خطبة بعنوان: “الكرم وأثره في التكافل الاجتماعي”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 22 من ربيع الآخر 1438هـ – 20 يناير 2017م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
22 ربيع الثاني 1438هـ – 20 يناير 2017م
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: الكرم بين الجاهلية والإسلام
العنصر الثاني: صور وأشكال الكرم
العنصر الثالث: حاجة الأمة إلى الكرم
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: الكرم بين الجاهلية والإسلام
عباد الله: الكرم من الصفات النبيلة التي اشتهر بها العرب قبل الإسلام؛ والكرم كما عرفه العلماء: إنفاق المال الكثير بسهولة من النّفس فى الأمور الجليلة القدر، الكثيرة النّفع. (تهذيب الأخلاق- ابن مسكويه)
والكرم عادة عربية , وشعبة إيمانية , وخصلة حميدة ، وهو من مكارم الأخلاق ، وجميل الخصال التي تحلَّى بها الأنبياء ، وحثَّ عليها المرسلون ، واتصف بها الأجواد كرام النفوس ، فمَنْ عُرِفَ بالكرم عُرِف بشرف المنزلة ، وعُلُوِّ المكانة ، وانقاد له قومُه ، فما ساد أحد في الجاهلية ولا في الإسلام ، إلا كان من كمال سُؤدده إطعام الطعام ، وإكرام الضيَّف .
ولقد أقر الإسلام صفة الكرم وأمر أهلها بلزومها والثبات عليها؛ فعَنِ السَّائِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جِيءَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ جَاءَ بِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزُهَيْرٌ فَجَعَلُوا يَثْنُونَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَا تُعْلِمُونِي بِهِ قَدْ كَانَ صَاحِبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ. قَالَ: فَقَالَ: يَا سَائِبُ انْظُرْ أَخْلَاقَكَ الَّتِي كُنْتَ تَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاجْعَلْهَا فِي الْإِسْلَامِ؛ أَقْرِ الضَّيْفَ؛ وَأَكْرِمْ الْيَتِيمَ؛ وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ”. ( أحمد بسند صحيح )؛ وعَنْ جَرِيرٍ ، قَالَ: لمَّا بُعِثَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أتيتهُ فقال: يا جريرُ! لأيِّ شيٍء جئتَ؟ قال: جئتُ لأُسْلِمَ على يدَيكَ يا رسولَ اللهِ! قال: فألقى إليَّ كِساءَهُ، ثم أقبلَ على أصحابِهِ، وقال: إذا جاءكم كريمُ قومٍ فأكرموهُ قال جرير: وكان لا يَراني بعد ذلكَ إلا تَبَسَّمَ في وجهِي. (الطبراني والبيهقي واللفظ له)
وممن اشتهر بالكرم من العرب حاتم الطائي ؛ فقد ضرب به المثل في الكرم ؛ كما ضرب بغيره في صفات أخرى؛ فيقال: صبر أيوب؛ وجمال يوسف؛ وحكمة لقمان؛ وكرم حاتم ؛ وحلم الأحنف بن قيس………إلخ
ومما روي في كرم حاتم الطائي: ” أن سأله يوماً رجلٌ فقال: يا حاتم هل غلبك أحدٌ في الكَرَم؟ قال: نعم، غلام يتيم مِن طيئ، نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس مِن الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه. وأصلح مِن لحمه، وقدَّم إليَّ، وكان فيما قدَّم إليَّ الدِّماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيِّبٌ والله. فخرج مِن بين يدي، وجعل يذبح رأسًا رأسًا، ويقدِّم إليَّ الدِّماغ وأنا لا أعلم. فلمَّا خرجت لأرحل نظرت حول بيته دمًا عظيمًا، وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله! تستطيب شيئًا أملكه فأبخل عليك به، إنَّ ذلك لسُبَّة على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوَّضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس مِن الغنم، فقيل أنت إذًا أَكْرَم منه، فقال: بل هو أكرم، لأنَّه جاد بكلِّ ما يملكه، وإنَّما جُدت بقليل مِن كثير”.( المستجاد من فعلات الأجواد- القاضي التنوخي)
ومن كثرة اشتهار حاتم بالكرم؛ فإنه يُكذَّبُ من قال بغير ذلك في حاتم حتى ولو كان صادقاً !! ومن أجمل ما روي في ذلك: أن أعرابيا عرج على دار حاتم الطائي بعد عناء سفر طويل, ملتمسا الراحة والطعام والشراب لما سمعه عنه من كرم ومروءة حاتم, فلما التقاه حاتم سأله بجفاء عن حاجته, فأجابه الأعرابي: والله إني متعب من السفر, وشديد الجوع والعطش, فقصدتك لما سمعت عن كرمك بين العرب. فقال له حاتم متعمدا الجفاء: وهل داري مفتوحة لكل من يقصدني كي يرتاح ويأكل ويشرب؟! فارتبك الأعرابي واحمر وجهه خجلا, وأسرع إلى جواده فامتطاه مطلقا له العنان دون أن ينطق بكلمة؛ فلما ابتعد, تلثم حاتم وامتطى جواده ولحق به, فلما التقاه حياه وقال له: من أين قادم يا أخا العرب؟ فأجابه الأعرابي: من عند حاتم الطائي. فسأله حاتم: وما كانت حاجتك عنده؟! فأجاب: كنت جائعا فأطعمني وعطشانا فسقاني. وعندما كشف حاتم عن وجهه وهو يضحك, سأل الأعرابي: لماذا كذبت علىَّ؟! فأجابه الأعرابي: والله لو قلت غير ذلك لما صدقني أحد من العرب ولقالوا عني مجنونا. فابتسم حاتم وعاد إلى داره مصطحبا معه الأعرابي, فنحر له وأطعمه وأكرمه.
أيها المسلمون: قد يظن البعض أن الكرم منحصرٌ في العرب قبل الإسلام فقط؛ كلا والله؛ فلقد امتزجت هذه المبادئ السامية بقلوب المسلمين فصار منهم فى الجود والكرم والسخاء قمم يتصاغر أمامها كرم حاتم الطائى وعبد الله بن جدعان وأمثالهم؛ وكيف لا وقد كان كرم المؤمنين لله فرفع الله به ذكرهم؛ ونحن نذكر طرفاً من كرمهم نشحذ به الهمم الراكدة؛ كما في عنصرنا الثاني إن شاء الله تعالى.
عباد الله: إن الكرم من الصفات التي يحبها الله – عز وجل – ويحب صاحبها؛ فعَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا” .(الطبراني والحاكم وصححه)؛ ولقد ربى النبي – صلى الله عليه وسلم – صحابته الكرام على صفات الكرم والإيثار والتكافل الاجتماعي؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:” بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ؛ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ. قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ.” (مسلم). قال النَّوويُّ: ” في هذا الحديث: الحثُّ على الصَّدقة والجُود والمواساة والإحسان إلى الرُّفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمرُ كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج، وأنَّه يُكتفى في حاجة المحتاج بتعرُّضه للعطاء وتعريضه مِن غير سؤال”.(شرح النووي)؛ فالكرم أصل الأخلاق والصفات كلها؛ قال بعض الحكماء: ” أصل المحاسن كلِّها الكَرَمُ، وأصل الكَرَم نزاهةُ النَّفس عن الحرام، وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير مِن فروعه”. (المستطرف للأبشيهي)؛ والكرم من صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وقد ذكر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في القرآن بكرمه قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذَّاريات: 24-26]. “قال مجاهد: سمَّاهم (مُكْرَمين) لخدمة إبراهيم إيَّاهم بنفسه” . (تفسير القرطبي) .وقال الرَّازي: ” أُكْرِموا إذ دخلوا، وهذا مِن شأن الكريم أن يُكْرِم ضيفه وقت الدُّخول، فإن قيل: بماذا أُكْرِموا؟ قلنا: ببشاشة الوجه أولًا، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانيًا، وتعجيل القِرَى ثالثًا” . ( مفاتيح الغيب)؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” كان أوَّل مَن أضاف الضَّيف إبراهيم”. ( البيهقي في الشعب بسند حسن) . قال المناويُّ: ” كان يسمَّى أبا الضِّيفان، كان يمشي الميل والميلين في طلب مَن يتغدَّى معه… وفي ((الكشَّاف)): كان لا يتغدَّى إلَّا مع ضيف “. (فيض القدير) .
والكرم عموما وإكرام الضيف خصوصاً من كمال الإيمان وشعبة من شعبه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ” . ( متفق عليه ).
العنصر الثاني: صور وأشكال الكرم
عباد الله: كثير من الناس يعتقد أن الكرم يقتصر على بذل المال فقط؛ وهذا فهم خاطئ قاصر ؛ لأن مفهوم الكرم أعم وأوسع وأشمل من ذلك؛ لأنه يشمل مجالات الحياة المادية والمعنوية ؛ ومن هذه الصور:
الكرم بالمال: ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم مثلنا الأعلى في الكرم بالمال وغيره؛ ومن أجمل صور كرمه صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: «أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ» فَقَالَ أَنَسٌ: «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ( مسلم ).
بل من فرط كرمه وجوده – صلى الله عليه وسلم- أن تمني لو أن جبل أحدٍ ذهبا ينفقه في سبيل الله، فقد جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا تَأْتِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ؛ إِلَّا دِينَارٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ.” ( البخاري ومسلم واللفظ له)؛ قال ابن حجر :” وإنما قيد بالثلاثة لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالبا”.(فتح الباري) فلو كان يستطيع أن يقسم جبل أحد ذهبا في ليلة واحدة لفعل من فرط كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم.
وكان كرمه صلى الله عليه وسلم كرمًا في محلِّه، ينفق المال لله وبالله، إمَّا لفقير، أو محتاج، أو في سبيل الله، أو تأليفًا على الإسلام، أو تشريعًا للأمَّة، وغير ذلك . فما أعظم كرمه وجوده وسخاء نفسه، صلى الله عليه وسلم، وما هذه الصِّفة الحميدة إلَّا جزءٌ مِن مجموع الصِّفات التي اتصف بها حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فلا أبلغ ممَّا وصفه القرآن الكريم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ومنها الكرم في تيسير الزواج: قال الأصمعيُّ: ” حدَّثنا ابن عمران قاضي المدينة، أنَّ طَلْحَة كان يقال له: طَلْحَة الخير، وطَلْحَة الفيَّاض، وطَلْحَة الطَّلَحَات، وأنَّه فدى عشرة مِن أسارى بدر وجاء يمشي بينهم. وقال المدائني: إنَّما سمِّي طَلْحَة بن عبيد الله الخزاعي: طَلْحَة الطَّلَحَات، لأنَّه اشترى مائة غلام وأعتقهم وزوَّجهم، فكلُّ مولود له سمَّاه طلحة”. (عيون الأخبار لابن قتيبة) .
ومنها: الكرم بالمشاعر العاطفية: فهناك الجود بالمشاعر والعاطفة والكلمة الطيبة والابتسامة المشرقة، والبخل بهذه الأشياء من أبشع صور البخل وأقساها وأسوئها أثرًا على العلاقات والنفوس؛ فهناك من البخلاء حين يراك يظل وجهه متصلبًا لا يبش بنظرة ولا يلين بابتسامة، وكأنه يخاف على وجهه أن يتهدم، أو على شفتيه أن تتثلم، وهناك من يعجبه صنيعك وتصرفك ولكنه يشح عليك بكلمة شكر أو تقدير يسعدك بها، وفيهم من يحبك حبًّا حقيقيًّا ولكنه يبخل عليك أن يقر لك بهذا الحب أو يعترف لك بهذه المشاعر!!
ومنها الكرم بالعفو عند القدرة: وهو أن تقابل الإساءة بالإحسان:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فضلت: 34]، فإذا ظلمك أحد أو شاتمك وأنت تقدر على أن تنتقم منه أو تعاقبه ومع ذلك عفوت عنه فأنت – حينئذٍ – كريم؛ وقد ضرب بالأحنف بن قيس المثل في الحلم والكرم بالعفو عند المقدرة؛ وقيل له: كيف وصلت إلى هذه المنزلة؟ فقال: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضّلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه.
ومنها: الكرم مع الأهل والأقارب: فالمسلم يكرم زوجه وأولاده وأقاربه، وذلك بمعاملتهم معاملة حسنة، والإنفاق عليهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ” . (مسلم). ” قال النَّوويُّ: ” في هذا الحديث فوائد، منها: الابتداء في النَّفقة بالمذكور على هذا التَّرتيب. ومنها: أنَّ الحقوق والفضائل إذا تزاحمت، قُدِّم الأوكد فالأوكد. ومنها: أنَّ الأفضل في صدقة التَّطوع أن ينوِّعها في جهات الخير ووجوه البرِّ بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهةٍ بعينها”
ومنها الكرم في باب العلم والمعرفة: وفي هذا المجال مَن يحبُّون العطاء، وفيه بخلاء ممسكون ضنينون، والمعطاء في هذا المجال هو الذي لا يدَّخر عنده علمًا ولا معرفة عمَّن يُحْسِن الانتفاع بذلك، والبخيل هو الذي يحتفظ بمعارفه وعلومه لنفسه، فلا ينفق منها لمستحقِّيها، ضنًّا بها ورغبةً بالاستئثار. ولقد ضرب بابن عباس المثل في العلم والحكمة؛ حتى سمي بحبر الأمة وترجمان القرآن؛ قال عطاء: ” ما رأيت مجلسًا قطُّ أَكْرَم مِن مجلس ابن عبَّاس، أكثر فقهًا، وأعظم جَفْنَةً، إنَّ أصحاب القرآن عنده، وأصحاب النَّحو عنده، وأصحاب الشِّعر، وأصحاب الفقه، يسألونه كلُّهم، يصدرهم في وادٍ واسعٍ”. ( ابن المبارك في الزهد وأبو نعيم في الحلية).
ومنها الكرم بالنَّصيحة: فالإنسان الجَوَاد، كريم النَّفس، لا يبخل على أخيه الإنسان بأيِّ نصيحةٍ تنفعه في دينه أو دنياه، بل يعطيه نُصْحَه الذي ينفعه مبتغيًا به وجه الله تعالى؛ وهذا أصل عظيم من أصول ديننا الحنيف؛ فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ”. قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: ” لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ”. ( مسلم )
ومنها الكرم في مساعدة المحتاجين والضعفاء: فقد روى أن عبيد الله بن أبي بكرة دخل على الحجاج مرة وفي يده خاتم فقال له الحجاج: وكم ختمت بخاتمك هذا ؟ قال على أربعين ألف ألف دينار، قال ففيم أنفقتها ؟ قال: في اصطناع المعروف، ورد الملهوف؛ والمكافأة بالصناع؛ وتزويج العقائل.
وقد ذكروا أن علي بن الحسين كان كثير الصدقة بالليل، وكان يقول صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنور القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة، وقاسم الله تعالى ماله مرتين. قال محمد بن إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم؟!! فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به؛ ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل. وقيل إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات. ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده ؛فبكى ابن أسامة؛ فقال له ما يبكيك ؟ قال: عليَّ دين، قال: وكم هو ؟ قال خمسة عشر ألف دينار – وفي رواية سبعة عشر ألف دينار – فقال: هي علي !!” ( البداية والنهاية لابن كثير )
ومنها الكرم في سداد الدين: فقد مَرِض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له: إنَّهم يستحيون ممَّا لك عليهم مِن الدَّيْن، فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان مِن الزِّيارة، ثمَّ أمر مناديًا فنادى: مَن كان عليه لقيس بن سعد حقٌّ فهو منه بريء، قال فانكسرت درجته بالعشي لكثرة مَن زاره وعاده. وروي أن مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً وكان على أخيه خثيمة دين قال: فذهب مسروق فقضى دين خثيمة وهو لا يعلم؛ وذهب خثيمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم”. ( إحياء علوم الدين )
ومنها: الكرم مع الخصاصة والحاجة والفقر: “قال الأصمعيُّ: قصدتُ في بعض الأيامِ رجلاً كنتُ أغشاهُ لكرمهِ؛ فوجدتُ على بابهِ بوَّابًا؛ فمنعني من الدخول إليه! ثم قال: واللهِ! يا أصمعيُّ؛ ما أوقفني على بابِهِ لأمنعَ مثلكَ؛ إلاَّ لرقةِ حالِهِ، وقصورِ يدِهِ! فكتبتُ رقعةً فيها:
إذا كانَ الكريمُ لهُ حجابٌ …………. فما فضلُ الكريمِ على اللَّئيمِ؟!
ثم قلتُ لهُ: “أوصلْ رقعتي إليه”. ففعلَ، وعادَ بالرقعةِ، وقد وقَّعَ على ظهرِها:
إذا كانَ الكريمُ قليلَ مالٍ ………….. تَحَجَّبَ بالحجابِ عن الغريمِ!
ومعَ الرّقعةِ صرةٌ فيها خمسمائةِ دينارٍ! فقلتُ: “والله! لأتحفنَّ المأمونَ بهذا الخبرِ! فلما رآني قالَ: من أينَ يا أصمعيُّ؟! قلتُ: “من عندِ رجلٍ من أكرمِ الأحياءِ؛ حاشا أمير المؤمنين”! قالَ: ومن هو؟ فدفعتُ إليه الورقةَ والصّرّة، وأعدتُ عليه الخبرَ. فلما رأى الصّرّة قالَ: هذا من بيتِ مالي! ولا بدَّ لي من الرَّجُلِ! فقلتُ: “والله! يا أميرَ المؤمنين، إني أستحْيي أن تروعَهُ برُسُلكِ”! فقالَ لبعض ِخاصَّتِهِ: امضِ مع الأصمعيِّ؛ فإذا أراكَ الرَّجُلَ؛ فقلْ له: أجبْ أميرَ المؤمنينَ، من غيرِ إزعاجٍ! فلما حضرَ الرَّجُلُ بينَ يدي المأمونِ؛ قالَ لهُ: أنتَ الذي وقَّعْتَ لنا بالأمسِ، وشكوتَ رقّةَ الحالِ، وأنَّ الزمانَ قد أناخَ عليكَ بكَلْكَلِهِ، فدفعْنَا إليكَ هذه الصّرّة لتصلحَ بها حالَكَ، فقصدَك الأصمعيُّ ببيتٍ واحدٍ؛ فدفعتَها إليه؟؟! فقالَ: نعمْ يا أمير المؤمنين! واللهِ! ما كذبتُ فيما شكوتُ لأميرِ المؤمنين من رقّةِ الحالِ؛ لكني استحْيَيْتُ من اللهِ تعالى أن أُعيدَ قاصدي إلا كما أعادَني أميرُ المؤمنين! فقال له المأمون: لَلَّهِ أنتَ؟!! فما ولدت العربُ أكرمَ منكَ*!” اهـ
ومنها كرم الضيفان وإطعام الطعام: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنِّي مَجْهُودٌ ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ، فَقَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى ، فَقَالَتْ : مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ، فَقَالَ : ” مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؟ ” ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ ، قَالَتْ : لَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي ، قَالَ : فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئْ السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ ، قَالَ : فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ” قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ ” . (مسلم)
وقال المدائني: ” أوَّل مَن سنَّ القِرَى إبراهيم الخليل عليه السَّلام. وأوَّل مَن هشم الثَّريد هاشمٌ. وأوَّل مَن فطَّر جيرانه على طعامه في الإسلام عبيد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما، وهو أوَّل مَن وضع موائده على الطَّريق، وكان إذا خرج مِن بيته طعامٌ لا يعاود منه شيءٌ، فإن لم يجد مَن يأكله تركه على الطَّريق”. (غذاء الألباب- للسفاريني) . ” وذُكر أنَّ عبيد الله بن العبَّاس أتاه سائل وهو لا يعرفه، فقال له: تصدَّق عليَّ بشيءٍ، فإنِّي نُبِّـئت أنَّ عبيد الله بن العبَّاس أعطى سائلًا ألف درهم واعتذر إليه، فقال: وأين أنا مِن عبيد الله فقال: أين أنت منه في الحسب أم في الكَرَم؟ قال: فيهما جميعًا، قال: أمَّا الحسب في الرَّجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلتَ، وإذا فعلت كنت حسيبًا. فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه مِن ضيق نفقته. فقال له السَّائل: إن لم تكن عبيد الله بن العبَّاس فأنت خير منه، وإن كنت إيَّاه فأنت اليوم خير منك أمس، فأعطاه ألفًا أخرى، فقال له السَّائل: هذه هزَّة كريم حسيب”. ( المستجاد من فعلات الأجواد- القاضي التنوخي).. ” وأراد رجل أن يضع عبيد الله بن عباس في حرج فدعا الناس إلى وليمة دون علم عبيد الله؛ ولكنه كان أهلاً لها. ” فعن أبان بن عثمان قال: أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عبَّاس، فأتى وجوه قريش فقال: يقول لكم عبيد الله: تغدوا عندي اليوم، فأتوه حتى ملئوا عليه الدَّار، فقال: ما هذا؟ فأُخْبِر الخبر، فأمر عبيد الله بشراء فاكهة، وأمر قومًا فطبخوا وخبزوا، وقدِّمت الفاكهة إليهم، فلم يفرغوا منها حتى وُضِعَت الموائد، فأكلوا حتى صدروا، فقال عبيد الله لوُكَلَائه: أَوَ موجود لنا هذا كلَّ يومٍ؟ قالوا: نعم، قال فليتغدَّ عندنا هؤلاء في كلِّ يوم”. ( الإحياء للغزالي ).
ومنها: الكرم والعطاء مِن طاقات الجسد وقواه: فالجواد يعطي من معونته وخدماته وجهده، فيعين الرَّجل في دابَّته فيحمله عليها أو يحمل له عليها، ويميط الأذى عن طريق النَّاس وعن المرافق العامَّة، ويأخذ بيد العاجز حتى يجتاز به إلى مكان سلامته، ويمشي في مصالح النَّاس، ويتعب في مساعدتهم، ويسهر مِن أجل معونتهم، ومِن أجل خدمتهم، وهكذا إلى سائر صور العطاء مِن الجسد؛ ويرتقي العطاء حتى يصل إلى مستوى التَّضحية بالحياة كلِّها، كالمجاهد المقاتل في سبيل الله، يجود بحياته؛ لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ابتغاء مرضاة ربِّه.
وبالجملة: فإن الكرم يشمل جميع الخدمات التي يمكن أن تقدمها للآخرين سواء كانت مادية أو معنوية .
العنصر الثالث: حاجة الأمة إلى الكرم
عباد الله: اعلموا أن الكرم طريق السعادة؛ وعلماء النفس يرون أن من أراد السعادة فعليه أن يبذل وأن يعطي، وهذا يسمونه صيدلية القلوب؛ أي أن تبذل من طعامك ودراهمك ومن أخلاقك، فيشفيك الله -عز وجل- من مرض القلق والاضطراب والهم والغم والحزن، وهذا أمر مجرب. بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف المنفق الذي كلما أعطى وأنفق يتوسع عليه درعه حتى تنزل على جسمه، وأما البخيل فإنه كلما أمسك ضاق عليه الدرع حتى يكاد يختنق. قال الماورديُّ رحمه الله تعالى: اعلم أنَّ الكريم يجتزي بالكرامة واللُّطف، واللَّئيم يجتزي بالمهانة والعنف، فلا يجود إلَّا خوفًا، ولا يجيب إلَّا عنفًا، فاحذر أن تكون المهانة طريقًا إلى اجتدائك ، والخوف سبيلًا إلى عطائك، فيجري عليك سفه الطَّغام ، وامتهان اللِّئام، وليكن جودك كرمًا ورغبة، لا لؤمًا ورهبة”. ( أدب الدنيا والدين )
فالكريم مَن كان مسرورًا ببذله، متبـرِّعًا بعطائه، لا يلتمس عرض دنياه فيحْبَطُ عملُه، ولا طلب مكافأة فيسقط شكرُه، ولا يكون مَثَلُه فيما أعطى مَثَلُ الصَّائد الذي يلقي الحَبَّ للطَّائر، ولا يريد نفعها ولكن نَفْعَ نفسه.
أحبتي في الله: عليكم بالكرم بكل صوره وأشكاله السابق ذكرها ولا سيما في تيسير الزواج. فقد روي أن أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي وكان جوادا كريما ممدحا، حكى أنه رأى يوما شابا على باب داره جالسا فسأله عن قعوده على بابه؟ فقال: حاجة لا أستطيع ذكرها، فألح عليه فقال: جارية رأيتها دخلت هذه الدار لم أر أحسن منها وقد خطفت قلبي معها، فأخذ بيده وأدخله داره وعرض عليه كل جارية عنده حتى مرت تلك الجارية فقال: هذه، فقال له: اخرج فاجلس على الباب مكانك، فخرج الشاب فجلس مكانه، ثم خرج إليه بعد ساعة والجارية معه قد ألبسها أنواع الحلى، وقال له: ما منعني أن أدفعها إليك وأنت داخل الدار إلا أن الجارية كانت لأختي، وكانت ضنينة بها، فاشتريتها لك منها بثلاثة آلاف، وألبستها هذا الحلى، فهي لك بما عليها، فأخذها الشاب وانصرف!!
فقد ساعد ابن خارجة هذا الشاب على عفاف نفسه في الحلال ؛ وطبعا الحديث في صحيح مسلم ” وفي بضع أحدكم صدقة ” . والدال على الخير كفاعله ؛ ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها؛ فهذا الرجل الذي ساعد الشاب يكون له مثل أجر الشاب في كل معاشرة زوجية؛ لأنه ساعده على أن يسلك طريق الحلال !! وهذه رسالة لأرباب الأموال أن ينحو نحوه !!
عباد الله: ألا فطهروا أنفسكم من الشح والبخل؛ لأن البخل من الصفات الذميمة والخصال الدميمة التي تمجها الطباع والنفوس السليمة؛ فالبخيل ممقوت عند الناس؛ ينصرف عنه أفراد المجتمع في تعامله وبيعه وشرائه؛ فضلاً عن بخل ضيافته وعدم مصاهرته؛ ومن أشهر ما روي في ذلك : أن شكا المحلق -أحد البخلاء- إلى زوجته عدم طلب الناس للزواج من ابنتيه، فقالت له -وكانت عاقلة-: لأنك بخيل، والناس ينفرون من البخلاء. قال: ما الحل؟! قالت له: ادع الأعشى وانحر له ناقة وأطعمه وأكرمه، فإنك إذا فعلت ذلك مدحك بالكرم وتزوج الناس بناتك، وبالفعل فعل ما طلبته منه زوجته وأكرم الأعشى وذبح له وأطعمه، ولما خرج الأعشى من عنده مدحه بقصيدة، وانتشرت القصيدة وتزوج الناس بناته في تلك السنة. (العقد الفريد)
فاتقوا الله عباد الله تُرزقوا الكرم؛ فلا يُنال الكرم إلا بتقوى الله تعالى. قال ابن حجر- رحمه الله -: «لا يقال للرّجل كريم حتّى يظهر ذلك منه، ولمّا كان أكرم الأفعال ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرفها ما يقصد به وجه الله تعالى، وإنّما يحصل ذلك من المتّقي. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} وكلّ فائق في بابه يقال له كريم».( فتح الباري)
أيها المسلمون: ما أحوج الأمة في الظروف الراهنة إلى الكرم والسخاء؛ فالكرم له أثره الفعال على الفرد والمجتمع؛ فالكريم محبوبٌ مِن الخالق الكريم، وقريبٌ مِن الخَلْق أجمعين؛ والكرم يبعث على التَّكافل الاجتماعي والتَّواد بين النَّاس؛ ويساعد في حلُّ مشكلة حاجات ذوي الحاجات مِن أفراد المجتمع الواحد؛ كما أن الكرم يولِّد في الفرد شعورًا بأنَّه جزء مِن الجماعة، وليس فردًا منعزلًا عنهم إلَّا في حدود مصالحه ومسؤولياته الشَّخصيَّة؛ كما أن الكرم يزكِّي الأنفس ويطهرها مِن رذائل الأنانيَّة المقيتة، والشُّح الذَّميم؛ ويعمل على إقامة سدٍّ واقٍ يمنع الأنفس من سيطرة حبِّ التَّملُّك والأثرة.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الكرم؛ وأن يطهرنا من الشح والبخل ؛ وأن يرفع عنا الغلاء والوباء والفتن ما ظهر منها وما بطن؛؛؛
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي