خطبة الجمعة القادمة 6 يونيو : أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ ، للدكتور محروس حفظي
أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ ، للدكتور محروس حفظي بتاريخ 10 ذو الحجة 1446هـ ، الموافق 6 يونيو 2025م

خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 6 يونيو 2025 م بعنوان : أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ ، للدكتور محروس حفظي بتاريخ 10 ذو الحجة 1446هـ ، الموافق 6 يونيو 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 6 يونيو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 6 يونيو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 6 يونيو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 6 يونيو 2025م بعنوان : أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ ، للدكتور محروس حفظي :
(1) فضلُ أيامِ التشريقِ الثلاث.
(2) وجوبُ استشعارِ ذكرِ اللهِ في هذه الأيامِ الفاضلةِ.
(3) استحضارُ قيمِ التسامحِ والرفقِ في هذه الأيامِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 6 يونيو 2025م بعنوان: أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
خطبة بعنوان «أيامُ الرحمةِ والمغفرةِ»
بتاريخ 10 ذو الحجة 1446 هـ = الموافق 6 يونيو 2025 م
الحمدُ للهِ حمداً يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ، أمَّا بعدُ ،،،
(1) فضلُ أيامِ التشريقِ الثلاث: أيامُ التشريقِ هي الأيامُ المعدوداتُ، التي قال اللهُ فيهَا: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}؛ وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» (البخاري)، وسببُ التسميةِ بأيامِ التشريقِ؛ لأنَّ الناسَ كانوا يُشرِّقونَ فيها لحومَ الأضاحِي، أي: يملِّحونَهَا ويعرضونَهَا للشمسِ؛ لحفظِهَا مِن الفسادِ، وذلكَ لعدمِ وجودِ أجهزةِ الحفظِ والتبريدِ آنذاك، وقد أخبرَ سيدُنَا ﷺ عن فضلِهَا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» (مسند أحمد)، و “يومُ القرِّ”: هو اليومُ الأولُ مِن أيامِ التشريقِ، وسميَ بذلكَ؛ لأنَّ الناسَ يقرونَ يومئذٍ في منازلِدِهم بمنَى، ولا ينفرونَ عنهُ، إذ فرغُوا مِن طوافِ الإفاضةِ والنحرِ، واستراحُوا.
وفي هذه الأيامِ تجدُ الحجيجَ رغمَ كثرةِ عددِهِم، واختلافِ أجناسِهِم، وتعددِ لغاتِهِم، ورغمَ ضيقِ الموقفِ، وازدحامِهِ حيثُ يصلُ أعدادُهُم إلى الملايين إلّا أنّك إذا شحتَ ببصرِكَ لن تجدَ سوى السكينةِ والوقارِ، والتآزرِ والتكاتفِ بينهُم، الكلُّ قد خلعَ الرتبَ، وألغَى الفوارقَ، وتناسَى المشاحناتِ، والجميعُ يلهجُ لسانُهُ طالباً الرحمةَ، رافعاً أكفَّ الضراعةِ مستمطراً المغفرةَ، ففي «أيامِ التشريقِ» تخشعُ النفوسُ، وتَذرِفُ العيونُ، وترفعُ الدرجاتُ، هذا المعنى يستشعرهُ الحجيجُ، فإذا ما رجعُوا إلى أوطانِهِم صارُوا متآخينَ متحابينَ مع ذويهِم وجيرانهِم بل مع الكونِ كلِّهِ.
هذه الأيامُ أشبَهُ بيومِ القيامةِ؛ إذ ينتظرُ كلُّ قومٍ نبيَّهُم أو رسولَهُم طمعاً في شفاعتِهِ لهُم عندَ خالقِهِم، وهم في حيرةٍ في قبولِهِم أو ردِّهِم عندَ الملكِ العظيمِ، كما قالَ تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 108: 109]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ مَلَائِكَةَ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا» (ابن حبان في “صحيحه”).
*اجتماعُ نعيمِ القلوبِ ونعيمِ الأجسادِ في هذه الأيامِ المباركةِ:
الإسلامُ وازنَ بينَ متطلباتِ الجسدِ والروحِ دونَ أنْ يطغَى أحدهُمَا على الآخرِ فقالَ تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، ولذا يجتمعُ في أيامِ التشريقِ للمؤمنينَ نعيمُ البدنِ بالأكلِ والشربِ، ونعيمُ قلوبِهِم بالذكرِ والشكرِ، وبذلكَ تتمُّ النعمةُ، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، وعن عُقْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» (أبو داود)، وفي رواية مسلم:«وَذِكْرٍ لِلَّهِ».
وفي هذا الحديثِ معنى دقيق، فالدنيا كلُّهَا أيامُ سفرٍ كأيامِ الحجِّ، وهي زمانُ إحرامِ المؤمنِ عمَّا حرّمَ اللهُ عليهِ مِن الشهواتِ، فمَن صبرَ، وهى النفسُ عن الهوى، صارَ في ضيافةِ اللهِ- عزَّ وجلَّ- في جوارِهِ أبدَ الأبدِ، قالَ تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:19]، وقال أيضاً: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
*الاستعانةُ بالنعمةِ على عبادةِ الخالقِ جلَّ وعلا:
ولهذا كان لزاماً على المؤمنِ أنْ يستعينَ بالنعمةِ على الطاعةِ، قال ابنُ رجبٍ: (وفي قولِ النبيِّﷺ: “إنَّهَا أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ للهِ”: إشارةٌ إلى أنَّ الأكلَ في أيامِ الأعيادِ والشربَ إنّمَا يُستعانُ بهِ على ذكرِ اللهِ، وطاعتِه، وذلكَ مِن تمامِ شكرِ النعمةِ أنْ يُستعانُ بهَا على الطاعاتِ، وقد أمرَ اللهُ في كتابهِ بالأكلِ مِن الطيباتِ والشكرِ له، فمَن استعانَ بنعمِ اللهِ على معاصيهِ، فقد كفرَ نعمةَ اللهِ، وهو جديرٌ أنْ يُسْلَبَها!! كما قِيل:
إذا كنتَ في نعمةٍ فارعهَا … فإنْ المعاصِي تزيلُ النعمَ
وداومْ عليها بشكرِ الإلهِ … فشكرُ الإلهِ يزيلُ النقمَ
وخصوصاً نعمةُ الأكلِ مِن لحومِ بهيمةِ الأنعامِ في أيامِ التشريقِ فإنَّ هذه البهائمَ مطيعةٌ وهي مسبحةٌ لهُ قانتةٌ، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وإنّهَا تسجدُ لهُ كما أخبرَ بذلكَ القرآنُ، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18]، وربَّمَا كانت أكثرَ ذكراً للهِ مِن بعضِ بنِي آدمَ) أ.ه. «لطائف المعارف».
*وجوبُ استشعارِ ذكرِ اللهِ – سبحانَهُ- في هذه الأيامِ الفاضلةِ، وهو خيرُ ما تستمطرُ بهِ الرحمةُ والمغفرةُ:
لمّا كانت هذه الأيامُ هي آخرُ أيامِ موسمٍ فاضلٍ، فالحجاجُ فيها يكمِّلونَ حجَّهُم، وغيرُ الحجاجِّ يختمونَهَا بالتقربِ إلى اللهِ بالأضاحِي بعدَ عملٍ صالحٍ في أيامِ العشرِ، استُحبَّ أنْ يُختمَ هذا الموسمُ بذكرِ اللهِ للحجاجِ وغيرِهِم، وتلكَ سنةٌ سنَّهَا اللهُ عقبَ انتهاءِ بعضِ العباداتِ: فمِن ذلكَ الذكرُ عقبَ الصلاةِ، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، وفي صلاةِ الجمعةِ قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وعقبَ الحجِّ أمرَ بذلكَ فقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}، وعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» (أحمد) .
لكن ينبغِي للذاكرِ أنْ يتدبرَ الذكرَ، ويفهمَ معناهُ، فذلكَ أدعَى للخشوعِ والتأثرِ بهِ، ومِن ثمَّ صلاحُ القلبِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ. قَالَ:«كَيْفَ ذَاكَ؟» قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ. قَالَ: «أَفَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلاَ يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلَّا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ؟ تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا»(البخاري).
فليستشعرْ المؤمنُ معانِي الذكرِ في هذه الأيامِ، وليحققْ مقصدَهُ قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28].
ولنعظمْ ما عظّمَ اللهُ، ولنقدسْ أوامرَهُ، وننتهِي عن نواهيهِ، فالعظيمُ أحقُّ أنْ يعظمَ، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، فحريٌّ بنَا أنْ نقفَ عندَ حدودِ اللهِ في هذا اليومِ الميمونِ الأغرِّ، فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَغَفَلَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ)، ولك أنْ تلحظَ أنَّ القرآنَ قد جعلَ تعظيمَ شعائرِ اللهِ مِن تقوىَ القلوبِ؛ لأنَّ التقوىَ جماعُ كلِّ خيرٍ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَوْصِنِي، قَالَ:«عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ» (أبو يعلى).
الخُطبةُ الثانيةُ: «التسامحُ والرفقُ»
*استحضارُ قيمِ التسامحِ في الأيامِ الفاضلةِ مع بنِي البشرِ:
الإنسانُ مخلوقٌ اجتماعيٌّ بطبعِه كما يقولُ علماءُ الاجتماعِ، فلا يمكنهُ أنْ يعيشَ وحيداً، وإنّمَا ضمنَ مجتمعٍ فيه فئاتٌ متنوعةٌ مِن البشرِ، ولذا كان عليهِ أنْ يرفقَ مع مَن حولَهُ، أمّا لو غلُظَ طبعُه، واستفحلتْ فظاظتُه، واشتدَّتْ على الناسِ قساوَتُه، وكثُرتْ جهالتُه، فقد أوغلَ في المغالطةِ، واستوجبَ العقوبةَ ولو كان مصلياً صائماً متعبداً للهِ، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» (مسند أحمد).
فعلينَا في هذه الأيامِ أنْ نستحضرَ قيمَ التسامحِ، والعفوِ عندَ المقدرةِ، وإقالةِ العثرةِ والزلةِ، وقبولِ المعذرِ، والرفقِ بعبادِ اللهِ، وجبرِ خاطرهِم في وقتِ الشدةِ والمسغبةِ، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ»، قَالَ: “قَالَ اللهُ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ”» (رواه مسلم)، فانظرْ كيف أنَّ الرفقَ والتسامحَ في المعاملةِ كان سبباً في أنْ يتجاوزَ اللهُ عن سيئاتِ هذا المذنبِ، وحطِّ أوزارِهِ، ومغفرةِ هفواتِه؛ لأنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العملِ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ» (رواه الترمذي وحسنه).
بهذه القيمِ الرفيعةِ، وتلك الأخلاقِ العاليةِ، يَألفُ الإنسان ويُؤلفُ، ويعشُ في النفوسِ مُعظَّمًا، وعلى الألسُنِ مُبجَّلاً، فعَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ» (مسلم)، وهكذا يستمرُ رفقُ المؤمنين بعضُهُم بعضاً إلى قيامِ الساعةِ، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17: 18]، قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: “أحبُّ الأمورِ إلى اللهِ ثلاثةٌ: العفوُ في القدرةِ، والقصدُ في الجدةِ، والرفقُ في العبادةِ، وما رأفَ أحدٌ بأحدٍ في الدنيا إلَّا رفقَ اللهُ بهِ يومَ القيامةِ” أ.ه.
تذكرْ أخي الكريم: إنَّ مساعدةَ الفقراءِ والمحتاجين، ومشاركتَهُم همومَهُم، والتخفيفَ مِن آلامِهِم في هذه الأيامِ المباركةِ، لهو مِن أعظمِ أبوابِ الخيرِ على الإطلاقِ، ولعلَّ البعضَ قد يغفلُ عن مثلِ هذه العبادةِ قال ﷺ: «إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ، مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ» (ابن ماجه).
ألَا فليسارعْ الإنسانُ في تحصيلِ أبوابِ الخيرِ، ولا يحرمْ نفسَهُ منها، يقولُ إبراهيمُ بنُ أدهم: “مَن لم يواسِ الناسَ بمالِه وطعامِه، وشرابِه، فليواسِهِم ببسطِ الوجهِ، والخُلقِ الحسنِ” أ.ه. فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» (الترمذي وحسنه).
*استشعارُ الرفقِ مع الحيوانِ خاصةً عندَ ذبحِه:
لنجعلَ للحيواناتِ والجماداتِ في هذه الأيامِ الفاضلةِ نصيبًا مِن الرفقِ والتسامحِ، فقد يتصورُ البعضُ أنّ تلك المخلوقاتِ منعدمةُ الشعورِ والإحساسِ، لكن يخبرُنَا القرآنُ الكريمُ والنبيُّ العدنانُ ﷺ خلافَ ذلك، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وهذا الذي حدَا بسيدِنَا مُحمدٍ ﷺ أنْ تقعَ شفقتُهُ على هذا العالمِ مِن المخلوقاتِ، ليعمَّ رفقُه جميعَ الموجوداتِ، فهذا “جبلُ أُحدٍ” هُزمَ عندَهُ النبيُّ ﷺ، وذلك قد يتركُ في النفسِ الإنسانيةِ حالةً مِن الحزنِ والأسَى، لكنّهُ ﷺ – تفاؤلًا ورفقاً- بيَّن أنَّ أُحدًا لا دخلَ له، فأعلنَ محبتَهُ لهُ، فقال ﷺ حينما نظرَ إليهِ:”إنَّ أُحدًا جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه” (رواه مسلم)، ويخبرُ النبيُّ ﷺ أنَّ الذي يرفقُ بالحيوانِ مأجورٌ، مكفرٌ لسيئاتِهِ، هذا في البهائمِ؛ فكيف بالآدميين؟! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ– أي: بئر يدور حوله- قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا – أي: خفهَا الذي تلبسُه-، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» (متفق عليه).
فلا ننسَى هذه القيمَ أثناءَ ذبحِ الأضاحِي، ولنسترشد بهدي الإسلامِ في ذلك، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (مسلم)، وعن معاويةَ بنِ قرةَ، عن أبيهِ قال: قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي لأذبحُ الشاةَ فأرحمهَا، أو قال: إنِّي لأرحمُ الشاةَ أنْ أذبحهَا، قال: «والشاةُ إنْ رحمتهَا، رحمكَ اللهُ» مرتين (الأدب المفرد للبخاري).
*استحضارُ التسامحِ مع الأرحامِ وذوي القربَى مِمّن أساءُوا إليكَ:
لنحرصْ على أنْ نعززَ قيمَ العفوِ والتسامحِ في هذا اليومِ العظيمِ خاصةً مع ذوِي القربَى وإنْ كانُوا مسيئينَ إلينَا، فهذا سيدُنَا: “أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- كَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا” (رواه البخاري).
ولنصلْ أرحامَنَا، ولنحسنْ إلى المحتاجينَ والموزعينَ منهُم، فعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:” وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ” (رواه مسلم).
أخي الكريم: حققْ التسامحَ النفسِي والخارجِي مع الكونِ كلِّه في هذه الأيامِ العظيمةِ، ولن يتحققَ ذلكَ إلّا بتطهيرِ قلبِكَ مِن الشحناءَ والبغضاءِ، وإيثارِ العفوِ التسامحِ، وتلك أخلاقُ الجيلِ الأولِ التي مدحُوا بهَا في كتابِ اللهِ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، وعَنْ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» (ابن ماجه) .
لقد بيّنَ النبيُّ ﷺ أنّ الرفقَ سببُ كلِّ خيرٍ، ويثيبُ عليهِ اللهُ ما لا يثيبُ على غيرِه، ويتأتَى بهِ مِن الأغراضِ، ويسهلُ مِن المطالبِ ما لا يتأتَى بغيرِه، فعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» (رواه مسلم)، فما أحوجَ الناسَ في هذه الأيامِ العظيمةِ إلى مَن يكونُ قريبًا منهُم، ويجالسُهُم ويلاطفُهُم، ويرفقُ بهِم في كلِّ أمرٍ، يسعَى في قضاءِ حوائجِهِم، وتمشيةِ أمورِهِم وإعانتِهِم، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «حُرِّمَ عَلَى النَّار كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ» (مسند أحمد)، فالْخلقُ كلُّهُم عِيَالُ اللهِ، وأحبُّهُم إِلَيْهِ أنفعُهُم لِعِيَالِهِ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» (البزار) .
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمناً أماناً، سلماً سلاماً وسائرَ بلادِ العالمين، ووفقْ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: الفقير إلى عفو ربه الحنان المنان
د / محروس رمضان حفظي عبد العال
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف