خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير
بتاريخ 23 محرم 1447هـ ، الموافق 18 يوليو 2025م

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 23 محرم 1447هـ ، الموافق 18 يوليو 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة اليوم لصوت الدعاة 18 يوليو 2025 بصيغة word بعنوان: الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ إعداد رئيس التحرير ، بصيغة word
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة لصوت الدعاة 18 يوليو 2025 بصيغة pdf بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ إعداد رئيس التحرير pdf
عناصر خطبة الجمعة القادمة 18 يوليو 2025 بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير ، كما يلي:
العُنْصُرُ الْأَوَّلُ: مَعْنَى الاِتِّحَادِ وَقِيمَتُهُ فِي الشَّرِيعَةِ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: نَمَاذِجُ نَبَوِيَّةٌ فِي فَضْلِ الاِتِّحَادِ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: أَثَرُ الاِتِّحَادِ فِي نُهُوضِ الأُمَمِ وَقُوَّةِ الدُّوَلِ.
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: دَعْوَةٌ لِتَجْدِيدِ وَحْدَتِنَا وَكَسْرِ جُدْرَانِ الْخِلَافِ.
العنصر الخامس: الخطبة الثانية: التَّحْذِيرُ مِنَ العُنْفِ الأُسْرِيِّ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 18 يوليو 2025 بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير، كما يلي:
الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ
23 محرم 1447هـ – 18 يوليو 2025م
إعداد رئيس التحرير: د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْوَحْدَةَ أَصْلًا وَالْفُرْقَةَ شَذُوذًا، وَأَمَرَ بِالاِجْتِمَاعِ عَلَى الْحَقِّ، وَنَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَشَهِدَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِذَا اتَّحَدَتْ نَصَرَهَا، وَإِذَا تَشَتَّتَتْ خَذَلَهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، جَمَعَ بِهِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَصَفَّى بِهِ النُّفُوسَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَمَعَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ شَمْلَ الْأُمَّةِ، وَوَحَّدَ بِهِ الصُّفُوفَ، وَكَسَرَ بِهِ أَصْنَامَ التَّعَصُّبِ وَالْحِزْبِيَّةِ وَالتَّفَرُّقِ..
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ وَنَفْسِيَ الْـمُقَصِّرَةَ الْـخَاطِئَةَ، بِتَقْوَى اللهِ، فَبِهَا تَجْتَمِعُ الْقُلُوبُ، وَتَتَلَأْلَأُ الْأَرْوَاحُ، وَيَعُمُّ الْخَيْرُ، وَيَسُودُ الْأَمْنُ، وَتَتَحَقَّقُ الْـمَحَبَّةُ وَالْأُلْفَةُ.
عناصر الخطبة:
العُنْصُرُ الْأَوَّلُ: مَعْنَى الاِتِّحَادِ وَقِيمَتُهُ فِي الشَّرِيعَةِ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: نَمَاذِجُ نَبَوِيَّةٌ فِي فَضْلِ الاِتِّحَادِ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: أَثَرُ الاِتِّحَادِ فِي نُهُوضِ الأُمَمِ وَقُوَّةِ الدُّوَلِ.
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: دَعْوَةٌ لِتَجْدِيدِ وَحْدَتِنَا وَكَسْرِ جُدْرَانِ الْخِلَافِ.
العنصر الخامس: الخطبة الثانية: التَّحْذِيرُ مِنَ العُنْفِ الأُسْرِيِّ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّ الْأُمَمَ لَا تَقُومُ إِلَّا بِاتِّحَادِهَا، وَلَا تَرْتَقِي إِلَّا بِوَحْدَتِهَا، وَلَا تَرْتَفِعُ فِي سُلَّمِ الْعِزِّ إِلَّا إِذَا جَمَعَتْ كَلِمَتَهَا، وَصَفَّتْ صُفُوفَهَا، وَضَرَبَتْ بِالْـخِلَافِ وَالتَّشَتُّتِ عُرْضَ الْـحَائِطِ.
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير
العُنْصُرُ الْأَوَّلُ: مَعْنَى الاِتِّحَادِ وَقِيمَتُهُ فِي الشَّرِيعَةِ
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، لَيْسَ الاِتِّحَادُ مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ تُرَدَّدُ، وَلَا شِعَارًا يُرْفَعُ، بَلْ هُوَ عَقِيدَةٌ، وَمَنْهَجٌ، وَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَفَرِيضَةٌ يُثَابُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا إِذَا قَامَ بِهَا، وَيَأْثَمُ إِذَا نَقَضَهَا أَوْ تَسَبَّبَ فِي زَعْزَعَتِهَا.
قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92] ، وَقَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْـمَحَبَّةِ وَالْوَحْدَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ وَالتَّشَتُّتِ.
ففِي الْآيَةِ أَمْرٌ صَرِيحٌ بِالِاتِّحَادِ، بأن لَا نكون فُرَادَى وَلَا مَجْزُوئِينَ، بَلْ قَالَ: “جَمِيعًا”، وَمَعْنَى “حَبْلِ الله” فِي أَقْوَالِ السَّلَفِ: كِتَابُهُ، وَدِينُهُ، وَطَاعَتُهُ، وَالْجَمَاعَةُ الَّتِي عَلَى الْحَقِّ.
فَكُلُّهَا تَجْتَمِعُ عَلَى وَحدة الْمَرْجِعِ، وَوُجُوبِ الِارْتِبَاطِ بِالْوَحْيَيْنِ، وَنَبْذِ كُلِّ هَوًى يُفَرِّقُ.
وَلَقَدْ وَقَعَتْ قِصَّةٌ تَأْرِيخِيَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ تُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَفِي “السِّيرَةِ” يُرْوَى أَنَّ «شَاسَ بْنَ قَيْسٍ» الْيَهُودِيَّ مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَدَاوَةِ، فَقَالَ: مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا مِنْ قَرَارٍ، ثُمَّ أَمَرَ شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَيْهِمْ، وَيُذَكِّرَهُمْ يَوْمَ «بُعَاثٍ»، وَيُنْشِدَهُمْ بَعْضَ مَا قِيلَ فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ – وَكَانَ يَوْمًا اقْتَتَلَ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ – فَفَعَلَ، فَتَنَازَعَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَتَفَاخَرُوا، وَتَغَاضَبُوا، وَقَالُوا: السِّلَاحَ السِّلَاحَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَلَّفَ بَيْنَكُمْ؟»، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا كَانَتْ نَزْعَةً مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدًا مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَأَلْقَوْا السِّلَاحَ، وَبَكَوْا، وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}… الآيَةَ. المصدر: تفسير الطبري (٥/٦٢٧).
وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الْمَعْنَى الْعَظِيمَ لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، وكان يُرغب في الجماعة…. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 408 – 409)
رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي “صَحِيحِهِ” أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا”، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَمَا أَبْلَغَهُ مِنْ تَصْوِيرٍ، وَمَا أَعْجَبَهُ مِنْ تَشْبِيهٍ!
فِي هَذَا الْـحَدِيثِ الْـجَلِيلِ يُصَوِّرُ النَّبِيُّ ﷺ حَالَ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَعَاوُنِهِمْ وَتَكَاتُفِهِمْ بِصُورَةٍ بَلِيغَةٍ مَلِيئَةٍ بِالْمَعَانِي.
فَتَشْبِيهُهُمْ بِالْبُنْيَانِ:
يُشِيرُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي الْأُمَّةِ لَهُ دَوْرٌ وَظِيفِيٌّ، كَحَجَرٍ فِي جِدَارٍ، لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَا يُسْتَقَلُّ بِهِ. فَإِذَا غَابَ دَوْرُهُ، خَلَّفَ فُرْجَةً، وَضَعُفَ الْـبِنَاءُ.
وَقَوْلُهُ: “يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا”:
فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْـمُؤْمِنَ يُقَوِّي أَخَاهُ، وَيَعِينُهُ، وَيُسَانِدُهُ فِي الْـمَحَنِ وَالْمُلِمَّاتِ، كَمَا تُسَانِدُ الْـحِجَارَةُ بَعْضَهَا فِي الْـبِنَاءِ، فَلَا يَمِيلُ جَانِبٌ إِلَّا وَسَانَدَهُ الْآخَرُ.
وَفِعْلُهُ ﷺ – حِينَ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ –:
صُورَةٌ حِسِّيَّةٌ تُجَسِّدُ الْـمَعْنَى الْـمَقْصُودَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ:
أَصَابِعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْـمَكَانِ، مُتَنَوِّعَةٌ فِي الشَّكْلِ، وَلَكِنَّهَا تَجْتَمِعُ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَتَفَكَّكُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهَا عَنِ الْـبَقِيَّةِ.
إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَزَالُ فِي خَيْرٍ مَا دَامَتْ قَلْبًا وَاحِدًا، وَكَلِمَةً وَاحِدَةً، تَتَفَاعَلُ فِيهَا الْقُوَى، وَتَنْصَهِرُ فِيهَا الْـمَصَالِحُ، وَتَتَحَدَّدُ فِيهَا الْأَهْدَافُ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير
العُنْصُرُ الثَّانِي: نَمَاذِجُ نَبَوِيَّةٌ فِي فَضْلِ الاِتِّحَادِ
أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ، إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَتَدَبَّرَ فِي حَيَاتِهِ وَمَنَاهِجِهِ، رَآهَا مَزَارِعَ لِرُوحِ الْوَحْدَةِ، وَمَعَاقِلَ لِمَعَانِي الْـمَحَبَّةِ وَالْـمُؤَاخَاةِ، فَكُلُّ خُطُوَاتِهِ ﷺ كَانَتْ تَبْنِي أُمَّةً وَاحِدَةً، لَا تَفْرِقُهَا الْأَلْوَانُ، وَلَا تُمَزِّقُهَا الْأَنْسَابُ، وَلَا تُفَكِّكُهَا الْـمَصَالِحُ الضَّيِّقَةُ.، فَعِنْدَمَا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْـمَدِينَةَ، لَمْ يَبْنِ الْـمَسْجِدَ فَقَطْ، بَلْ بَنَى الْـمَجْتَمَعَ الْوَاحِدَ وَالْأُمَّةَ الواحدة فَآخَى بَيْنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَالَ: “تَآخَوْا فِي اللهِ أَخَوَيْنِ”. [السيرة لابن هشام والتاريخ الكبير لابن أبي خيثمة] فَكَانَتْ هَذِهِ الْـمُؤَاخَاةُ مِنْ أَعْظَمِ الْوُثُقِ الَّتِي رَبَطَتْ بَيْنَ الْقُلُوبِ، وَأَذَابَتْ مَا كَانَ مِنْ خِلَافٍ وَعَصَبِيَّة
وَرَوَى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ “، فَكَانَ السَّلَامُ فِي دَوْلَتِهِ ﷺ نَافِذَةً لِلْوَصْلِ، وَرَابِطًا لِلْأَخُوَّةِ، وَمِفْتَاحًا لِلاِتِّحَادِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ، إِنَّ حَيَاةَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ نَمُوذَجًا رَائِعًا لِكَيْفِيَّةِ بِنَاءِ الْوَحْدَةِ وَتَثْبِيتِهَا فَقَدْ حَارَبَ كُلَّ مَا يُفَكِّكُ الْـمَجْتَمَعَ، وَقَضَى عَلَى الْعَصَبِيَّاتِ الْـجَاهِلِيَّةِ، وَأَذَابَ الْـفُرْقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَأَسَّسَ لِـمُجْتَمَعٍ يُقَدِّرُ الْإِنسَانَ لِإِيمَانِهِ، لَا لِنَسَبِهِ وَلَا لِلَوْنِهِ وَلَا لِقَبِيلَتِهِ.
فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، خَطَبَ خُطْبَتَهُ الْـمَشْهُورَةَ، وَقَالَ فِيهَا: “أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِأَعْجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى” [رواه أحمد بإسناد صحيح]، فَذَوَّبَ فَوَارِقَ اللَّوْنِ وَالْقَوْمِيَّةِ، وَجَعَلَ الْوَحْدَةَ فَوْقَ الْعِرْقِ وَالْلِّسَانِ.
وَفِي فَتْحِ مَكَّةَ، حِينَ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَالْـمُسْلِمُونَ فِي أَعْظَمِ نَصْرٍ، لَمْ يَكُنْ هَمُّهُ الِانْتِقَامَ وَلَا التَّشَفِّي، بَلْ قَالَ لِقُرَيْشٍ وَقَدْ اجْتَمَعُوا: “اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاء” [السيرة لابْن هِشَام]، فَبِالْـعَفْوِ وَالْـحِلْمِ َمَعَ شَمْلَهُمْ، وَبِالْـمَحَبَّةِ بَنَى وَحْدَتَهُمْ.
فَإِذَا أَرَدْنَا الْـوَحْدَةَ، فَلْنَقْرَأْ سِيرَتَهُ ﷺ، وَلْنَسْلُكْ دَرْبَهُ، وَلْنَقْتَدِ بِهِ فِي إِذَابَةِ الْـخِلَافِ، وَإِحْيَاءِ الْـحِوَارِ، وَتَأْسِيسِ الْـمَحَبَّةِ..
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: أَثَرُ الاِتِّحَادِ فِي نُهُوضِ الأُمَمِ وَقُوَّةِ الدُّوَلِ.
إِخْوَتِي الْـكِرَامَ، إِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَنَى الْوَحْدَةَ فِي نُفُوسِ أَصْحَابِهِ، وَأَسَّسَ لَهَا فِي سُلوكِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ أَرَادَهَا ﷺ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارَ النُّهُوضِ، وَبِنَايَةَ الْأُمَمِ، وَقَاعِدَةَ التَّمْكِينِ. فَالْوَحْدَةُ لَيْسَتْ شِعَارًا فَقَطْ، بَلْ هِيَ سُلَّمُ النَّجَاةِ، وَمِفْتَاحُ الْـمَجْدِ، وَذَلِكَ مَا شَهِدَتْ بِهِ التَّارِيخُ، وَقَرَّرَهُ الْوَحْيُ الْـمُنَزَّلُ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَصْوِيرٌ دَقِيقٌ لِأَثَرِ الْفُرْقَةِ فِي إضْعَافِ الْأُمَمِ، فَـ”الرِّيحُ” هُنَا هِيَ الْقُوَّةُ وَالْهَيْبَةُ وَالْـمَنَعَةُ، فَإِذَا افْتَرَقَ الْـمُجْتَمَعُ، ذَهَبَ نَصِيبُهُ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَصْبَحَ صَيْدًا سَهْلًا لِلْأَعَادِي.
وَمَا أَجْمَلَ مَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْـخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حِينَ أَدْرَكَ حَقِيقَةَ الْعِزَّةِ:
“إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهُ” [الحاكم في المستدرك وقال: على صحيح شرط الشيخين].
فَكَيْفَ لَا نَرَاهُ يُوَجِّهُ جُيُوشَ الْفُتُوحِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، وَيَضَعُ قَاعِدَةَ الدَّوْلَةِ عَلَى مِحْوَرِ الْوَحْدَةِ، بِلَا مَجَالٍ لِـفِرْقَةٍ، أَوْ تَشَتُّتٍ.
تَأَمَّلُوا مَعِي، يَا من يرَحِمَكُمُ اللهُ، مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، حِينَ تَفَاخَرَتْ بَعْضُ الْـقَبَائِلِ بِعَدَدِهَا، وَأَعْجَبَهُمْ كَثْرَتُهُمْ، فَانْهَزَمُوا فِي الْـبَدْءِ، حَتَّى نَادَى النَّبِيُّ ﷺ: “يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ”، فَثَابُوا إِلَيْهِ، وَانْتَظَمَ الصَّفُّ، فَكَانَ النَّصْرُ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْـهَزِيمَةُ. [انظر صحيح البخاري 4333].
فَبِالاِجْتِمَاعِ وَالاِتِّحَادِ عَادَتِ الْقُوَّةُ، وَبِالْتَّفَرُّقِ كَانَ الْـخَذَلَانُ.
قَالَ الْـحَسَنُ الْـبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: لَا خَيْرَ فِي قَوْمٍ لَا يَتَنَاصَحُونَ، وَلَا خَيْرَ فِي نَصِيحَةٍ لَا تُرَادُ بِهَا الْـوَحْدَةُ.
وَفِي رِسَالَةِ الْـمُسْتَرْشِدِينَ لِلْحَارِثِ الْـمُحَاسِبِيِّ صَفْحَةَ ٧١، لِعُمَرَ بْنِ الْـخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِاللَّفْظِ: «لَا خَيْرَ فِي قَوْمٍ لَيْسُوا بِنَاصِحِينَ، وَلَا خَيْرَ فِي قَوْمٍ لَا يُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ».
فَالِاتِّحَادُ يَبْنِي، وَالتَّفَرُّقُ يَهْدِمُ، وَالْجَمَاعَةُ تَصْنَعُ الْـمَجْدَ، وَالْفُرْقَةُ تَجْلِبُ الذُّلَّ وَالْـهَوَانَ.
قَالَ الْـمَاوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “إِذَا تَفَرَّقَتِ الْـآرَاءُ ضَعُفَتِ الدُّوَلُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ قَوِيَ الْبِنَاءُ”.
وَقَالَ بَعْضُ الْـحُكَمَاءِ: “إِنَّ حَصَاةً وَاحِدَةً لَا تَصْنَعُ سَدًّا، وَلَكِنَّ الْـحِصَاةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ بَنَتْ جِدَارًا يُحْتَرَمُ”.
وفِي عَهْدِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ، لَمْ يَكُنْ أَوَّلَ خُطُوَاتِهِ نَحْوَ تَحْرِيرِ الْقُدْسِ هُوَ الْـجِهَادُ، بَلْ كَانَ جَمْعَ شَمْلِ الْـمُسْلِمِينَ، وَتَوْحِيدَ الْجُبْهَةِ، وَكَبْتَ الْـفِتَنِ. فَلَمَّا تَآلَفَتِ الْـقُلُوبُ، وَانْصَهَرَتِ الْـقَبَائِلُ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، كَانَ النَّصْرُ فِي “حِطِّين”، وَرُفِعَتِ الرَّايَةُ فِي بَيْتِ الْـمَقْدِسِ.
العنصر الرابع من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: دَعْوَةٌ لِتَجْدِيدِ وَحْدَتِنَا وَكَسْرِ جُدْرَانِ الْخِلَافِ.
أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ، إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا فِي الْعُنْصُرِ السَّابِقِ كَيْفَ كَانَ الْـاِتِّحَادُ سَبِيلًا لِلنُّهُوضِ، وَدَعَامَةً لِبِنَاءِ الْأُمَمِ وَالْحَضَارَاتِ، وَكَيْفَ كَانَ السَّلَفُ يُقَدِّمُونَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ عَلَى الْـمَنَازِعَاتِ، وَالْـجَمَاعَةَ عَلَى الْخِلَافِ، نَصِلُ الْـيَوْمَ إِلَى دَعْوَةٍ حَارَّةٍ، وَصَرْخَةٍ صَادِقَةٍ، لِنُجَدِّدَ فِيهَا الْـوَحْدَةَ، وَنَكْسِرَ فِيهَا جُدْرَانَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ
لقد آن الأوانُ لِصرخةِ صدقٍ تُنادينا جميعًا: أَلَا يَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ، جَدِّدِي وَحْدَتَكِ، وَاكْسِرِي جُدْرَانَ خِلَافِكِ، وَاخْلَعِي عَوَائِقَ الْفُرْقَةِ وَالتَّشَظِّي. آنَ لَنَا أَنْ نَفُوقَ مِنْ سُبَاتِ التَّشَاتُمِ وَالتَّنَابُزِ، وَنَنْهَضَ لِـنُرَمِّمَ جُدْرَانَ بَيْتٍ تَصَدَّعَ، وَنَلْأَمَ صَدْعَ أُمَّةٍ تَنَازَعَهَا الْخِلَافُ حَتَّى كَادَ يَأْكُلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].
فالوحدة ليست شعارًا نردده في المناسبات، بل هي منهج حياة، وفريضة شرعية، وأملُ نجاةٍ لأمةٍ تتقاذفها الأمواجُ في بحرِ التمزق والتشرذم.
إخوةَ الإيمان، إنّ كثيرًا من خلافاتنا المعاصرة ليست خلافاتٍ في أصول العقيدة، ولا في جوهر الرسالة، بل هي نزاعاتُ هوى، وصراعاتُ زعامة، وتأويلاتٌ خاطئة، ونزوعٌ نحو الغلبة والتصدر، مع أنَّ النبي ﷺ قال: “لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا” [رواه مسلم].
لَمَّا اخْتَلَفَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي بَعْضِ الْـقِرَاءَاتِ، لَمْ يَتَنَاقَصَا، وَلَا تَنَابَزَا، بَلْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “كِلَانَا عَلَى صَوَابٍ”، فَتَبَسَّمَ زَيْدٌ، وَقَالَ: “رَزَقَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ حِلْمًا وَفِقْهًا”.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِالْـبِدْعَةِ وَيُجَالِسُ أَهْلَهَا، فَاحْذَرْهُ، وَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَخْتَلِفُ مَعَكَ فِي فَرْعٍ وَيُوَادُّكَ، فَهُوَ أَخُوكَ فِي اللهِ”.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “رَأْيي صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْـخَطَأَ، وَرَأْيُ غَيْرِي خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ”.
أي عظمةٍ هذه؟! وأي تربيةٍ تلك؟! هل سمعنا في خطاب اليوم شيئًا من ذلك؟!
أَيُّهَا الأَفَاضِلُ، لِنَصْدُقِ اللهَ، وَلْنَكُنْ شُجَعَانًا: مَا أَضْعَفَ أُمَّتَنَا إِلَّا تَنَابُذُ أَبْنَائِهَا، وَمَا زَالَتْ عَنِ الصَّدَارَةِ إِلَّا لِكَوْنِهَا صَارَتْ أَشْلَاءً، تُنَادِي كُلُّ قِطْعَةٍ: أَنَا، وَلَا غَيْرِي.
فهل آن لنا أن نفيق من هذه الغفلة؟
هل آن أن نكسر جدران الخلاف، فنُعيد للحُجْرة الواحدةِ نورها، وللصفوفِ انتظامها، وللقلوبِ مؤانستها؟
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10].
الخَاتِمَةُ
الحَمْدُ لِلَّهِ خِتَامًا، وَالشُّكْرُ لَهُ تِمَامًا، نَحْمَدُهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِعْمَةِ الإِسْلَامِ، وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ وَالسَّلَامَ.
أيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إنَّ الاِتِّحَادَ لَيْسَ رَفَاهِيَّةً أَوْ تَرَفًا فِكْرِيًّا، بَلْ هُوَ فَرِيضَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَوَاجِبٌ شَرْعِيٌّ، وَمَنْهَجٌ نَبَوِيٌّ، وَحَاجَةٌ وُجُودِيَّةٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي تَتَرَصَّدُهَا أَنْيَابُ الأَعَادِي، وَتَتَخَطَّفُهَا مَطَامِعُ الْغَازِينَ، وَتَتَدَاعَى عَلَيْهَا الْأُمَمُ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا.
وَالْخَاسِرُ الْكَبِيرُ مِنْ فُرْقَتِنَا هُوَ الإِسْلَامُ نَفْسُهُ، وَدَعْوَتُنَا، وَرِسَالَتُنَا، وَمَسَاجِدُنَا، وَأَبْنَاؤُنَا، وَأَعْرَاضُنَا، وَأَرْضُنَا، وَقِيمُنَا.
فَلْنَصْدُقِ اللَّهَ فِي نِيَّاتِنَا، وَنُخْلِصْ فِي سَعْيِنَا، وَلْنَجْعَلْ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ مِيثَاقَ وَعْيٍ وَوَاعِيَةٍ، نُجَدِّدُ بِهَا عَهْدَ الوَحْدَةِ، وَنَنْقُضُ بِهَا أَصْنَامَ التَّشَتُّتِ، وَنَبْنِي مَعَالِمَ الْجَمَاعَةِ.
وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ رَبِّكُمْ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢].
إنَّ مِصْرَ لَيْسَتْ قُطْرًا كَغَيْرِ الأَقْطَارِ، وَلَا أَرْضًا كَسَائِرِ الأَرَاضِي، بَلْ هِيَ صَفْحَةٌ نَيِّرَةٌ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ، وَرُكْنٌ أَصِيلٌ فِي بِنَاءِ الْأُمَّةِ، وَعَمودٌ فِي خَيْمَةِ الْوَحْدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ. مِصْرُ لَمْ تَكُنْ يَوْمًا عَلَى هَامِشِ الأَحْدَاثِ، بَلْ كَانَتْ فِي صَدَارَةِ النُّصْرَةِ وَالدِّفَاعِ عَنِ االْهُوِيَّةِ. يَوْمَ نَادَى الدِّينُ اسْتَجَابَتْ، وَيَوْمَ اسْتَغَاثَ التَّارِيخُ نَهَضَتْ، وَيَوْمَ تَفَكَّكَتِ الْأُمَمُ تَمَسَّكَتْ بِحَبْلِ الإِخَاءِ.
وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ فِيهَا نَبِيُّ الْهُدَى ﷺ: “إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا”[رواه مسلم من حدث أبي ذر]، فَكَانَتْ وَصِيَّةً نَبَوِيَّةً، وَشَهَادَةً خَالِدَةً، تَجْعَلُ مِصْرَ فِي مَقَامِ الرِّعَايَةِ وَالْقِيَادَةِ وَالتَّكْرِيمِ.
وَإِذَا كَانَتْ مِصْرُ مِفْتَاحَ الأَمْنِ فِي الْمِنْطَقَةِ، فَلَيْسَ عَجَبًا أَنْ تَكُونَ مَطْمَعًا لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ زَعْزَعَةَ الْأُمَّةِ، وَخَنْقَ وَعْيِهَا، وَتَفْتِيتَ وَحْدَتِهَا. إِنَّ أَصَابِعَ الْخَارِجِ، بِشَتَّى أَلْوَانِهَا، لَا تَكُفُّ عَنِ التَّدَخُّلِ السَّافِرِ وَالْمُقَنَّعِ، سَوَاءٌ بِالشُّبُهَاتِ، أَوْ بِالإِشَاعَاتِ، أَوْ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْفِتْنَةِ وَالِانْقِسَامِ. وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ مِصْرَ يَعْنِي اسْتِقْرَارَ الْأُمَّةِ، وَوَحْدَتَهَا هِيَ حِصْنُ الْهُوِيَّةِ وَالدِّينِ.
فَلْتَكُنْ مِصْرُ فِي عُيُونِنَا وَقُلُوبِنَا، نَبْنِيهَا بِالْوَعْيِ وَنَحْمِيهَا بِالْإِيمَانِ، وَلْنُفَوِّتْ عَلَى أَعْدَاءِ الْخَارِجِ كُلَّ ثَغْرَةٍ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْفُذُوا مِنْهَا، لِتَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ حَامِلَةً لِرَايَةِ الْوَحْدَةِ وَالْكَرَامَةِ فِي زَمَنٍ تَتَجَاذَبُهُ الرِّيَاحُ.
اللَّهُمَّ اجْمَعْ شَمْلَنَا، وَوَحِّدْ كَلِمَتَنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاجْعَلْنَا إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.
اللَّهُمَّ اجْمَعْ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَانْصُرْهُمْ وَاحْفَظْهُمْ، وَاكْفِهِمْ شَرَّ أَعْدَائِهِمْ، وَارْزُقْهُمُ الْـوِفَاقَ وَالْـخَيْرَ وَالْـوِدَادَ.
آمِينَ، وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الخطبة الثانية
العنصر الخامس من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ، إعداد رئيس التحرير
التَّحْذِيرُ مِنَ العُنْفِ الأُسْرِيِّ
الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْـمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ أُسُسًا فِي بِنَاءِ الْبُيُوتِ، وَرَفَعَ مَنْهَاجَ الْـحَيَاةِ عَلَى الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قُدْوَةُ الْـخَلْقِ فِي الرَّحْمَةِ، وَمِيزَانُ الْعَدْلِ فِي الْبَيْتِ وَالْمُجْتَمَعِ. صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ اتَّبَعَ هُدَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
مَعْنَى العُنْفِ الأُسْرِيِّ وَخُطُورَتُهُ
أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ، العُنْفُ الأُسْرِيُّ هُوَ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُلْحِقُ أَذًى جَسَدِيًّا أَوْ نَفْسِيًّا بِأَحَدِ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ. فَهُوَ خَرْقٌ لِمِيثَاقِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزٌ لِحُدُودِ الإِنْسَانِيَّةِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، وَالْمَعْرُوفُ لَيْسَ صَرْخَةً، وَلَا لَطْمَةً، وَلَا إِهَانَةً، بَلْ تَبَسُّمٌ، وَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ، وَصَبْرٌ عَلَى الزَّلَّةِ.
وَقَدْ سُئِلَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ -وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ زَيْنُ الْعَابِدِينَ- عَنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ، فَقَالَ: “أَنْ تَحْتَمِلَ مَا تَكْرَهُ مِمَّنْ تُحِبُّ”، فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَى زَوْجَتِهِ، وَيَقُولُ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْتَسِبُهُ عِنْدَكَ”.
النَّبِيُّ ﷺ قُدْوَةٌ فِي الرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ
مَا ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ زَوْجَةً، وَلَا خَادِمًا، بَلْ كَانَ فِي بَيْتِهِ بَسَّامًا، يُوَاسِي، وَيُرَاعِي، وَيُطَيِّبُ الْـخَوَاطِرَ. قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: “كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ“[رواه البخاري]، أَيْ: فِي خِدْمَتِهِمْ، يَرْقُعُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ.
وَإِذَا نَظَرْنَا فِي سِيرَةِ السَّلَفِ، وَجَدْنَا الْـحُسْنَ وَالْـحِلْمَ مَشْهُودَيْنِ. كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، ضَاحِكًا مُبْتَسِمًا، وَإِذَا خَرَجَ دَعَا لَهُمْ بِالْـبَرَكَةِ، فَتَحْتَ بَيْتِهِ نَبَتَتْ سَكَائِنُ الْـمَحَبَّةِ.
آثَارُ العُنْفِ وَوَاجِبُنَا فِي الإِصْلَاحِ
إِخْوَةَ الإِيمَانِ، كَمْ مِنْ بَيْتٍ انْهَدَمَ لِكَلِمَةٍ، وَكَمْ مِنْ قَلْبٍ تَفَطَّرَ لِصَرْخَةٍ، وَكَمْ مِنْ أُمٍّ بَكَتْ لَيْلًا؛ لِعُقُوقِ وَلَدٍ، أَوْ ضَرْبِ زَوْجٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: “مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْـحِلْمُ، إِلَّا كَثُرَ خَيْرُهُمْ”.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَحَدَ التَّابِعِينَ كَانَ يَقُولُ: “رَضَاهَا عَنْكَ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ نَافِلَةٍ”، يُشِيرُ إِلَى الزَّوْجَةِ، فَفِي الرِّضَا بَرَكَةٌ، وَفِي اللِّينِ سَكِينَةٌ، وَفِي الْـعُنْفِ دَمَارٌ وَحَسْرَةٌ.
يَا أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ، احْفَظُوا بُيُوتَكُمْ بِالرَّحْمَةِ، وَعَالِجُوا أَخْطَاءَكُمْ بِالْـكَلِمَةِ الْـحَسَنَةِ، وَلَا تَجْعَلُوا الْـمَحَابَّ تَذْبُلُ فِي جَوٍّ مَسْمُومٍ بِالْـغِلْظَةِ وَالْـقَسْوَةِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ، يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ” [رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح].
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ بُيُوتَنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاجْعَلْهَا سَكَنًا وَمَوَدَّةً وَرَحْمَةً، وَجَنِّبْنَا مَزَالِقَ الْعُنْفِ وَالْغَضَبِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ قَدْوَتُهُمْ نَبِيُّكَ، وَسُنَّتُهُمُ الْـحِلْمُ وَالْـحَزْمُ.
آمِينَ آمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
رئيس التحرير: د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف