خطبة الجمعة للدكتور أحمد رمضان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ

خطبة الجمعة : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ، إعداد: رئيس التحرير للدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 13 ربيع الأول 1447هـ، الموافق 5 سبتمبر 2025م.
تحميل الملف كاملا” 7 صفحات
الملف المحتصر 5 صفحات word
الملف المحتصر 5 صفحات pdf
-عناصر خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م بعنوان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العُنصُرُ الأوَّلُ: المَولِدُ النَّبَوِيُّ… نُورٌ بَدَّدَ الظُّلْمَ، وفَضلٌ أحيَا القَلْبَ
العنصر الثاني: صور مشرقة من حياة النبي ﷺ
العُنْصُرُ الثالث: واجِبُنا نَحْوَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَحَبَّتُهُ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م بعنوان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
مولد الهادي البشير ﷺ
12 ربيع الأول 1447هـ – 5 سبتمبر 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الَّذِي أَنَارَ الْكَوْنَ بِنُورِ نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى، وَأَظْهَرَ الْحَقَّ وَأَبْطَلَ الْبَاطِلَ، وَخَتَمَ الرِّسَالَاتِ بِمَجِيءِ سَيِّدِ الْبَرِيَّاتِ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ الْمُذْنِبِينَ، وَنَسْتَهْدِيهِ هِدَايَةَ الْمُخْلِصِينَ.
وَأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، جَلَّ عَنْ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ، وَتَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ وَالظَّهِيرِ.
وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى، وَأَطْهَرُ مَنْ جَادَتْ بِهِ الْبَشَرِيَّةُ، الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهَادِيَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
اَللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أيها المؤمنون، حديثُنا اليوم عن أَعْظَمِ مِيلادٍ وَقَعَ فِي التَّارِيخِ، وَأَجَلِّ نُقْطَةِ تَحَوُّلٍ فِي مَسِيرَةِ الْبَشَرِيَّةِ؛ عن مولدِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ﷺ، المولدِ الذي كان فجرًا جديدًا أشرق في ليلٍ بهيمٍ من الجاهلية.
العُنصُرُ الأوَّلُ: المَولِدُ النَّبَوِيُّ… نُورٌ بَدَّدَ الظُّلْمَ، وفَضلٌ أحيَا القَلْبَ
لقد كانت الدنيا قَبْلَ مَجِيئِهِ ﷺ فِي ظُلْمَاتٍ بَهِيمَةٍ.
جَهْلٌ عمَّ العقولَ، فترسَّخت الأوهامُ مكانَ اليقينِ.
ظلمٌ اسْتَشْرَى، يأكل القوي فيه الضعيف.
بناتٌ تُوأَدُ أحياء بلا ذنبٍ ولا جريرة: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ التكوير8، 9.
وأصنامٌ تُعبد من دون الله، وقد قال الخالق جل جلاله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يونس 18.
كانَ الليلُ حالكًا، والناسُ يَتخبَّطونَ في ظلماتٍ من الشِّركِ والكُفرِ، فبعثَ اللهُ نورًا لا يَخبو، وضِياءً لا يُطفَأ، وهُدىً لا يَزولُ، ورحمةً تَغمرُ الوجودَ إلى قيامِ السّاعةِ.
نور الميلاد ورحمة المولد
رأتْ آمنةُ أمُّ النبيِّ ﷺ نورًا يخرجُ منها فأضاءَ قصورَ الشامِ، فكانتْ تلكَ بشارةً أنّ رسالتَهُ ستبلغُ الآفاقَ، وأنّ أنوارَ النبوّةِ ستتجاوزُ مكّةَ والمدينةَ لتبلغَ المشارقَ والمغاربَ. وقد صحّ عنه ﷺ أنّه قال: «رأتْ أمي كأنّه خرجَ منها نورٌ أضاءتْ منه قصورُ الشامِ» أخرجه أحمد (22315)، والطيالسي في مسنده (1236)، والحارث في مسنده (927). صحيح.
ثمَّ ما لبثَ أنْ انتقلَ إلى باديةِ بني سعدٍ عندَ مُرضعتِهِ حليمةِ، فنالَ بيتَها من بركتِهِ خيرٌ وافِرٌ؛ فكان الضرعُ يابسًا فأصبحَ مدرارًا، وسمنتْ الدوابُّ بعدَ هزالٍ، واخضرتِ الأرضُ بعدَ جَدْبٍ، وكلُّ ذلكَ ببركةِ الطفلِ المباركِ ﷺ.
وفي طفولتِهِ المبكرةِ، شقَّ صدرُهُ الشريفُ مرتينِ، فأُخرجَ منهُ حظُّ الشيطانِ، وغُسلَ قلبُهُ بماءِ زمزمَ في طستٍ من ذهبٍ، إعدادًا لقلبٍ طاهرٍ يحملُ أمانةَ الوحيِ، ويبلغُ رسالةَ الحقِّ إلى البشريةِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ قَلْبَهُ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ، يَعْنِي ظِئْرَهُ، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ مُنْتَقِعَ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: قَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم“ ابن حبان 3002.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شُقَّ صَدْرُ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ الْعَلَقَةُ، وَلَمَّا أَرَادَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا الإِسْرَاءَ بِهِ أَمَرَ جِبْرِيلَ بِشَقِّ صَدْرِهِ ثَانِيًا، وَأَخْرَجَ قَلْبَهُ فَغَسَلَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ مَرَّتَيْنِ. كتاب صحيح ابن حبان: التقاسيم والأنواع ج4، ص30.
كان ميلادُهُ فجرًا جديدًا للبشريةِ، عهدًا تتحدرُ فيهِ ظلماتُ الجهلِ أمامَ أنوارِ العلمِ، ويتهاوى فيهِ سلطانُ الباطلِ أمامَ سطوةِ الحقِّ، وقد صدقَ ربُّنا عزَّ وجلَّ إذ قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 15]. قالَ الطبري: النورُ هو محمدٌ ﷺ، الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، والكتابُ هو القرآنُ العظيمُ. تفسير الطبري ج8، ص264.
وقالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
أيُّها الأحبةُ، إنّ مولدَ النبيِّ ﷺ ليسَ حدثًا زمنيًا مضى، بل هو رحمةٌ متجددةٌ تسري في الوجودِ، لأنّهُ بدايةُ الرسالةِ، والرسالةُ مفتاحُ الرحمةِ ومنبعُ الهدايةِ؛ فمن آمنَ واتبعَ نجا وفازَ، ومن أعرضَ هلكَ وخسرَ.
وقد عبّر الشعراء عن هذا المعنى فقال البوصيري رحمه الله:
بَدَا سَطْعُ نُورٍ مِنْ سَمَاءِ مُحَمَّدٍ ** فَأَضَاءَ حَتَّى أَخْجَلَ الْبَدْرَ السَّاطِعَا
وَوُلِدَ الْهُدَى فَالْكَوْنُ أَصْبَحَ ضَاحِكًا ** وَتَزَيَّنَتْ بِمُحَمَّدٍ أَيَّامُهُ
العنصر الثاني: صور مشرقة من حياة النبي ﷺ
أيُّهَا الإخوةُ الكِرامُ، إذا كان مولدُهُ ﷺ بدايةَ النُّورِ والرَّحْمَةِ، فإنَّ حياتَهُ المباركةَ كانت تجلِّيًا متواصلًا لعظمةِ اللهِ فيهِ وفضلِهِ عليهِ وعلى أُمَّتِهِ. مكانتُهُ ليست عاطفةً في القلوبِ فحسبُ، بل هي منزلةٌ أثبتها الوحيُ، وشهد بها الكونُ، وأقرَّتْ بها الأُمَمُ.
حلمه ودلائل النبوة
“… قال زيدُ بنُ سَعْنَةَ فدنوتُ إليه فقلْتُ يا محمدُ هل لَّكَ أنْ تَبيعَنِي تَمْرًا معلومًا في حائِطِ بني فلانٍ إلى أجَلٍ معلومٍ إلى أجلِ كذا وكذا قال لَا لَا تُسَمِّي حائِطَ بني فلانٍ … قال زيدُ بنُ سَعْنَةُ فلما كان قبلَ محِلِّ الأجَلِ بيومينِ أو ثلاثٍ …أتيتُهُ فأخذْتُ بمجامِعِ قميصِهِ وردائِهِ ونظرْتُ إليه بوجْهِ غليظٍ قلْتُ له يا محمدُ ألَا تَقْضِيني حقِّي فواللهِ ما علمتُم بني عبدِ المطلبِ لمُطْلًا ولقدْ كان بمخالَطَتِكُمْ علمٌ ونظرْتُ إلى عمرَ وعيناه تدورانِ في وجهِهِ كالفلَكِ المستديرِ ثم رماني ببصرِهِ فقال يا عدوَّ اللهِ أتقولُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أسمَعُ وتصنَعُ به ما أرى فوالذِي نفْسِي بيدِهِ لولا ما أُحاذِرُ فَوْتَهُ لضربْتُ بسيفِي رأسَكَ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينظرُ إليَّ في سكونٍ وتُؤَدَةٍ فقال يا عمَرُ أنا وهو كنَّا أحوجَ إلى غيرِ هذا أنْ تَأْمُرَنِي بحُسْنِ الأداءِ وتأمرَهُ بحُسْنِ اتِّباعِهِ اذهَب بِه يا عمرُ فأعْطِهِ حقَّهُ وزِدْهُ عشرينَ صاعًا من تمْرٍ مكان ما رُعْتَهُ قال زيدٌ فذهَبَ بي عمرُ فأعطاني حقِّي وزادَنِي عشرينَ صاعًا مِنْ تمرٍ فقلْتُ ما هذه الزيادَةُ يا عمَرُ قال أمرَنِي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ أزيدَكَ مكانَ ما رُعْتُكَ قال وتعرِفُنِي يا عمرُ قال لَا قلْتُ أنا زيدُ بنُ سَعْنَةِ قال الحبرُ قلْتُ الحبرُ قال فما دعاكَ إلى أنْ فعَلْتَ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما فعلْتَ وقلْتَ له ما قلتَ قلتُ يا عمرُ لم يكن من علاماتِ النبوةِ شيءٌ إلَّا وقدْ عرفتُ في وجْهِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ نظرتُ إليه إلا اثنتَيْنِ لم أخُبَرْهُما منه يَسْبِقُ حلْمُهُ جهلَهُ ولَا تزيدُهُ شدَّةُ الجَهْلِ عليهِ إلَّا حلمًا وقدْ اختبرتُهما فأُشْهِدُكَ يا عمرُ أني قَدْ رضيتُ باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ نبيًّا وأشهدُكَ أنَّ شطْرَ مالِي فإني أكثَرُها مالًا صدَقَةً على أمةِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عمرُ أوْ علَى بعضِهِم فإنَّكَ لَا تسَعُهم قُلْتُ أو عَلى بعضِهِم فرجعَ عمرُ وزيدُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال زيدٌ أشهَدُ أنْ لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ وآمَنَ بَهِ وصدَّقَهُ وبايَعَهُ وشهِدَ معه مشاهِدَ كثيرةً ثم تُوُفِّيَ في غزْوَةِ تَبَوكَ مُقْبِلًا غيرَ مدبرٍ رَحِمَ اللهُ زيدًا”. أخرجه ابن حبان (288)، والطبراني (5147) (5/ 222)، والحاكم (6547).
أيُّها الأحبَّةُ، لقدْ أظهرَ رسولُ اللهِ ﷺ في موقِفِ زيدِ بنِ سَعْنَةَ حِلْمًا يَفوقُ الغَضَبَ، ورَحمةً تَكسِرُ حِدَّةَ الجَفاءِ، فكانَ خُلقُهُ أعظمَ بُرهانٍ على نُبوَّتِهِ، وبهِ دخلَتِ القلوبُ في دينِ اللهِ أفواجًا.
وبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ .رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ فأتَاهُ، فَقالَ: إنِّي سَائِلُكَ عن ثَلَاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا نَبِيٌّ؛ قالَ: ما أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ؟ ومِنْ أيِّ شَيءٍ يَنْزِعُ الوَلَدُ إلى أبِيهِ؟ ومِنْ أيِّ شَيءٍ يَنْزِعُ إلى أخْوَالِهِ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: خَبَّرَنِي بهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ، قالَ: فَقالَ عبدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وأَمَّا الشَّبَهُ في الوَلَدِ: فإنَّ الرَّجُلَ إذَا غَشِيَ المَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كانَ الشَّبَهُ له، وإذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كانَ الشَّبَهُ لَهَا. قالَ: أشْهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، إنْ عَلِمُوا بإسْلَامِي قَبْلَ أنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ اليَهُودُ، ودَخَلَ عبدُ اللَّهِ البَيْتَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ؟ قالوا: أعْلَمُنَا وابنُ أعْلَمِنَا، وأَخْيَرُنَا وابنُ أخْيَرِنَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أفَرَأَيْتُمْ إنْ أسْلَمَ عبدُ اللَّهِ؟ قالوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ، فَخَرَجَ عبدُ اللَّهِ إليهِم، فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فَقالوا: شَرُّنَا وابنُ شَرِّنَا، ووَقَعُوا فِيهِ. البخاري 3938.
أيُّها الأحبَّةُ، لقدْ كانَ عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ يَعرِفُ صِدقَ النبوَّةِ بعلاماتٍ لا يَعلَمُها إلَّا نبيٌّ، فشهدَ لرسولِ اللهِ ﷺ بالحقِّ وأسلمَ، فكانَ برهانًا جديدًا على أنّ هذا الدِّينَ يقومُ على الوحيِ لا على الظنِّ.
الشفاعةُ العُظمى والمقامُ المحمودُ
يكفي في بيانِ مكانتِهِ أنَّ اللهَ جلَّ شأنُهُ خصَّهُ بالشفاعةِ العُظمى يومَ القيامةِ، حين يعتذرُ الأنبياءُ الكرامُ واحدًا بعدَ آخرَ، فيقولُ هو: «أنا لها، أنا لها». البخاري (7510)، ومسلم (193) والحديث طويل، فيسجدُ تحتَ العرشِ، فيُفتحُ له من المحامدِ ما لم يُفتحْ على أحدٍ قبلَهُ، ويُؤذَنُ له أن يشفعَ في الخلقِ أجمعينَ، فيُشَفَّعْ. وذلك هو المقامُ المحمودُ الذي وعدَهُ اللهُ بهِ: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ الإسراء 79، قال ابن كثير: “قال أكثرُ أهلِ التأويلِ: ذلكَ هوَ المقامُ الذي يقومُهُ ﷺ يومَ القيامةِ للشفاعةِ للناسِ”. تفسير ابن كثير ج5، ص103.
حنينُ الجِذْعِ إليهِ ﷺ
ومن دلائلِ فضلِهِ أنَّ الجَمادَ حنَّ إليهِ وبكى لفراقِهِ. فقد كان يخطبُ إلى جِذْعِ نخلةٍ، فلمَّا صُنِعَ له منبرٌ، وتُرِكَ الجِذْعُ، إذا به يَئِنُّ كما يَئِنُّ الطفلُ، حتى سَمِعَ أهلُ المسجدِ بُكاءَهُ، فنزلَ إليهِ رسولُ اللهِ ﷺ فاحتضنَهُ فسَكَنَ.
روي البيهقي بسند صحيح: “أن النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يخطُبُ إلى جِذعٍ قَبلَ أن يتَّخِذَ المِنبَرَ، فلَمَّا اتَّخَذ المِنبَرَ وتحَوَّلَ إليه حَنَّ الجِذعُ، فاحتَضَنه فسَكَنَ، وقال: لو لم أحتَضِنْه لحَنَّ إلى يومِ القيامةِ” دلائل النبوة للبيهقي، 2/558.
أيُّهَا الأحبَّةُ، إن كان الجِذْعُ اليابسُ قد حنَّ إليهِ، أَفَلَا تَحِنُّ قلوبُنا المؤمنةُ إليهِ، وقد فاضَ علينا من رحمتِهِ وفضلِهِ؟
رحمتُهُ وعدلُهُ في المواطنِ الحرِجةِ
وفي ذاتِ الرِّقاعِ، نامَ رسولُ اللهِ ﷺ تحتَ شجرةٍ وقد عَلَّقَ سيفَهُ بها، فجاء رجلٌ (غَوْرَثُ بنُ الحارِثِ)، حتى قامَ على رَأسِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بالسَّيفِ، فقال: مَن يَمنَعُكَ منِّي؟ قال: اللهُ، فسَقَطَ السَّيفُ مِن يَدِه، فأَخَذَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم فقال: مَن يَمنَعُكَ منِّي؟ قال: كُنْ كخَيرِ آخِذٍ، قال: أتَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، قال: لا، ولكنِّي أُعاهِدُكَ ألَّا أُقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قومٍ يُقاتِلونَكَ، فخَلَّى سَبيلَه، قال: فذَهَبَ إلى أصْحابِه، قال: قد جِئتُكُم مِن عِندِ خَيرِ النَّاسِ. أيُّ رحمةٍ أوسعُ من هذهِ الرحمةِ، وأيُّ عفوٍ أعظمُ من هذا العفوِ؟
نَبْعُ الماءِ وتكثيرُ الطعامِ
وفي ميادينِ الجهادِ، كان اللهُ يُظهِرُ بركتَهُ على يديهِ. “أُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإنَاءٍ، وهو بالزَّوْرَاءِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في الإنَاءِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَنْبُعُ مِن بَيْنِ أصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ القَوْمُ قالَ قَتَادَةُ: قُلتُ لأنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قالَ: ثَلَاثَ مِئَةٍ، أوْ زُهَاءَ ثَلَاثِ مِئَةٍ” البخاري (3572)، ومسلم (2279).
. ويومَ الخندقِ، حين دعا جابرٌ رسولَ اللهِ ﷺ إلى طعامٍ قليلٍ، فقال: “… فَقُمْ أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ ورَجُلٌ أوْ رَجُلَانِ، قَالَ: كَمْ هو؟ فَذَكَرْتُ له، قَالَ: كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ: قُلْ لَهَا: لا تَنْزِعِ البُرْمَةَ، ولَا الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حتَّى آتِيَ، فَقَالَ: قُومُوا. فَقَامَ المُهَاجِرُونَ والأنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ علَى امْرَأَتِهِ قَالَ: ويْحَكِ! جَاءَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ ومَن معهُمْ، قَالَتْ: هلْ سَأَلَكَ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: ادْخُلُوا ولَا تَضَاغَطُوا. فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، ويَجْعَلُ عليه اللَّحْمَ، ويُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ إذَا أخَذَ منه، ويُقَرِّبُ إلى أصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الخُبْزَ، ويَغْرِفُ حتَّى شَبِعُوا وبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: كُلِي هذا وأَهْدِي؛ فإنَّ النَّاسَ أصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ” البخاري (4101).
شهادةُ النَّجاشيِّ
وإذا كان خصومُهُ يُعانِدونَ، فإنَّ أهلَ الإنصافِ شهدوا لهُ. فالنَّجاشيُّ ملكُ الحَبَشَةِ لمَّا سمعَ القرآنَ يُتلى عليهِ، بكى وقالَ: إنَّ هذا والذي جاء به موسى ليخرجُ من مِشكاةٍ واحدةٍ. فكانت تلك شهادةَ ملكٍ عادلٍ لم يتردَّدْ أن يُقِرَّ بنبوَّتِهِ وصدقِ دعوتِهِ.
أيُّها المؤمنونَ، هذه المواقفُ العظيمةُ إنما هي شواهدُ على مكانتِهِ عندَ ربِّهِ، وعلى فضلِهِ عندَ الخلقِ. لقد جمعَ ﷺ بين كمالِ البشريَّةِ ورِفعةِ الاصطفاءِ، فهو بشرٌ مثلُنا، لكنَّهُ اصطفاهُ اللهُ بالوحيِ والرسالةِ. قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ الشرح 4، فلا يُذكَرُ اللهُ إلَّا ويُذكَرُ معهُ محمدٌ رسولُ اللهِ ﷺ. وقالَ سبحانهُ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ آل عمران 164.
وقد عبَّرَ أحدُ الشعراءِ قائلًا:
كُلُّ الْجَمَالِ تَجَسَّدَ فِي مُحَمَّدٍ ** وَالْكَوْنُ بَعْدَ ظَلَامِهِ قَدْ أَسْفَرَا
سَادَ الْبَرَايَا بِلَا مُنَازِعَةٍ ** وَأَضْحَى لِكُلِّ الْعَالَمِينَ مُبَشِّرَا
عبادَ اللهِ، قد تَحَدَّثْنا عن مولِدِهِ ﷺ وكيفَ كان نورًا أشرَقَ في ظُلُماتِ الجاهليَّةِ، وعن مكانتِهِ العُظمى وفَضلِهِ على الأُمَّةِ. ثم نَقِفُ مع الواجبِ العَمليِّ الَّذي يَترتَّبُ على مَعرِفَتِنا بمولِدِهِ ومكانتِهِ: واجِبُ الأُمَّةِ في مَحبَّتِهِ واتِّباعِ سُنَّتِهِ، والإكثارِ من الصَّلاةِ عليهِ، والاقتداءِ بهِ، والدِّفاعِ عن شريعتِهِ.
العُنْصُرُ الثالث: واجِبُنا نَحْوَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَحَبَّتُهُ
- المحبَّةُ الصادِقةُ للنَّبيِّ ﷺ
أيُّها الإخوةُ، إنَّ مَحبَّةَ رَسولِ اللهِ ﷺ ليست نافلةً من القَولِ، ولا ترفًا من العاطِفَةِ، وإنَّما هي رُكنٌ من أركانِ الإيمانِ.
قالَ ﷺ: «لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتّى أكونَ أحبَّ إليهِ من نَفسِهِ ووَلَدِهِ ووالدِهِ والنّاسِ أجمعينَ» [البخاريُّ 15، ومسلمٌ 44]. فالمحبَّةُ هُنا ليستْ دَعوى باللِّسانِ، بل حقيقةٌ يُبَرْهِنُها العَمَلُ والاتِّباعُ، كما قالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾. آل عمران 31.
وقد عَبَّرَ الصَّحابةُ عن هذهِ المَحبَّةِ أصدَقَ تعبيرٍ:
—فهذا الرَّجُلُ البسيطُ جاء يسألُ النَّبيَّ ﷺ: متى السّاعةُ؟ فقالَ لهُ: «وماذا أعدَدْتَ لها؟». قالَ: ما أعدَدْتُ كثيرَ صلاةٍ ولا صِيامٍ، إلَّا أنِّي أُحبُّ اللهَ ورسولَهُ. فقالَ لهُ ﷺ: «أنتَ مع مَن أحببتَ». قالَ أنسٌ رضيَ اللهُ عنهُ: فما فَرِحْنا بشيءٍ فَرحَنا بقولِ النبيِّ ﷺ: أنتَ مع مَن أحببتَ. البخاري (6171)، ومسلم (2639).
— وأمَّا عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنهُ فقالَ للنبيِّ ﷺ: واللهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلَّا من نَفسي. فقالَ لهُ ﷺ: «لا يا عُمرُ، حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نَفسِكَ». فقالَ عُمرُ في لحظةِ صِدقٍ: فإنَّكَ الآنَ أحبُّ إليَّ من نفسي. فقالَ ﷺ: «الآنَ يا عُمرُ”. البخاري (6632).
— وزيدُ بنُ دِثْنَةَ رضيَ اللهُ عنهُ، لَمّا أُسِرَ عندَ قريشٍ وقبلَ أنْ يُقتَلَ، سألهُ أبو سفيانَ: أَتُحِبُّ أنَّ محمدًا عندَنا مكانَكَ وأنتَ في أهلِكَ سالمًا؟ فقالَ: واللهِ ما أُحِبُّ أني في أهلِي وأنَّ محمدًا يُشاكُ بشوكةٍ. فقالَ أَبُو سُفْيَانَ: ما رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا. سيرة ابن هشام 3/160.
يَا مُصْطَفَى وَلَأَنْتَ سَاكِنُ مُهْجَتِي رُوحِي فِدَاكَ وَكُلُّ مَا مَلَكَتْ يَدِي
وَقَفَتْ لِنُصْرَةِ دِينِكَ هِمَّتِي وَسَعَادَتِي أَلَّا بِغَيْرِكَ أَقْتَدِي
لَكَ مُعْجِزَاتٌ بَاهِرَاتٌ جَمَّةٌ وَأَجَلُّهَا الْقُرْآنُ خَيْرُ مُؤَيِّدِي
مَا حُرِّفَتْ أَوْ غُيِّرَتْ كَلِمَاتُهُ شُلَّتْ يَدُ الجَانِي وَشَاهَ الْمُعْتَدِي
وَأَنَا الْمُحِبُّ وَمُهْجَتِي لَا تَنْثَنِي عَنْ وَجْدِهَا وَغَرَامِهَا بِمُحَمَّدٍ
قَدْ لَامَنِي فِيهِ الْكَفُورُ، وَلَوْ دَرَى نِعْمَ الإِيمَانُ بِهِ لَكَانَ مُسَاعِدِي
يَا رَبَّ صَلِّ عَلَى الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ وَاجْعَلْهُ شَافِعَنَا بِفَضْلِكَ فِي غَدٍ
— وخُبيبُ بنُ عَدِيٍّ رضيَ اللهُ عنهُ، لَمّا أرادوا أنْ يُصْلِبوهُ، صَلّى ركعتينِ، ثم قالَ: واللهِ ما أُحِبُّ أن أكونَ سالمًا في أهلِي والنبيُّ ﷺ يُصابُ بأذى، ثم أنشدَ:
ولستُ أُبالي حينَ أُقتَلُ مُسلمًا ** على أيِّ جنبٍ كان في اللهِ مَصرَعي
وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ ** يُبارِكْ على أوصالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ. البخاري (7402).
هذهِ المواقفُ ليستْ قصصًا للتسليةِ، بل دُروسٌ عَمليةٌ في معنى المحبَّةِ الصادقةِ، الَّتي تُتَرجَمُ إلى تضحيةٍ وولاءٍ وطاعةٍ واتِّباعٍ.
- الصلاةُ على النَّبيِّ ﷺ
ومن واجِبِنا تُجاهَهُ ﷺ الإكثارُ من الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ، فهي أمرٌ رَبّانيٌّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. الأحزاب 56. قالَ العُلَماءُ: إذا كان ربُّ العِزَّةِ وملائكتُهُ يُصَلُّونَ عليهِ، فما حَظُّ المؤمنِ إلَّا أن يُكثِرَ من الصَّلاةِ عليهِ؛ ليكونَ مُتأسِّيًا بالملأِ الأعلى.
وقد سألَ أُبَيٌّ بنُ كعبٍ رضيَ اللهُ عنهُ النبيَّ ﷺ عن مقدارِ ما يجعلُ من دُعائِهِ صلاةً عليهِ، “قلتُ يا رسولَ اللهِ! إني أُكثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟ فقال : ما شئتَ، قلت: الربعَ ؟ قال : ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خيرٌ لك، قلتُ : النصفَ؟ ! فقال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خيرٌ لك، فقلت: فالثُّلُثَيْنِ؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خيرٌ لك، قلتُ: أجعلُ لك صلاتي كلَّها؟ ! قال: إذًا تُكْفَى همَّك، ويُكَفَّرُ لك ذنبَك”. [الترمذيُّ 2457].
وقالَ ﷺ: «مَن صلّى عليَّ صلاةً صلّى اللهُ عليهِ بها عشرًا» [مسلمٌ 408].
فيا عبادَ اللهِ، أَحيُوا بيوتَكُم بالصَّلاةِ عليهِ، وزَيِّنوا ألسِنَتَكُم بذِكرِهِ، وأَكثِروا من الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ خاصَّةً في يومِ الجُمعةِ، فإنَّهُ ﷺ قالَ: «إنَّ من أفضلِ أيَّامِكُم يومَ الجمعةِ فيهِ خُلِقَ آدمُ وفيهِ قُبِضَ وفيهِ النَّفخةُ وفيهِ الصَّعقةُ فأكْثِروا عليَّ منَ الصَّلاةِ فيهِ فإنَّ صلاتَكُم معروضةٌ عليَّ قالَ قالوا يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليكَ وقد أرِمتَ – يقولونَ بليتَ – فقالَ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حرَّمَ علَى الأرضِ أجسادَ الأنبياءِ» [أبو داودَ 1047 صحيح].
- وجوبُ طاعتِهِ ﷺ
أيُّها المؤمنونَ، إذا كانت محبَّتُهُ والصَّلاةُ عليهِ واجبتَينِ، فإنَّ طاعتَهُ ﷺ أصلٌ من أُصولِ الإيمانِ. قالَ اللهُ جلَّ شأنُهُ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النِّساءُ: 80].
وقالَ سبحانهُ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النِّساءُ: 65].
فالطاعةُ ليستْ خِيارًا ولا رأيًا، وإنَّما هي مِيزانُ الإيمانِ. ومن هنا قالَ ﷺ: «كلُّ أُمَّتي يَدخُلونَ الجَنَّةَ إلَّا مَن أَبى». قالوا: ومَن يأبَى يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «مَن أطاعني دخلَ الجَنَّةَ، ومَن عصاني فقد أبى» [البخاريُّ 7280].
وقد جَسَّدَ الصَّحابةُ هذهِ الطاعةَ أعظمَ تجسيدٍ؛ فما أمرَهُم بشيءٍ إلَّا بادَروا إليهِ، ولا نهاهُم عن شيءٍ إلَّا انتهَوا عنهُ.
- الاقتداءُ بهِ ﷺ
أيُّها الأحبَّةُ، طاعتُهُ ﷺ ليستْ أوامِرَ تُنَفَّذُ فحسبُ، بل هي قدوةٌ تُتَّبَعُ في كلِّ شأنٍ من شؤونِ الحياةِ. قالَ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزابُ: 21].
— كان ﷺ أُسوَةً في عبادتِهِ: يقومُ من الليلِ حتى تَتَفَطَّرَ قدماهُ، فقيلَ لهُ: أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ اللهُ لكَ ما تقدَّمَ من ذنبِكَ وما تأخَّرَ؟ فقالَ: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا”. البخاري (4836).
— وكان أُسوَةً في رحمتهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. الأنبياء 107.
— وكان أُسوَةً في زُهدِهِ: كان ينامُ على الحَصيرِ حتى يؤثِّرَ في جنبِهِ الشَّريفِ.
— وكان أُسوَةً في شجاعتِهِ: “إذ يقولُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ: كنَّا إذا اشتدَّ البأسُ واحمرَّتِ الحَدَقُ اتَّقَيْنَا برسولِ اللهِ ﷺ، فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منهُ”. النسائي 8639 وأحمد 1347 واللفظ له صحيح.
فيا عبادَ اللهِ، لا يَكفي أن نُعلِنَ الاحتفاءَ بمولِدِهِ ﷺ بالشِّعاراتِ، بل الواجبُ أن نقتديَ بهِ في حياتِنا كلِّها: في البيتِ، وفي السُّوقِ، وفي العَمَلِ، وفي الدَّعوةِ، وفي الأخلاقِ، وفي السِّياسةِ، وفي الحربِ والسِّلمِ.
- الدِّفاعُ عن شريعتِهِ وإحياءُ سيرتِهِ
أيُّها المسلمونَ، ومن أوجبِ الواجباتِ تُجاهَهُ ﷺ أن نُدافِعَ عن شريعتِهِ، وأن نُحيِيَ سيرتَهُ العَطِرةَ؛ فليستْ قصصًا تُتلى فحسبُ، وإنَّما هي مَنهجُ حياةٍ. لقد كانَ الصَّحابةُ يُدافِعونَ عنهُ بأرواحِهِم؛ فهذا أبو طلحةُ الأنصاري يومَ أُحُدٍ يقيهِ بنفسِهِ حتى شُلَّتْ يدُهُ، قال قيس بن أبي حازم رضي الله عنه “رَأَيْتُ يَدَ أبو طَلْحَةَ الَّتي وقَى بها النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ شَلَّتْ ” البخاري 3724، وكان أيضا: يَتَتَرَّسُ بجسدِهِ حتى لا تَصِلَ السِّهامُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، “كانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتُرْسٍ واحِدٍ، وكانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ، فَكانَ إذَا رَمَى تَشَرَّفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَيَنْظُرُ إلى مَوْضِعِ نَبْلِهِ“. البخاري (2902). يَتَتَرَّسُ: أي: يَتحَصَّنُ ويَحتَمي- هو وأبو طَلحةَ زَيدُ بنُ سَهلٍ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه بتُرْسٍ أو ساتِرٍ واحِدٍ. والتُرس: هو ما يجعله الإنسان أمامه ليقيه الضربات.
واليومَ، واجبُنا أن نُدافِعَ عنهُ بالعلمِ والبَيانِ، وأن نَرُدَّ الشُّبُهاتِ، ونَكشِفَ الأكاذيبَ، ونُظهِرَ مَحاسِنَ سُنَّتِهِ للعالَمينَ، بالقدوةِ العمليَّةِ قبلَ المقالِ. إنَّ أعظمَ تكريمٍ لمولِدِهِ ﷺ أن نَحيا حياتَهُ في بيوتِنا، وأن نُدخِلَ سُنَّتَهُ في مُعاملاتِنا، وأن نتأسَّى بأخلاقِهِ في دَعواتِنا، وأن نكونَ دُعاةً لهُ بأفعالِنا قبلَ أقوالِنا.
عبادَ اللهِ، إنَّ محبَّتَهُ ليستْ دعوى باللِّسانِ، ولا احتفالًا بالمظاهرِ، وإنَّما هي طاعةٌ واتِّباعٌ واقتداءٌ ودِفاعٌ وصلاةٌ دائمةٌ عليهِ. فمَن أحبَّهُ صدقًا أطاعَهُ، ومَن أطاعَهُ اهتدى، ومَن اهتدى سَعِدَ في الدُّنيا والآخرةِ.
قالَ الشَّاعرُ: إنْ كانَ حُبُّكَ صادقًا أطعتَهُ ** إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
اللَّهُمَّ إنَّا نَشهَدُ أنَّهُ لا إلهَ إلَّا أنتَ، وأنَّ محمدًا عبدُكَ ورَسولُكَ. اللَّهُمَّ ارزُقْنا حُبَّهُ، وحُبَّ مَن يُحِبُّهُ، وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنا إلى حُبِّهِ. اللَّهُمَّ اجعَلْنا من المُكثِرينَ من الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ.
اللَّهُمَّ اجعَلْنا من المُقتَدينَ بهَدْيِهِ، المُتمسِّكينَ بسُنَّتِهِ، الذَّائِدينَ عن شريعتِهِ.
اللَّهُمَّ اجمعْنا بهِ في الفِردَوسِ الأعلى كما جَمَعْتَنا على مَحبَّتِهِ في الدُّنيا.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
–للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف