرُ فِي الْقِيَادَةِ – مِنْ سُرْعَةٍ زَائِدَةٍ أَوْ تَجَاوُزٍ خَاطِئٍ أَوْ اسْتِهْتَارٍ بِأَنْظِمَةِ الْمُرُورِ – دَاخِلٌ فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّهُ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالنَّفْسِ وَبِالآخَرِينَ.
شوهدت ونَشَرَتِ قِصَصًا مَأْسَاوِيَّةً عَنْ أُسَرٍ فَقَدَتْ أَبْنَاءَهَا بِسَبَبِ تَهَوُّرٍ فِي سُرْعَةٍ أَوِ اسْتِهْتَارٍ بِقَطْعِ الإِشَارَةِ. كَمْ مِنْ شَابٍّ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ مَزْهُوًّا بِسَيَّارَتِهِ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَّا جُثَّةً هَامِدَةً، وَتَرَكَ وَرَاءَهُ أُمًّا تَبْكِي وَطِفْلًا لَمْ يُولَدْ بَعْدُ.
أَثَرٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: «إِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ عَنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ فِي طُرُقِ اللَّهِ، فَأَعْطُوهَا حَقَّهَا، وَأَمِّنُوا بِهَا أَنْفُسَكُمْ وَالنَّاسَ» (مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَة ، ج7، ص307). فَكَيْفَ لَوْ رَأَى عَلِيٌّ حَالَنَا الْيَوْمَ مَعَ السَّيَّارَاتِ، أَلَيْسَتْ أَمَانَةً أَعْظَمَ مِنَ الدَّابَّةِ؟!
قال الشوكاني في نيل الأوتار: “فيه دليلٌ على تحريمِ الضِّرار على أيِّ صفةٍ كان، فإنَّه قاعدةٌ من قواعدِ الدِّين”. ج5، ص311.
قِصَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ إِذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ بَعَثَ وَالِيًا أَوْصَى: «إِيَّاكُمْ وَالتَّهَوُّرَ، فَإِنَّ التَّهَوُّرَ تَضْيِيعٌ لِلنَّفْسِ، وَاللَّهُ سَائِلُكُمْ عَنِ الأَنْفُسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (نَقَلَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْم، ج2، ص281).
أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لَوْ نَظَرْنَا فِي وَاقِعِنَا الْيَوْمَ، لَوَجَدْنَا أَنَّ حَوَادِثَ السَّيْرِ صَارَتْ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ فِي الْعَالَمِ. تَقَارِيرُ رَسْمِيَّةٌ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ آلَافَ الأَرْوَاحِ تُزْهَقُ كُلَّ عَامٍ بِسَبَبِ سُرْعَةٍ أَوِ اسْتِهْتَارٍ، وَكَأَنَّهَا صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الانْتِحَارِ الْجَمَاعِيِّ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ.
فَالتَّهَوُّرُ فِي الْقِيَادَةِ لَيْسَ شَجَاعَةً، بَلْ هُوَ انْتِحَارٌ مُؤَجَّلٌ، وَظُلْمٌ لِلنَّفْسِ وَلِلآخَرِينَ.
قَالَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ:
تَمَهَّلْ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ فِيهِ *** نُفُوسًا لِلأَمَانَةِ مُحْتَمِينَا
وَلَا تَجْعَلْ لِلسُّرْعَةِ الْغَوْغَا سَبِيلًا *** فَتَحْصُدَ مِنْ حَيَاتِكَ شَاكِينَا
وَقَالَ ابْنُ رجب: “وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ» أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ عِبَادَهُ فِعْلَ مَا يَضُرُّهُمْ أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ هُوَ عَيْنُ صَلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ هُوَ عَيْنُ فَسَادِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَيْسَ فِي تَكْلِيفِهِمْ شَيْءٌ يَضُرُّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا أَسْقَطَ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ عَنِ الْمَرِيضِ عند الضَّرَرِ، وَشَرَعَ لَهُ التَّيَمُّمَ، رَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَتَحْصِيلًا لِلرُّخْصَةِ وَالْمَصْلَحَةِ”. جامع العلوم والحكم ج3، ص928.
يَا عِبَادَ اللَّهِ، قَدْ يَقُولُ بَعْضُ الشَّبَابِ: هَذِهِ حَيَاتِي وَأَنَا حُرٌّ فِيهَا. وَلَكِنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي الإِسْلَامِ لَيْسَتْ فَوْضَى، بَلْ هِيَ مَسْؤُولِيَّةٌ أَمَامَ اللَّهِ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾ [الصَّافَّات: 24].
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (البُخَارِي 893، مُسْلِم 1829).
فَالسَّائِقُ رَاعٍ فِي سَيَّارَتِهِ، مَسْؤُولٌ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ تُزْهَقُ بِسَبَبِهِ.
فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الإِسْلَامَ شَدَّدَ عَلَى حِفْظِ النَّفْسِ، وَنَهَى عَنِ الانْتِحَارِ، وَحَذَّرَ مِنَ التَّهَوُّرِ فِي الْقِيَادَةِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ الَّذِي يَطْرَحُ نَفْسَهُ: كَيْفَ نَحْفَظُ أَنْفُسَنَا عَمَلِيًّا؟ وَمَا الْوَسَائِلُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْمَقْصِدِ الْجَلِيلِ؟
هَذَا مَا سَنُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي العُنْصُرِ الرَّابِعِ: وَسَائِلُ حِفْظِ النَّفْسِ وَمَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، نحمدُهُ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مُباركًا فيه، ونشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تُنجي قائلَها يومَ الدِّين، ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمّدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: وَسَائِلُ حِفْظِ النَّفْسِ وَمَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّ مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِصِيَانَةِ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ: الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ. وَقَدْ قَدَّمَ الْعُلَمَاءُ حِفْظَ النَّفْسِ بَعْدَ الدِّينِ مُبَاشَرَةً، إِذْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا بِلَا نَفْسٍ تُعَمِّرُهُمَا.
قَالَ الإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى (ج1، ص174): «واعلم أنَّ مقصودَ الشرعِ من الخلقِ خمسةٌ: أن يُحفَظ عليهم دينُهم ونفسُهم وعقلُهم ونسلُهم ومالُهم. فكلُّ ما يضمَن حفظَ هذه الأصولِ الخمسة فهو مصلحةٌ، وكلُّ ما يُفوِّت هذه الأصولَ فهو مفسدةٌ، ودفعُها مصلحةٌ”.
وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمُوَافَقَات (ج2، ص20): «الضَّرُورِيَّاتُ الْخَمْسُ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ حِفْظُهَا، وَإِذَا فُقِدَتْ اخْتَلَّ نِظَامُ الْعَالَمِ”
وَسَائِلُ وِقَائِيَّةٌ لِحِفْظِ النَّفْسِ
التَّحْرِيمُ الصَّرِيحُ لِلِانْتِحَارِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النِّسَاء: 29].
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُنْتَحِرَ يُعَاقَبُ بِمَا قَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ (مُسْلِم، ح 109).
النَّهْيُ عَنِ التَّهَوُّرِ وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْخَطَرِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [الْبَقَرَة: 195].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ (الْجَامِع، ج2، ص363): «وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: [وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا لِلْمَوْتِ لَعَجْزٌ) وَقَالَ قَوْمٌ: التَّقْدِيرُ لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُفْسِدُ حالك برأيك”.
تَشْرِيعُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الْبَقَرَة: 179].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ تَفْسِيرُهُ: «الْمَعْنَى أَنَّ بَقَاءَ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِلْبَشَرِ، لِأَنَّهُ كَفٌّ لِيَدِ الْمُعْتَدِي عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ”. راجع ابن كثير ج1، ص492.
الأَمْرُ بِالأَخْذِ بِالأَسْبَابِ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (التِّرْمِذِي 2517). أَيْ أَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ لَا يَتِمُّ بِالتَّوَكُّلِ الْمُجَرَّدِ، بَلْ بِالأَخْذِ بِأَسْبَابِ السَّلَامَةِ.
السَّلَامَةُ فِي الطُّرُقَاتِ: قَالَ ﷺ: «أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» (الْبُخَارِي 2465، مُسْلِم 2121)، وَمِنْ حَقِّهِ الْيَوْمَ الالْتِزَامُ بِأَنْظِمَةِ السَّيْرِ، وَعَدَمُ التَّهَوُّرِ فِي الْقِيَادَةِ.
قِصَّةُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ أَخَذَ الرَّايَةَ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ، فَاحْتَضَنَهَا بِعَضُدَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَبْدَلَهُ اللَّهُ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ» (الْبُخَارِي 3709). فَهَذَا هُوَ حِفْظُ النَّفْسِ بِالْحَقِّ، لَا بِإِلْقَائِهَا فِي التَّهْلُكَةِ بِلَا غَايَةٍ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَحِبَّةُ، إِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا جَاءَتْ لِصِيَانَةِ النُّفُوسِ، وَحَذَّرَتْ مِنَ الانْتِحَارِ، وَمِنَ التَّهَوُّرِ الَّذِي يُودِي بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فِي حِفْظِ أَنْفُسِنَا وَأَهْلِينَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا.
فَالنَّفْسُ أَمَانَةٌ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاللَّهُ سَائِلُكَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الْأَنْعَام: 151].
فَلْنَحْذَرْ أَنْ نُضَيِّعَ هَذِهِ الأَمَانَةَ، وَلْنُرَبِّ أَبْنَاءَنَا عَلَى أَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عِبَادَةٌ، وَالْحِرْصَ عَلَى السَّلَامَةِ طَاعَةٌ، وَالابْتِعَادَ عَنِ التَّهَوُّرِ نَجَاةٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
اللهمَّ يا رحيم، يا حفيظ، يا من بيدك الحياة والممات، احفظ نفوسنا بحفظك، وأعنّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.
اللهم احفظ شباب المسلمين من الانتحار، واحفظ أبناءهم من التهور في الطرقات، وأصلح نساءهم وأموالهم وذرياتهم.
المراجع: القرآن الكريم، كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، مسند أحمد، شعب الإيمان للبيهقي، المعجم الكبير للطبراني.
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تفسير ابن كثير، جامع البيان للطبري، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي، شعب الإيمان للبيهقي، الزهد أحمد بن حنبل، سير أعلام النبلاء للذهبي، حلية الأولياء الأصبهاني، التوكل على الله ابن أبي الدنيا. الْمُوَافَقَاتِ، للشَّاطِبِيُّ، المغني لابن قدامة، جامع العلوم والحكم لابن رجب، الْمُسْتَصْفَى للْغَزَالِيُّ، نيل الأوتار للشوكاني، مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَة، تاريخ دمشق لابن عساكر، المجموع للنووي، الْمُوَطَّأ لمالك.
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
–للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف