خطبة الجمعة القادمة : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ، للدكتور أحمد رمضان
بتاريخ 28 صفر 1447هـ ، الموافق 22 أغسطس 2025م

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ، للدكتور أحمد رمضان، بتاريخ 28 صفر 1447هـ ، الموافق 22 أغسطس 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 15 أغسطس 2025م بصيغة word بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ، لـ صوت الدعاة.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 15 أغسطس 2025م بصيغة pdf بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ، لـ صوت الدعاة.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 22 أغسطس 2025م بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَنْهَجُ النَّبِيِّ ﷺ فِي بِنَاءِ التَّفْكِيرِ وَإِثَارَةِ الْعُقُولِ
العُنْصُرُ الثَّانِي: “الْمُؤْمِنُ كَالنَّخْلَةِ: ثَبَاتٌ فِي الأَصْلِ، وَإِثْمَارٌ دَائِمٌ”
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: التَّفَكُّرُ مِفْتَاحُ نُهُوضِ الْعُقُولِ وَإِيقَاظِ الْإِيمَانِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 22 أغسطس 2025م بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها : كما يلي:
إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا
28 صفر 1447هـ – 22 أغسطس 2025م
د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَوَّرَ الْعُقُولَ بِنُورِ الْقُرْآنِ، وَأَحْيَا الْقُلُوبَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِهِ سَبِيلًا لِلإِيمَانِ وَالرُّشْدِ وَالْبَيَانِ.
نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً نَنْجُو بِهَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَأشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَلَّنَا عَلَى طَرِيقِ الْحِكْمَةِ، وَأَحْيَا فِينَا مَلَكَةَ التَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَنْهَجُ النَّبِيِّ ﷺ فِي بِنَاءِ التَّفْكِيرِ وَإِثَارَةِ الْعُقُولِ
أيُّهَا الأَحِبَّةُ، لِنَقِفْ مَعَ مَشْهَدٍ نَبَوِيٍّ بَلِيغٍ يُعَلِّمُنَا كَيْفَ نُثِيرُ الْفِكْرَ وَنُحَرِّكُ الْأَذْهَانَ. قَالَ ﷺ: “إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَأَخْبِرُونِي مَا هِيَ؟» فَتَفَكَّرَ الصَّحَابَةُ فِي أَنْوَاعِ الشَّجَرِ، كُلٌّ يُجِيبُ بِمَا يَعْرِفُهُ، وَظَلَّ ابْنُ عُمَرَ –وَهُوَ شَابٌّ– يَعْلَمُ أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَلَكِنَّهُ يَسْكُتُ حَيَاءً. فَقَالَ ﷺ: «هِيَ النَّخْلَةُ» (رواه البخاري، ح131).
انْظُرُوا كَيْفَ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ سُؤَالٍ وَاحِدٍ مِفْتَاحًا لِلتَّفْكِيرِ، فَلَمْ يُقَدِّمِ الْجَوَابَ مُبَاشَرَةً، وَلَمْ يُلْقِ الْمَعْلُومَةَ إِلْقَاءً جَامِدًا، بَلْ أَشْرَكَ الْعُقُولَ وَحَرَّكَ الْأَفْهَامَ. هَذَا الْأُسْلُوبُ يَزْرَعُ فِي الْقُلُوبِ حُبَّ التَّفَكُّرِ وَيُحَرِّرُ الذِّهْنَ مِنْ جُمُودِ التَّقْلِيدِ.
وَفِي هَذَا الْمَجْلِسِ، تَعَلَّمَ ابْنُ عُمَرَ دَرْسًا عَظِيمًا حِينَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ عُمَرُ: «لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا فِي الْمَجْلِسِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا»، إِشَارَةً إِلَى أَهَمِّيَّةِ الثِّقَةِ وَالْمُبَادَرَةِ فِي الْفِكْرِ.
أيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَكُنْ هَذَا المَنْهَجُ النَّبَوِيُّ مُجَرَّدَ مَجَالِسَ وَاقِعِيَّةٍ، بَلْ كَانَ تَرْبِيَةً عَمِيقَةً تَرْسُمُ مَسَارَ الأُمَّةِ، وَتُثِيرُ الْعُقُولَ وَتُحَرِّكُ الْقُلُوبَ. شَبَّهَ ﷺ الْمُؤْمِنَ بِالنَّخْلَةِ؛ ثَابِتَ الْجُذُورِ فِي إِيمَانِهِ، رَاسِخُ الْقَدَمِ فِي دِينِهِ، يُعْطِي ثِمَارَهُ دَائِمًا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: “أَيْ: إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ وَعَقْلٌ وَاعٍ، أَوْ أَصْغَى بِسَمْعِهِ وَحَضَرَ بِقَلْبِهِ”.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ، هَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْهَجَ النَّبَوِيَّ كَانَ يُحَوِّلُ الْحِوَارَ الْمُبَسَّطَ إِلَى تَرْبِيَةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَيَجْعَلُ مِنَ السُّؤَالِ بَابًا لِإِثَارَةِ الذِّهْنِ وَإِعَادَةِ بِنَاءِ الْمَفَاهِيمِ. وَقَدْ قَالَ ﷺ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» فَنَقَلَهُمْ مِنْ فَهْمٍ مَالِيٍّ ضَيِّقٍ إِلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ بَاهِرَةٍ (مسلم، ح2581).
إِنَّهُ مَنْهَجٌ يَرْبِطُ الْإِيمَانَ بِالتَّفْكِيرِ، وَيَجْعَلُ الْعِلْمَ عِبَادَةً، وَالتَّأَمُّلَ قُرْبَةً. وَمَنْ أَحْيَا فِكْرَهُ عَلَى مِثَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَانَ كَالنَّخْلَةِ: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، يُثْمِرُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً وَعَمَلًا صَالِحًا.
العُنْصُرُ الثَّانِي: “الْمُؤْمِنُ كَالنَّخْلَةِ: ثَبَاتٌ فِي الأَصْلِ، وَإِثْمَارٌ دَائِمٌ”
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، حِينَ شَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ بِالنَّخْلَةِ، فَإِنَّهُ رَسَمَ مَلَامِحَ شَخْصِيَّةٍ فَرِيدَةٍ: ثَابِتَةِ الْأَصْلِ، عَالِيَةِ الْفُرُوعِ، مُمتَدَّةِ الْعَطَاءِ، لَا يَنْقَطِعُ خَيْرُهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. وَمِنْ هُنَا نَسْتَعْرِضُ نَمَاذِجَ عَمَلِيَّةً مِنْ حَيَاةِ السَّلَفِ تُؤَكِّدُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَعِيشُ هَذَا الْمَعْنَى وَاقِعًا.
- ثَبَاتُ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحْتَ الْعَذَابِ
فِي مَكَّةَ، أُخِذَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ– الْعَبْدُ الْحَبَشِيُّ الضَّعِيفُ، فَطُرِحَ عَلَى الرَّمْضَاءِ فِي حَرِّ الْهِجِيرِ، وَوُضِعَ الصَّخْرُ الثَّقِيلُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقِيلَ لَهُ: اكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ، فَأَبَى وَقَالَ: “أَحَدٌ أَحَدٌ، أَحَدٌ أَحَدٌ” (سِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ، ج١، ص٣١٩).
لَمْ تَخْلَعْ حَرَارَةُ الشَّمْسِ جُذُورَ إِيمَانِهِ، وَلَمْ تُزَحْزِحْهُ سِيَاطُ الْكُفْرِ عَنْ يَقِينِهِ، كَانَ كَالنَّخْلَةِ الرَّاسِخَةِ، كُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهَا الرِّيَاحُ ازْدَادَتْ ثَبَاتًا.
هُنَا تَتَجَلَّى صُورَةُ النَّخْلَةِ، فَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ لَا تَقْتَلِعُ جُذُورَهُ الْفِتَنُ، وَلَا تَعْصِفُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، بَلْ يَقِفُ شَامِخًا فِي وَجْهِ الْعَوَاصِفِ، ثَابِتًا عَلَى التَّوْحِيدِ، حَتَّى وَإِنْ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ.
- أَبُو الدَّحْدَاحِ وَالنَّخْلَةُ فِي الْجَنَّةِ
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَشْكُو نَخْلَةً لِرَجُلٍ تُؤْذِي بَيْتَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «بِعْنِي نَخْلَتَكَ هَذِهِ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ»، فَأَبَى صَاحِبُهَا.
فَقَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُعِدُنِي إِنِ اشْتَرَيْتُهَا أَنْ تَكُونَ لِي نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ؟” قَالَ: “نَعَمْ”.
فَذَهَبَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى صَاحِبِ النَّخْلَةِ وَقَالَ: “أَعْطِنِيهَا بِحَدِيقَتِي” – وَكَانَتْ فِيهَا سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ – فَوَافَقَ. فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَأَعْطَاهَا لِلرَّجُلِ الْمُشْتَكِي، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي الدَّحْدَاحِ وَقَالَ: “كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُدَلًّى لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ!» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، ح ١٦٣١).
أَتَرَوْنَ كَيْفَ بَاعَ بُسْتَانًا يُثْمِرُ فِي الدُّنْيَا لِيَشْتَرِيَ بُسْتَانًا فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ ثَمَرُهُ؟ هَكَذَا الْمُؤْمِنُ: عَطَاؤُهُ لَا يَنْضَبُ، يَزْرَعُ فِي الدُّنْيَا لِيَحْصُدَ فِي الْآخِرَةِ، كَالنَّخْلَةِ الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ.
- غَرْسُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَالنَّخِيلُ بِإِشْرَافِ النَّبِيِّ ﷺ
لَمَّا كَاتَبَ سَلْمَانُ سَيِّدَهُ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُ 300 نَخْلَةٍ وَيَدْفَعَ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنَ الذَّهَبِ لِيَفْتَدِيَ نَفْسَهُ، أَعَانَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ. فَجَاءُوا بِالنَّخْلِ، وَغَرَسَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ، فَمَا مِنْ نَخْلَةٍ غَرَسَهَا إِلَّا أَثْمَرَتْ مِنْ عَامِهَا، إِلَّا وَاحِدَةً غَرَسَهَا عُمَرُ، فَلَمْ تُثْمِرْ، فَأَعَادَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ، فَأَثْمَرَتْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، ح ٢٣٤٠٨).
سُبْحَانَ اللَّهِ! كَأَنَّ يَدَ النَّبِيِّ ﷺ لَا تَغْرِسُ إِلَّا الْحَيَاةَ، وَكَأَنَّ النَّخِيلَ تُعَلِّمُنَا أَنَّ الثَّبَاتَ فِي التُّرْبَةِ الصَّالِحَةِ وَالْإِشْرَافَ عَلَى الْمَنْهَجِ النَّبَوِيِّ سِرُّ الْإِثْمَارِ وَالنَّمَاءِ. هَذَا الْمَشْهَدُ يَرْبِطُ بَيْنَ النَّخْلَةِ وَالْمُؤْمِنِ؛ فَكِلَاهُمَا يَنْمُو فِي بِيئَةِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
- عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسُورَةُ الطُّورِ
كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعُسُّ فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ: ﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * … إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطُّورِ: ١ – ٨].
فَلَمَّا سَمِعَهَا وَقَفَ وَقَالَ: “قَسَمٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ حَقٌّ”، ثُمَّ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَأُصِيبَ بِمَرَضٍ شَهْرًا كَامِلًا يَعُودُهُ النَّاسُ، لَا يَدْرُونَ مَا بِهِ (تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ).
هَذِهِ هِيَ النَّخْلَةُ فِي قَلْبِ عُمَرَ! آيَةٌ وَاحِدَةٌ هَزَّتْ كِيَانَهُ، لَكِنَّهَا زَادَتْهُ ثَبَاتًا وَإِقْبَالًا عَلَى اللَّهِ. الْمُؤْمِنُ الْحَقِيقِيُّ يَهْتَزُّ قَلْبُهُ بِالْوَحْيِ، وَلَكِنْ جُذُورُهُ تَبْقَى رَاسِخَةً.
- جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَسُورَةُ الطُّورِ
قَالَ جُبَيْرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –وَكَانَ مُشْرِكًا آنَذَاكَ–: “سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطُّورِ: ٣٥]، فَكَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي” (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ح ٤٨٥٤).
آيَةٌ وَاحِدَةٌ هَزَّتْ كِيَانَ رَجُلٍ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِيمَانِ! هَذَا هُوَ أَثَرُ “غِذَاءِ الْقُلُوبِ” الَّذِي يُثَبِّتُ جُذُورَ الْفِكْرِ وَيَرْوِي شَجَرَةَ التَّوْحِيدِ.
الْمُؤْمِنُ كَالنَّخْلَةِ: أَصْلُهُ ثَابِتٌ فِي الْإِيمَانِ مَهْمَا عَصَفَتْ بِهِ الْفِتَنُ.
الْمُؤْمِنُ كَالنَّخْلَةِ: ثَمَرَتُهُ دَائِمَةٌ؛ يَنْفَعُ بِعِلْمِهِ وَخُلُقِهِ وَعَطَائِهِ.
الْمُؤْمِنُ كَالنَّخْلَةِ: مَظْهَرُهُ بَسِيطٌ لَكِنْ أَثَرُهُ عَظِيمٌ، كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ خَيْرٌ: ظِلُّهَا رَاحَةٌ، ثَمَرُهَا غِذَاءٌ، وَخُوصُهَا بِنَاءٌ.
وَهَكَذَا يُرَبِّي النَّبِيُّ ﷺ الْأُمَّةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهَا حَيًّا يُثْمِرُ، وَفِكْرُهَا ثَابِتًا لَا يَتَسَاقَطُ مَعَ الْعَوَاصِفِ، كَمَا لَا يَتَسَاقَطُ وَرَقُ النَّخْلَةِ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: التَّفَكُّرُ مِفْتَاحُ نُهُوضِ الْعُقُولِ وَإِيقَاظِ الْإِيمَانِ
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي الإِسْلَامِ لَيْسَ تَرَفًا ذِهْنِيًّا، وَلَا انْشِغَالًا فَارِغًا، بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ تُحْيِي الْقُلُوبَ وَتُرْشِدُ الْعُقُولَ. وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبِيلًا لِمَعْرِفَتِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 190-191].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «هَذَا نِدَاءٌ لِصَاحِبِ الْعَقْلِ الْحَيِّ؛ لِيَرَى فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ بَرَاهِينَ الْقُدْرَةِ، فَيَزْدَادَ إِيمَانًا وَيَقِينًا» (تفسير ابن كثير، ج2، ص26).
وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَتْلُو هَذِهِ الآيَاتِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُهَا دُونَ تَدَبُّرٍ، بَلْ يَجْعَلُهَا مِفْتَاحَ بُكَاءٍ وَخُشُوعٍ. رَوَى ابْنُ حِبَّانَ (ح620) أَنَّهُ ﷺ قَامَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَاتِ بِلَيْلٍ، حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ الأَرْضَ، وَقَالَ: «وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا”.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، التَّفَكُّرُ هُوَ الَّذِي رَبَطَ قُلُوبَ الصَّحَابَةِ بِالْوَحْيِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «التَّفَكُّرُ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ» (الزهد لأبي داود، ص191). وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: «إِنَّ فِكْرَةً تُحْيِي الْقَلْبَ أَفْضَلُ مِنْ نَافِلَةِ صَلَاةٍ» (إحياء علوم الدين، ج1، ص220).
وَبِهَذَا التَّفَكُّرِ، كَانَتْ نَهْضَةُ أُمَّتِنَا؛ فَفِي بَيْتِ الْحِكْمَةِ بِبَغْدَادَ وَجَامِعَةِ قُرْطُبَةَ، جَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَالْعَقْلِ، فَأَنْجَبُوا الْخَوَارِزْمِيَّ وَابْنَ الْهَيْثَمِ وَالرَّازِيَّ.
إِنَّنَا بِالتَّفَكُّرِ نُحْيِي الْقَلْبَ وَنُوقِدُ الْعَقْلَ، وَنَجْمَعُ بَيْنَ مَدْرَسَتَيْ الإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
يَا عِبَادَ اللَّهِ، التَّفَكُّرُ فِي الْخَلْقِ وَآيَاتِ اللَّهِ لَيْسَ فَقَطْ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ هُوَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يَبْحَثُ عَنْ نُورٍ يُثَبِّتُ إِيمَانَهُ وَيُرْشِدُهُ فِي حَيَاتِهِ. وَمَنْ لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَقْلِيَّةِ، بَقِيَ فِي دَائِرَةِ التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ.
فَأَحْيُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – فِكْرَكُمْ بِالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَالنَّظَرِ فِي الْكَوْنِ، وَاجْعَلُوا مِنْ كُلِّ آيَةٍ تُتْلَى وَمِنْ كُلِّ مَشْهَدٍ تَرَوْنَهُ جِسْرًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ وَيُثْبِتُ فِي قُلُوبِكُمُ الْإِيمَانَ.
مَنَاهِجُ الْوَحْيِ فِي تَنْشِيطِ الْفِكْرِ وَبِنَاءِ الْعُقُولِ
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ جَعَلَا الْفِكْرَ جِسْرًا بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُقَوِّي الْعِلْمَ. وَإِذَا أَرَدْنَا تَنْشِيطَ الْفِكْرِ وَتَجْدِيدَ الْعُقُولِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ يُقَدِّمُ لَنَا طَرِيقًا وَاضِحًا:
أَوَّلًا: التَّدَبُّرُ فِي الْقُرْآنِ؛ فَهُوَ مَنْبَعُ النُّورِ وَالْحِكْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ بَاكِيًا، مُسْتَحْضِرًا أَنَّهَا خِطَابٌ مِنْ رَبِّهِ.
ثَانِيًا: مُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْحِكْمَةِ؛ فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: «إِنَّ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ تُحْيِي الْقُلُوبَ كَمَا يُحْيِي الْمَطَرُ الْأَرْضَ الْجَرْزَ» (حلية الأولياء، ج2، ص147).
ثَالِثًا: إِثَارَةُ الْعَقْلِ بِالسُّؤَالِ وَالْحِوَارِ، عَلَى مِثَالِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» (مسلم، ح2581)، فَيَنْقُلُهُمْ مِنْ مَقَايِيسِ الدُّنْيَا إِلَى حَقَائِقِ الْآخِرَةِ.
رَابِعًا: التَّفَكُّرُ فِي الْكَوْنِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس: 101]. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: «التَّفَكُّرُ فِي خَلْقِ اللَّهِ يُجَدِّدُ الْإِيمَانَ وَيُعَمِّقُ الْفِكْرَ» (مفتاح دار السعادة، ج1، ص186).
وَإِذَا نَظَرْنَا فِي التَّارِيخِ، رَأَيْنَا كَيْفَ اجْتَمَعَ الْفَقِيهُ وَالطَّبِيبُ وَالْمُهَنْدِسُ فِي بَيْتِ الْحِكْمَةِ وَقُرْطُبَةَ وَالأَزْهَرِ، فَأَنْجَبُوا عُلُومًا أَشْرَقَتْ بِالْوَحْيِ وَالْعَقْلِ مَعًا.
وَلا يَكْتَمِلُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمْكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282]. فَالتَّقْوَى هِيَ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ بَابُ الْحِكْمَةِ.
وَهَكَذَا – يَا عِبَادَ اللَّهِ – يَتَجَدَّدُ الْفِكْرُ، وَتَنْهَضُ الْعُقُولُ، وَتَجْتَمِعُ مَدْرَسَتَا الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ فِي بِنَاءِ أُمَّةٍ مُتَفَقِّهَةٍ فِي دِينِهَا، مُسْتَنِيرَةٍ بِعِلْمِهَا، قَادِرَةٍ عَلَى صِنَاعَةِ الْحَضَارَةِ.
أَفَلَا نَسِيرُ – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – عَلَى خُطَى هَذَا الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ، فَنُرَبِّي فِي أَنْفُسِنَا وَأَبْنَائِنَا عُقُولًا تَنْبُضُ بِالإِيمَانِ وَتَتَأَلَّقُ بِالْحِكْمَةِ؟
أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُسْلِمُونَ، إِنَّ تَنْشِيطَ الْفِكْرِ لَيْسَ تَرَفًا عِلْمِيًّا، وَلَا خِيَارًا ثَقَافِيًّا، بَلْ هُوَ فَرِيضَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَحَاجَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، وَسَبِيلٌ لِنُهُوضِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَهُوَ مَتَى نَبَعَ مِنَ الْوَحْيِ، وَانْطَلَقَ فِي فَلَكِ التَّقْوَى، أَثْمَرَ وَعْيًا، وَحَفِظَ الْأُمَمَ مِنْ شَرِّ الْغُفْلَةِ وَآفَاتِ التَّقْلِيدِ، وَبَنَى لَهَا دَوْلَةَ الْقِيَمِ وَالرُّقِيِّ وَالإِعْمَارِ.
فَلْنُرَبِّ أَبْنَاءَنَا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – عَلَى فِكْرٍ نَقِيٍّ، مَبْنِيٍّ عَلَى مَصَادِرِ الْوَحْيِ، وَمُؤَيَّدٍ بِالتَّفَكُّرِ، وَمُزَكًّى بِالْقُرْبِ مِنَ اللهِ، وَمُقَدَّرٍ فِي سُلُوكِهِ وَمَنْطِقِهِ وَصِلَتِهِ بِالنَّاسِ، وَعِنْدَهَا نَكُونُ قَدْ أَدَّيْنَا أَمَانَةَ التَّفْكِيرِ فِي زَمَنِ التَّشْوِيشِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ قُلُوبًا نَيِّرَةً بِذِكْرِكَ، وَعُقُولًا مُسْتَنِيرَةً بِنُورِ الْوَحْيِ، وَعُيُونًا تُبْصِرُ الْحَقَّ حَقًّا، وَبَصَائِرَ تَهْدِي إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.
اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَزِدْنَا عِلْمًا وَحِلْمًا وَفَهْمًا وَوَعْيًا وَرَشَادًا.
د. أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف