خطبة الجمعة القادمة 14 نوفمبر : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 14 نوفمبر 2025م بعنوان : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ، للدكتور محروس حفظي بتاريخ 23 جمادي الأولي 1447هـ ، الموافق 14 نوفمبر 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 14 نوفمبر 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ .
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 14 نوفمبر 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 14 نوفمبر 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
عناصر خطبة الجمعة القادمة 14 نوفمبر 2025م بعنوان: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ، للدكتور محروس حفظي :
(١) حُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ مِنْحَةً.
(٢) اِحْتِرَامُ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمُ الْحُكْمِ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ.
(٣) مَوَاقِفُ عَمَلِيَّةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(٤) حُرْمَةُ الرَّشْوَةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 14 نوفمبر 2025م بعنوان: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
خُطْبَةٌ بِعُنْوَانِ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»
بِتَارِيخِ ٢٣ جُمَادَى الْأَوَّلِ ١٤٤٧ ه = الْمُوَافِقِ ١٤ نُوفَمْبَر ٢٠٢٥ م
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ، وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَتَمَّانِ الْأَكْمَلَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ ،،،
(١) حُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ مِنْحَةً، وَإِنَّمَا هِيَ حُقُوقٌ مُلْزِمَةٌ بِحُكْمِ مَصْدَرِهَا الْإِلَهِيِّ:
الْإِسْلَامُ فِي مُجْمَلِهِ رِسَالَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، جَاءَ لِيُرَاعِيَ الْإِنْسَانَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ، وَالْمُسْتَقْرِئُ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالنَّاظِرُ فِي مَوْضُوعَاتِهِ يَجِدُهُ إِمَّا حَدِيثًا إِلَى الْإِنْسَانِ، أَوْ حَدِيثًا عَنِ الْإِنْسَانِ؛ وَلِذَا تَكَرَّرَتْ كَلِمَةُ «الْإِنْسَانِ» فِي الْقُرْآنِ «٦٣ مَرَّةً»، وَ«بَنِي آدَمَ» ذُكِرَتْ «سِتَّ مَرَّاتٍ»، وَ«النَّاسُ» «٢٤٠ مَرَّةً»، وَ«الْعَالَمِينَ» وُرِدَتْ أَكْثَرَ مِنْ «٧٠» مَوْضِعًا.
يَقُولُ الدُّكْتُورُ «مَايْكِلْ هَارْثْ» أُسْتَاذُ الرِّيَاضِيَّاتِ، وَخَبِيرُ هَيْئَةِ الْفَضَاءِ الْأَمْرِيكِيَّةِ: «لَقَدِ اخْتَرْتُ مُحَمَّدًا أَوَّلَ هَذِهِ الْقَائِمَةِ، وَلَابُدَّ أَنْ يَنْدَهِشَ كَثِيرُونَ لِهَذَا الِاخْتِيَارِ وَمَعَهُمْ حَقٌّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ هُوَ الْإِنْسَانُ الْوَحِيدُ فِي التَّارِيخِ الَّذِي نَجَحَ نَجَاحًا مُطْلَقًا عَلَى الْمُسْتَوَى الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ» [الْخَالِدُونَ مِائَةٌ أَعْظَمُهُمْ مُحَمَّدٌ].
هَذِهِ الْحُقُوقُ لَا تَقْبَلُ التَّعْطِيلَ، وَلَا يُسْمَحُ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ التَّنَازُلُ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ شُمُولِيَّةٌ تَكَامُلِيَّةٌ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الْإِسْرَاءُ: ٧٠].
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ قَاسِمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّسَالَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ – عَلَيْهِمُ السَّلَامُ – إِنَّمَا وَضَعَ لَبِنَةً فِي صَرْحِهَا حَتَّى أَكْمَلَهُ اللَّهُ بِخَاتَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أَصْلُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ: مَقْتُ اللهِ الْعُنْصُرِيَّةَ الْقَائِمَةَ عَلَى أَسَاسِ الْعِرْقِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الْجِنْسِ أَوِ الدِّينِ أَوِ اللُّغَةِ أَوِ الْأَصْلِ… إِلَخْ، وَجَعَلَ مِعْيَارَ التَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ هُوَ «الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى».
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «مَتَى تَعَبَّدْتُمُ النَّاسَ، وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا؟!» [رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ].
عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ. قَالَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الْحُجُرَاتُ: ١٣]» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُرَدُّ عَلَى أَقْصَاهُمْ» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ].
قُدَاسَةُ الْإِنْسَانِ حَيًّا وَمَيِّتًا: عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟، قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»، فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» – قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: «كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَرَّ بِنَا جِنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ، فَقُومُوا» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
تَلَمُّسُ الْأَعْذَارِ، وَمُرَاعَاةُ الظُّرُوفِ لِلْخَلْقِ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ].
قَالَ حَمْدُونَ الْقَصَّارُ: «إِذَا زَلَّ أَخٌ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، فَاطْلُبُوا لَهُ سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْهُ قُلُوبُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَعِيبَ أَنْفُسُكُمْ حَيْثُ ظَهَرَ لِمُسْلِمٍ سَبْعُونَ عُذْرًا، فَلَمْ يَقْبَلْهُ». [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ»].
حُرِّيَّةُ التَّفْكِيرِ، وَحُرْمَةُ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْآخَرِينَ: كُلُّ شَخْصٍ لَهُ مُطْلَقُ الْحُرِّيَّةِ فِي التَّفْكِيرِ وَالْإِيمَانِ دُونَ تَدَخُّلٍ أَوْ مُصَادَرَةٍ مِنْ أَحَدٍ – لِأَنَّ هَذَا التَّنَوُّعَ وَالِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ سُنَنِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْخَلْقِ – مَا دَامَ يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ بِالْحُدُودِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَقَرَّتْهَا الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ، وَلَا يُذِيعُ الْبَاطِلَ، وَلَا يُرَوِّجُ لِفَاحِشَةٍ مَا وَإِلَّا وَجَبَ مَنْعُهُ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ؛ حِفَاظًا عَلَى وَحْدَةِ الْمُجْتَمَعِ، وَمَنْعًا مِنْ زَعْزَعَةِ اسْتِقْرَارِهِ.
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْفُ: ٢٩].
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [الْبَقَرَةُ: ٢٥٦].
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هُودٌ: ١١٩].
وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا احْتِرَامَ مَشَاعِرِ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ، فَيَحْرُمُ أَنْ يَسْخَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ مُعْتَقَدَاتِ غَيْرِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَامُ: ١٠٨].
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: وَسَبَبُهَا أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ: إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، وَالْغَضِّ مِنْهَا، وَإِمَّا نَسُبَّ إِلَهَهُ وَنَهْجُوهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَحُكْمُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ بَاقٍ فِي الْأُمَّةِ … فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسُبَّ دِينَهُمْ وَلَا صُلْبَانَهُمْ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِمَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ أَوْ نَحْوِهِ). أ.ه [الْمُحَرَّرُ الْوَجِيزُ].
(2) اِحْتِرَامُ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمُ الْحُكْمِ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ تُوجِبُ عِصْمَةَ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَا يُنَاقِضُهَا حَقِيقَةً بِلَا شُكُوكٍ وَلَا أَوْهَامٍ، فَمَذْهَبُ “أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ” أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا بِالْكَبَائِرِ فَضْلًا عَنِ الصَّغَائِرِ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّ الْمَعْصِيَةَ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ وُلَاةُ الْأَمْرِ، وَالْقُضَاةُ لَا آحَادُ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَمْيِيعٌ لِلْقَضَايَا وَلَا تَسَاهُلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ احْتِرَامٌ لِحَقِّ النَّفْسِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ بِيَدِهِ.
كُنْ إِنْسَانًا رَحِيمًا فِي قَوْلِكَ وَفِعْلِكَ وَإِلَّا فَغِلْظَتُكَ، وَسُوءُ ظَنِّكَ تُقَنِّطُ الَّذِي أَمَامَكَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَتَجْعَلُهُ يُصِرُّ وَيُعَانِدُ وَلَا يَقْبَلُ مِنْكَ مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَغْرِسُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي النُّفُوسِ، وَيُخَالِفُ مَا دَعَتِ الشَّرِيعَةُ إِلَيْهِ مِنَ التَّآلُفِ وَالتَّآزُرِ، وَيُغْلِقُ بَابَ التَّنَاصُحِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
قَالَ عُمَرُ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا، أَمِنَّاهُ، وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ، وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ” [رواه البخاري معلقاً].
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «…، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» [متفق عليه].
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: (وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ وَأَنَّ السَّرَائِرَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). أ.ه. [التمهيد لما في الموطأ] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إَنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ غَنَمٌ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ قَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ فَقَامُوا فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غَنَمَهُ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]» [رواه البخاري].
قَالَ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ: (وَهَذِهِ تَرْبِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ مُؤَاخَذَتِهِ غَيْرَهُ أَحْوَالًا كَانَ هُوَ عَلَيْهَا تُسَاوِي أَحْوَالَ مَنْ يُؤَاخِذُهُ، كَمُؤَاخَذَةِ الْمُعَلِّمِ التِّلْمِيذَ بِسُوءٍ إِذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي إِعْمَالِ جُهْدِهِ، وَكَذَلِكَ هِيَ عَظِيمَةٌ لِمَنْ يَمْتَحِنُونَ طَلَبَةَ الْعِلْمِ فَيَعْتَادُونَ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ، وَتَطَلُّبَ عَثَرَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ كِبَارُ الْمُوَظَّفِينَ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ لِنَظَرِهِمْ مِنْ صِغَارِ الْمُوَظَّفِينَ، وَكَذَلِكَ الْآبَاءُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ إِذَا بَلَغَتْ بِهِمُ الْحَمَاقَةُ أَنْ يَنْتَهِرُوهُمْ عَلَى اللَّعِبِ الْمُعْتَادِ أَوْ عَلَى الضَّجَرِ مِنَ الْآلَامِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ فِي حِفْظِ الْجَامِعَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ بَثُّ الثِّقَةِ وَالْأَمَانِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَطَرْحُ مَا مِنْ شَأْنِهِ إِدْخَالُ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فُتِحَ هَذَا الْبَابُ عَسُرَ سَدُّهُ، وَكَمَا يَتَّهِمُ الْمُتَّهِمُ غَيْرَهُ فَلِلْغَيْرِ أَنْ يَتَّهِمَ مَنِ اتَّهَمَهُ، وَبِذَلِكَ تَرْتَفِعُ الثِّقَةُ، وَيَسْهُلُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ الْمُرُوقُ؛ إِذْ قَدْ أَصْبَحَتِ التُّهْمَةُ تُظِلُّ الصَّادِقَ وَالْمُنَافِقَ، وَانْظُرْ مُعَامَلَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَافِقِينَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ). أ.ه. [التحرير والتنوير] .
الْمُتَخَوِّضُونَ فِي نِيَّاتِ النَّاسِ: الْأَصْلُ أَنْ يُصَفِّيَ الْعَبْدُ قَلْبَهُ؛ لِيَكُونَ نَظِيفًا طَاهِرًا، يُحْسِنَ الظَّنَّ بِالْخَلْقِ، وَيُحِبَّ لَهُمُ الْخَيْرَ وَالنَّفْعَ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88: 89].
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» [رواه ابن ماجه].
مَا أَجْمَلَ ظَنَّ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي حَادِثَةِ الْإِفْكِ، فَعِنْدَمَا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ أُمِّ أَيُّوبَ، قَالَتْ لَهُ: “يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟، قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَةً ذَلِكَ؟، قَالَتْ: لَا وَاللهِ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللهِ خَيْرٌ مِنْكِ”، فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]”. [رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوَيْهِ فِي “مُسْنَدِهِ”].
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: “كَتَبَ إِلَيَّ بَعْضُ إِخْوَانِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَنْ ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ مَا لَمْ يَأْتِكَ مَا يَغْلِبُكَ، وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهُ فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا …، وَمَا كَافَأْتَ مَنْ عَصَى اللهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللهَ فِيهِ”. [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي “شُعَبِ الْإِيمَانِ”].
دَخَلَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَلَى الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ مَرِيضٌ فَقَالَ لَهُ: “قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ” – أَخْطَأَ فِي التَّعْبِيرِ – فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: “لَوْ قَوَّى اللهُ ضَعْفِي لَقَتَلَنِي”، فَقَالَ الرَّبِيعُ: “وَاللهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْخَيْرَ”، قَالَ الشَّافِعِيُّ: “أَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ شَتَمْتَنِي لَمْ تُرِدْ إِلَّا الْخَيْرَ”. [رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي “آدَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَنَاقِبِهِ”].
(3) مَوَاقِفُ عَمَلِيَّةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أ) يُعَلِّمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ “احْتِرَامَ الْإِنْسَانِ”، وَعَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ بِسُوءٍ؛ لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ لَا يَتَوَافَقُ مَعَكَ فِي الْعَقِيدَةِ أَوْ فِي الْفِكْرِ … إِلَخْ؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: (قَوْلُهُ: («أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟»: الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ «أَقَالَهَا»: هُوَ الْقَلْبُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنَّمَا كُلِّفْتَ بِالْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ، وَمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ فَلَيْسَ لَكَ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ بِاللِّسَانِ، وَقَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»؛ لِتَنْظُرَ هَلْ قَالَهَا الْقَلْبُ، وَاعْتَقَدَهَا وَكَانَتْ فِيهِ؟ أَمْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَلْ جَرَتْ عَلَى اللِّسَانِ فَحَسْبُ، يَعْنِي وَأَنْتَ لَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَى هَذَا فَاقْتَصِرْ عَلَى اللِّسَانِ فَحَسْبُ، يَعْنِي وَلَا تَطْلُبْ غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» فِيهِ دَلِيلٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ يُعْمَلُ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
وَقَوْلُ أُسَامَةَ: «حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ» مَعْنَاهُ: لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامِي بَلِ ابْتَدَأْتُ الْآنَ الْإِسْلَامَ؛ لِيَمْحُوَ عَنِّي مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ عِظَمِ مَا وَقَعَ فِيهِ). أ.ه. [شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ].
(ب) هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِ الْعَالِمِ الْفُلَانِيِّ أَوْ .. إِلَخْ؛ لِتَعْلَمَ أَنَّ كَلَامَهُ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ لِيَنَالَ حَظْوَةً؟ أَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ؟ أَوْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ؟، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: “قَتْلُ أُسَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْرَّجُلَ لَيْسَ مِنَ الْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ الْإِثْمُ، وَلَا مِنَ الْخَطَإِ الَّذِي فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ اجْتِهَادٍ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَفِيهِ لِأُسَامَةَ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ أَصَابَ لَكَانَ لَهُ أَجْرَانِ، وَإِنَّمَا عَنَّفَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَرْكِهِ الِاحْتِيَاطَ، فَإِنَّ الْأَحْوَطَ عَدَمُ قَتْلِهِ”. أ.ه. [فَتْحُ الْمُنْعِمِ شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ].
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَسَارَّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟»، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟»، قَالَ: بَلَى وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي؟»، قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ، قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللهُ عَنْهُمْ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ].
وَفِي رِوَايَةٍ: «قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
قَالَ الْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ: “(فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ ظَاهِرِ التَّوْبَةِ، وَعِصْمَةِ مَنْ يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ الزِّنْدِيقُ قَدْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَفَعَلَ أَفْعَالَ الْإِسْلَامِ كَانَ مَعْصُومَ الدَّمِ…، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَامَلَةُ لِلنَّاسِ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ ظَوَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ دُونِ تَفْتِيشٍ وَتَنْقِيشٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَتَعَبَّدْنَا اللهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ»…، وَاعْتِبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِظَوَاهِرِ الْأَحْوَالِ كَانَ دَيْدَنًا لَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ”. [نَيْلُ الْأَوْطَارِ].
(ت) أَفَلَا شَقَّقْتَ عَنْ قَلْبِ زَوْجِكَ؛ لِتَعْلَمَ لِمَاذَا أَعْرَضَتْ عَنْ كَلَامِكَ أَوْ أَسَاءَتْ إِلَيْكَ فِي مَقَامٍ مَا؛ اُنْظُرْ كَيْفَ عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الرَّجُلَ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِزَوْجِهِ فِي مَقَامِ الرِّيبَةِ وَالشَّكِّ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وُلِدَ لِي غُلَامٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَنَّى ذَلِكَ؟» قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
(4) حُرْمَةُ الرَّشْوَةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا: «الرِّشْوَةُ» هِيَ: «مَا يُبْذَلُ لِلْغَيْرِ؛ لِيَحْكُمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ لِيَمْتَنِعَ مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ». [مُغْنِي الْمُحْتَاجِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْمِنْهَاجِ لِلْخَطِيبِ الشَّرْبِينِيِّ، 6/ 288].
وَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ «الرِّشْوَةَ» سَوَاءٌ صَدَرَتْ عَنْ مُوَظَّفٍ حُكُومِيٍّ أَمْ غَيْرِ حُكُومِيٍّ، وَهِيَ عَدُوُّ النَّزَاهَةِ، وَضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْفَسَادِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ضَيَاعُ الْحُقُوقِ، وَتَعْطِيلُ مَصَالِحِ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ يَدْفَعُوا، وَمِنْ ثَمَّ تَدْمِيرُ أَخْلَاقِ الْأَفْرَادِ، بَلْ يُفْقِدُهُمُ الثِّقَةَ بِمُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ، وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةُ:188]، وَقَالَ أَيْضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّسَاءُ: 29].
وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَخِيَانَةٌ لِلْأَمَانَةِ الَّتِي وُسِّدَتْ لِصَاحِبِهَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْأَنْفَالُ: 27].
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: ([الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ]: أَخْذُ الرِّشْوَةِ وَلَوْ بِحَقٍّ، وَإِعْطَاؤُهَا بِبَاطِلٍ، وَالسَّعْيُ فِيهَا بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي، وَأَخْذُ مَالٍ عَلَى تَوْلِيَةِ الْحُكْمِ وَدَفْعُهُ حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْبَذْلُ …، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَةُ: 188] يَشْمَلُ سَائِرَ وُجُوهِهِ وَيَجْمَعُهَا فِي كُلِّ مَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْهُ…، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا صَرِيحَةٌ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَاللَّعْنَةِ لِلرَّاشِي وَلِلْمُرْتَشِي وَلِلسَّفِيرِ بَيْنَهُمَا). أ.ه. [الزَّوَاجِرُ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ، 2/ 312].
كُلُّ مَنْ يَتَعَامَلُ بِالرُّشَى أَوْ يَكُونُ وَسِيطًا فِيهَا مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ، وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ]، وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةٍ: «وَالرَّائِشُ» [رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي “الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ”]. وَمَعْنَاهُ: «الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا، وَيَنْتَقِصُ لِهَذَا».
وَيُبَيِّنُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ أَنَّ مَنْ يَسْتَغِلُّ مَكَانَهُ الَّذِي اسْتَأْمَنَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَيَتَعَامَلُ بِالرُّشَا وَالْمُجَامَلَاتِ عَلَى حِسَابِ الْآخَرِينَ سَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَسَيَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي فَضِيحَتِهِ، وَلِيَتَبَيَّنَ لِلْأَشْهَادِ جِنَايَتُهُ، وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَعْظِيمًا لِإِثْمِ الرَّشْوَةِ، وَتَحْذِيرًا أُمَّتَهُ؛ فَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيِ إِبْطَيْهِ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ” ثَلَاثًا» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
قَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ: (فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَةِ، وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَايَاةِ، وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي، وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ، وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، اسْتِيفَاؤُهُ لِأَهْلِهِ). أ.ه. [مَعَالِمُ السُّنَنِ، 3/8].
وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: (فِي سَبَبِ مَنْعِهِ هَدَايَا الْعَمَلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ حَرَامٌ وَغُلُولٌ؛ لِأَنَّهُ خَانَ فِي وِلَايَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ فِي عُقُوبَتِهِ، حَمْلُهُ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي الْغَالِّ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ السَّبَبَ فِي تَحْرِيمِ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا بِسَبَبِ الْوِلَايَةِ). أ.ه. [شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ، 12/ 219].
وَمِنْ أَبْرَزِ مَا جَاءَ فِي حُرْمَةِ الرَّشْوَةِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ؛ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ، فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْيًا مِنْ حَلْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ، وَخَفِّفْ عَنَّا، وَتَجَاوَزْ فِي الْقِسْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاللهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنَ الرَّشْوَةِ، فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ» [رَوَاهُ مَالِكٌ فِي “الْمُوَطَّأِ”، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي “السُّنَنِ الْكُبْرَى”].
الْمُرْتَشِي مَنْزُوعُ الْبَرَكَةِ، وَمَحْرُومٌ مِنْ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ إِنِ اسْتَحَلَّ هَذَا:
لَمَّا كَانَتِ الرَّشْوَةُ مَاحِقَةً لِلْأَرْزَاقِ، مُعَطِّلَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، تُؤَخِّرُ الْمُجْتَهِدَ الذَّكِيَّ، وَتُقَدِّمُ الْخَامِلَ الْبَلِيدَ، تُعَلِّقُ النَّاسَ بِحُبِّ الدُّنْيَا، وَتُنْسِيهِمْ أَمْرَ الْآخِرَةِ، وَتَسُوقُ الْمُجْتَمَعَاتِ إِلَى الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ جَاءَ الْوَعِيدُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا، وَعَنْ كُلِّ طَرِيقٍ يُؤَدِّي إِلَيْهَا.
نَزْعُ الْبَرَكَةِ مِنْ حَيَاتِهِ، وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ: عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
مَحْرُومٌ مِنْ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةُ: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: «يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ»، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي “الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ”].
النَّارُ أَوْلَى بِهِ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ].
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ عَشَرَةً فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَحَبُّوا أَوْ بِمَا كَرِهُوا جِيءَ بِهِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ، فَإِنْ عَدَلَ وَلَمْ يَرْتَشِ وَلَمْ يَحِفْ فَكَّ اللهُ عَنْهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَارْتَشَى وَحَابَى فِيهِ شُدَّتْ يَسَارُهُ إِلَى يَمِينِهِ ثُمَّ رُمِيَ بِهِ فِي جَهَنَّمَ، فَلَمْ يَبْلُغْ قَعْرَهَا خَمْسَمِائَةِ عَامٍ». [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي “الْأَوْسَطِ”، وَالْحَاكِمُ فِي “الْمُسْتَدْرَكِ”].
الْعَيْشُ فِي رُعْبٍ وَخَوْفٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّبَا، إِلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرُّشَا، إِلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ].
دَفْعُ شَيْءٍ لِغَيْرِهِ؛ لِيَتَخَلَّصَ بِهِ حَقَّهُ، أَوْ يُدَافِعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ: هَذَا يُسَمَّى “رِشْوَةً” أَيْضًا لَكِنِ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ قَصَرُوا الْحُرْمَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الْآخِذِ دُونَ الْمُعْطِي، وَوَضَعَ لِذَلِكَ شُرُوطًا وَقُيُودًا: أَنْ يَسْتَنْصِرَ وَيَسْتَغِيثَ بِكُلِّ مَنْ يَظُنُّ فِيهِ أَنْ يُوصِلَ لَهُ حَقَّهُ، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ الأَذَى وَالظُّلْمَ؛ فَإِذَا سُدَّتِ الطُّرُقُ، وَتَعَذَّرَتِ السُّبُلُ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُجِيرُهُ أَوْ يُعِينُهُ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فِي حُكْمِ “الْمُضْطَرِّ”، فَيَرْتَكِبُ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ، وَيَدْفَعُ أَشَدَّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، كَيْ يَحْفَظَ حَقَّهُ، أَوْ حَقَّ غَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا يَجِبُ الضَّرْبُ بِيَدٍ مِنْ حَدِيدٍ عَلَى أَيْدِي الْمُفْسِدِينَ الْعَابِثِينَ، وَيُشْحَذُ الْهِمَمُ ضِدَّهُمْ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ الشَّافِعِيُّ: (فَأَمَّا بَاذِلُ الرِّشْوَةِ فَإِنْ كَانَتْ لاِسْتِخْلَاصِ حَقٍّ أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بَذْلُهَا، كَمَا لَا يَحْرُمُ افْتِدَاءُ الأَسِيرِ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ لِبَاطِلٍ يُعَانُ عَلَيْهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَذْلُهَا كَمَا حَرُمَ عَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ أَخْذُهَا، وَوَجَبَ رَدُّ الرِّشْوَةِ عَلَى بَاذِلِهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.). أ.ه. [الْحَاوِي الْكَبِيرُ فِي فِقْهِ مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، 16/ 283].
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (الرِّشْوَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا: الثَّالِثُ: أَخْذُ الْمَالِ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الآخِذِ فَقَطْ …، وَلَوْ قَضَى حَاجَتَهُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا طَمَعٍ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
الرَّابِعُ: مَا يُدْفَعُ لِدَفْعِ الْخَوْفِ مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ حَلَالٌ لِلدَّافِعِ، حَرَامٌ عَلَى الآخِذِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ). أ.ه. [رَدُّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ، 5/ 362].
وَقَالَ الإِمَامُ السُّيُوطِيُّ: ([الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: مَا حُرِّمَ أَخْذُهُ حُرِّمَ إِعْطَاؤُهُ]: كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ، وَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ: مِنْهَا: الرِّشْوَةُ لِلْحَاكِمِ). أ.ه. [الأَشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ، ص 150].
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: (أَمَّا مَا يُعْطَى تَوَصُّلًا إِلَى أَخْذِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ، فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أُخِذَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي شَيْءٍ، فَأَعْطَى دِينَارَيْنِ حَتَّى خَلَّى سَبِيلَهُ، وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ قَالُوا: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِذَا خَافَ الظُّلْمَ). أ.ه. [النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالأَثَرِ، 2/ 226].
هَدَايَا الْعُمَّالِ، وَالْمُوَظَّفِينَ تَدْخُلُ تَحْتَ الرِّشْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا: مِنَ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْبَعْضُ تَسْمِيَةُ “الرِّشَى” بِالْهَدَايَا أَوْ إِكْرَامِيَّاتٍ، فَهُمْ قَلَبُوا الْمَوَازِينَ، وَجَعَلُوا الْبَاطِلَ حَقًّا، وَصَوَّرُوا الظُّلْمَ عَدْلًا، فَمَا هِيَ إِلَّا تَغْيِيرُ مُسَمَّيَاتٍ لِلرِّشْوَةِ.
أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي “بَابِ تَحْرِيمِ هَدَايَا الْعُمَّالِ” حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: «وَمَا لَكَ؟» قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «وَأَنَا أَقُولُهُ الآْنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَدَايَا الأُمَرَاءِ غُلُولٌ» [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي “السُّنَنِ الْكُبْرَى”].
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: (الَّذِي يُهْدِي لَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ: وُدَّ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، أَوْ عَوْنَهُ، أَوْ مَالَهُ، فَأَفْضَلُهَا الأَوَّلُ، وَالثَّالِثُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّعُ بِذَلِكَ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ، وَقَدْ تُسْتَحَبُّ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا، وَالْمُهْدِي لَا يَتَكَلَّفُ، وَإِلَّا فَيُكْرَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ لِمَعْصِيَةٍ فَلَا يَحِلُّ، وَهُوَ الرِّشْوَةُ، وَإِنْ كَانَ لِطَاعَةٍ فَيُسْتَحَبُّ، وَإِنْ كَانَ لِجَائِزٍ فَجَائِزٌ، لَكِنْ هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُهْدَى لَهُ حَاكِمًا). أ.ه. [فَتْحُ الْبَارِي شَرْحُ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، 5/ 221].
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا سِرْتُ أَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرُدِدْتُ، فَقَالَ: ” أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ؟ لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِي فَإِنَّهُ غُلُولٌ، {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آلُ عِمْرَانَ: 161]، لِهَذَا دَعَوْتُكَ، فَامْضِ لِعَمَلِكَ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ].
وَقَالَ أ.د/ مُوسَى لَاشِين: (وَالْتَّحْقِيقُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ تُشْبِهُ الرِّشْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ، فَالرِّشْوَةُ هِيَ كُلُّ مَالٍ دُفِعَ؛ لِيَبْتَاعَ بِهِ مِنْ ذِي جَاهٍ عَوْنًا عَلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَيُخْشَى مِنْ هَدَايَا الْعُمَّالِ، وَمِنَ الْهَدَايَا إِلَى جَامِعِي الصَّدَقَاتِ أَنْ تَدْفَعَهُمْ هَذِهِ الْهَدَايَا إِلَى التَّغَاضِي، وَالتَّسَاهُلِ فِي حُقُوقِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَمَصَارِفِ الزَّكَاةِ الأُخْرَى، فَهِيَ قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَوَسِيلَةُ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَسِيلَةً غَيْرَ مُحَقَّقَةِ الْغَايَةِ، لَكِنْ “سَدُّ بَابِ الذَّرَائِعِ” مَطْلُوبٌ، وَلِهَذَا لَوْ تَحَقَّقْنَا أَنَّ الْهَدِيَّةَ لَنْ تُوصِلَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، كَأَنْ تُعْطَى بَعْدَ انْتِهَاءِ مُهِمَّةِ الْعَامِلِ نِهَائِيًّا، فَلَا شَيْءَ فِيهَا). أ.ه. [فَتْحُ الْمُنْعِمِ شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، 7/ 446].
وَقَدْ وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ التَّوَرُّعُ عَنْ قَبُولِ الْهَدَايَا؛ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ؛ فَعَنْ مَالِكٍ، قَالَ: «أَهْدَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ لِامْرَأَةِ عُمَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ فَرَآهُمَا، فَقَالَ: “مِنْ أَيْنَ لَكِ هَاتَيْنِ؟ اشْتَرَيْتِهِمَا؟ أَخْبِرِينِي، وَلَا تَكْذِبِينِي”، قَالَتْ: بَعَثَ بِهِمَا إِلَيَّ فُلَانٌ، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا إِذَا أَرَادَ حَاجَةً فَلَمْ يَسْتَطِعْهَا مِنْ قِبَلِي أَتَانِي مِنْ قِبَلِ أَهْلِي، فَاجْتَبَذَهُمَا اجْتِبَاذًا شَدِيدًا مِنْ تَحْتِ مَنْ كَانَ عَلَيْهِمَا جَالِسًا، فَخَرَجَ يَحْمِلُهُمَا، فَتَبِعَتْهُ جَارِيَتُهَا فَقَالَتْ: إِنَّ صُوفَهُمَا لَنَا، فَفَتَقَهُمَا، وَطَرَحَ إِلَيْهَا الصُّوفَ، وَخَرَجَ بِهِمَا، فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا امْرَأَةً مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، وَأَعْطَى الأُخْرَى امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ» [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي “السُّنَنِ الْكُبْرَى”].
لِيَعْلَمْ كُلُّ مَنْ يَتَعَامَلُ بِالرِّشْوَةِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْ مَالِهِ؛ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ …، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ]، وَفَاعِلُ ذَلِكَ يَجْنِي عَلَى الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوْسِيدَ الأَمْرِ لِغَيْرِ أَهْلِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
سَأَلَ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ الْعَمَلِ، وَفَضْلَ الْقَبُولِ، إِنَّهُ أَكْرَمُ مَسْؤُولٍ، وَأَعْظَمُ مَأْمُولٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ بَلَدَنَا مِصْرَ سَخَاءً رَخَاءً، أَمْنًا أَمَانًا، سِلْمًا سَلَامًا وَسَائِرَ بِلَادِ الْعَالَمِينَ، وَوَفَّقَ وُلَاةَ أُمُورِنَا لِمَا فِيهِ نَفْعُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ .
أَعَدَّهُ: الْفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ د / مَحْرُوسُ رَمَضَانَ حِفْظِي عَبْدُ الْعَالِ
مُدَرِّسُ التَّفْسِيرِ وَعُلُومِ الْقُرْآنِ – كُلِّيَّةُ أُصُولِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ – أَسْيُوطُ
_____________________________________
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف







