سِلْسِلَةُ زَادِ الأَئِمَّةِ وَالخُطَبَاءِ ( 28 ) تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ
تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ

زاد الأئمة (28) : وزارة الأوقاف تعلن رسميا عن زاد الأئمة والخطباء.. الدليل الإرشادي لـ خطبة الجمعة القادمة حول : تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ ، بتاريخ الجمعة ٧ جمادى الآخرة ١٤٤٧هـ ٢٨-١١-٢٠٢٥م.
ننفرد بنشر زاد الأئمة والخطباء.. الدليل الإرشادي لخطب الجمعة القادمة : تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ ، بصيغة WORD
ننشر زاد الأئمة والخطباء.. الدليل الإرشادي لخطب الجمعة القادمة : تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ ، بصيغة pdf
ولقراءة زاد الأئمة والخطباء.. لـ خطبة الجمعة القادمة :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
________________________________________
اَلْهَدَفُ:
اَلتَّوْعِيَةُ بِأَهَمِّيَّةِ تَكْرِيمِ كِبَارِ السِّنِّ وَرِعَايَةِ أَصْحَابِ الْفَضْلِ وَإِنْزَالِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ.
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَفْضَلِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ تَوْقِيرَ الْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ لَيْسَ سُلُوكًا اِجْتِمَاعِيًّا عَابِرًا، بَلْ هُوَ مَبْدَأٌ حَضَارِيٌّ، وَوَصِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَعَلَامَةٌ عَلَى رُقِيِّ الْإِنْسَانِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةً عَلَى رُقِيِّ الْمُجْتَمَعِ.
وَفِي زَمَنٍ تَتَسَارَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ، وَتَتَغَيَّرُ فِيهِ الْمَعَايِيرُ، تَبْقَى بَعْضُ الْقِيَمِ ثَابِتَةً لَا تَتَبَدَّلُ، لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ إِنْسَانِيَّةِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ جُزْءًا مِنْ هُوِيَّتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ. وَمِنْ هَذِهِ الْقِيَمِ الْأَصِيلَةِ تَوْقِيرُ الْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ؛ فَهِيَ قِيمَةٌ رَسَّخَتْهَا الشَّرِيعَةُ، وَعَمَّقَهَا التَّوْجِيهُ النَّبَوِيُّ، وَبِهَا تَسْمُو الْمُجْتَمَعَاتُ وَتَسْتَقِيمُ الْعَلَاقَاتُ.
إِنَّ اِحْتِرَامَ كِبَارِ السِّنِّ وَأَهْلِ الْفَضْلِ وَتَوْقِيرَهُمْ رَكِيزَةٌ أَسَاسِيَّةٌ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُتَمَاسِكَةِ وَالْمُتَرَابِطَةِ، وَلَكِنْ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْقِيَمِ، وَاِنْشِغَالِ الْأَفْرَادِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَتَأَثُّرِ الشَّبَابِ بِثَقَافَاتٍ مَغْلُوطَةٍ تُقَلِّلُ مِنْ مَكَانَةِ كِبَارِ السِّنِّ وَأَهْلِ الْفَضْلِ، بَدَأَتْ تَتَّسِعُ فِي بَعْضِ الْمُجْتَمَعَاتِ ظَاهِرَةُ عَدَمِ اِحْتِرَامِ الْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ.
________________________________________
اِعْرِفْ لِلْكَبِيرِ قَدْرَهُ وَحَقَّهُ:
اِعْرِفْ لِلْكَبِيرِ قَدْرَهُ وَحَقَّهُ، فَإِذَا مَاشَيْتَهُ فَسِرْ عَنْ يَمِينِهِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَإِذَا دَخَلْتَ أَوْ خَرَجْتَ فَقَدِّمْهُ عَلَيْكَ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَإِذَا اِلْتَقَيْتَ بِهِ فَأَعْطِهِ حَقَّهُ مِنَ السَّلَامِ وَالْاِحْتِرَامِ، وَإِذَا اِشْتَرَكْتَ مَعَهُ فِي حَدِيثٍ فَمَكِّنْهُ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَكَ، وَاِسْتَمِعْ إِلَيْهِ بِإِصْغَاءٍ وَإِجْلَالٍ، وَإِذَا كَانَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدْعُو لِلْمُنَاقَشَةِ فَنَاقِشْهُ بِأَدَبٍ وَسَكِينَةٍ وَلُطْفٍ، وَغُضَّ مِنْ صَوْتِكَ فِي حَدِيثِكَ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَاطَبْتَهُ أَوْ نَادَيْتَهُ فَلَا تَنْسَ تَكْرِيمَهُ فِي الْخِطَابِ وَالنِّدَاءِ. [مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ]
________________________________________
اِحْتِرَامُ “اَلْكَبِيرِ” وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ وَعُرْفِيٌّ:
لَقَدْ أَقَامَ دِينُنَا الْحَنِيفُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ مِنَ الْاِحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ، وَيُعَدُّ “اِحْتِرَامُ كِبَارِ السِّنِّ” مِنَ الْقِيَمِ النَّبِيلَةِ الَّتِي أَحَاطَهَا الشَّرْعُ وَالْعُرْفُ بِسِيَاجٍ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، اِعْتِرَافًا بِالْفَضْلِ لِأَهْلِهِ، وَلِيُصْبِحَ الْمُجْتَمَعُ آمِنًا مُتَآلِفًا، يَشْعُرُ فِيهِ كُلُّ فَرْدٍ بِأَنَّهُ مَحَطُّ الْاِهْتِمَامِ، وَالشَّرَفِ وَالتَّوْقِيرِ.
وَأَخْبَرَ اَلْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةَ قَدْ اِقْتَضَتْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُرُّ بِأَطْوَارٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَنْشَأُ طِفْلًا ضَعِيفًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ فَتْرَةِ الشَّبَابِ وَالْفُتُوَّةِ يَصِيرُ كَهْلًا وَشَيْخًا كَبِيرًا، قَالَ تَعَالَى: {اَللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [اَلرُّومُ: ٥٤].
وَحَثَّ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى “اِحْتِرَامِ كِبَارِ السِّنِّ”؛ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنْ غَيْرِهِمْ، الَّذِينَ تُسَاعِدُهُمْ صِحَّتُهُمْ عَلَى تَخَطِّي الْأَزَمَاتِ وَظُرُوفِ الْحَيَاةِ الْقَاسِيَةِ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ} [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ].
بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ هَذَا الَّذِي أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ عَنِ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ بِـ “كِبَارِ السِّنِّ”، فَنَفَى عَنْهُ “كَمَالَ الْإِيمَانِ”؛ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا} [رَوَاهُ أَحْمَدُ]، وَفِي رِوَايَةِ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا} [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي “اَلْأَدَبِ الْمُفْرَدِ”].
________________________________________
أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ:
عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً، وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ، فَأَقْعَدَتْهُ، فَأَكَلَ، فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ} [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ].
(“أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ”) أَيْ عَامِلُوا كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يُلَائِمُ مَنْصِبَهُ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى مُرَاعَاةِ مَقَادِيرِ النَّاسِ وَمَرَاتِبِهِمْ وَمَنَاصِبِهِمْ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَجَالِسِ وَفِي الْقِيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ”. [عَوْنُ الْمَعْبُودِ].
إِنَّ قَاعِدَةَ “أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ” لَيْسَتْ مُجَرَّدَ شِعَارٍ، بَلْ مَنْهَجٌ إِسْلَامِيٌّ أَصِيلٌ يُوَجِّهُ السُّلُوكَ الْاِجْتِمَاعِيَّ وَالْإِدَارِيَّ وَالتَّرْبَوِيَّ. وَمَتَى اِلْتَزَمَ بِهَا النَّاسُ، سَادَ بَيْنَهُمْ اِحْتِرَامُ الْقَدْرِ، وَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ فِي التَّعَامُلِ، وَاِسْتَقَامَتِ الْحَيَاةُ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ الَّتِي جَاءَ بِهَا سَيِّدُنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
________________________________________
الْإِسْلَامُ وَتَرْسِيخُ ثَقَافَةِ اِحْتِرَامِ “اَلْكَبِيرِ”:
جَعَلَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِلِ السِّنِّ دَوْرًا فِي “أَوْلَوِيَّةِ إِمَامَةِ الصَّلَاةِ -إِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا-؛ فَقَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصُحْبَةٍ مَعَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {اِرْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ} [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَفِي السَّلَامِ، فَيُسَنُّ سَلَامُ الصَّغِيرِ عَلَى “كَبِيرِ السِّنِّ”؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ} [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَبِّي النَّشْءَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَيُبَشِّرُ مَنْ يَلْتَزِمُ هَذَا بِمُرَافَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَقَالَ لِي: {يَا أَنَسُ، وَقِّرِ الْكَبِيرَ، وَارْحَمِ الصَّغِيرَ تُرَافِقْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ].
________________________________________
لَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ:
كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَقِّرُ “كِبَارَ السِّنِّ”، وَيُؤْثِرُ أَلَّا يَأْتُوا إِلَيْهِ، بَلْ يَأْتِيهِمْ بِنَفْسِهِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: {لَوْ أَقْرَرْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ تَكْرِمَةً لِأَبِي بَكْرٍ} [رَوَاهُ أَحْمَدُ].
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَحَدَّثَ عِنْدَهُ اِثْنَانِ بِأَمْرٍ مَا بَدَأَ بِأَكْبَرِهِمَا سِنًّا، وَقَالَ: {كَبِّرْ كَبِّرْ} [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
إِنَّ “كِبَارَ السِّنِّ” تُرْضِيهِمْ أَدْنَى كَلِمَةٍ، وَيَقْنَعُوا بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ؛ وَقَدْ فَهِمَ رَسُولُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَبِيعَتَهُمْ، فَعَامَلَهُمْ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْجِبِلَّةِ؛ فَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ “أَنْوَاعٌ مِنَ الثِّيَابِ”، فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: اِنْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: {خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ} [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَكَانَ مَخْرَمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبِيرَ السِّنِّ، فَسَكَنَتْ نَفْسُهُ، وَهَدَأَ بَالُهُ، وَرَضِيَ، وَرَجَعَ بِخَيْرِ مَا أَرَادَ.
________________________________________
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ:
إِنَّ اَلرَّحْمَةَ بِكِبَارِ السِّنِّ، وَالْقِيَامَ عَلَى قَضَاءِ مَصَالِحِهِمْ، مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا شَهَامَةُ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَمَا خَرَجَ طَرِيدًا وَحِيدًا، وَتَوَجَّهَ تِلْقَاءَ “مَدْيَنَ”، فَوَجَدَ اِمْرَأَتَيْنِ تَحْبِسَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ النَّاسِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ سَقْيِ مَوَاشِيهِمْ، وَقَدْ تَعَلَّلَتَا بِأَنَّ أَبَاهُمَا لَا يَسْتَطِيعُ مِنَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ أَنْ يَسْقِيَ مَاشِيَتَهُ، فَسَارَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَضَاءِ مَصْلَحَتِهِمَا، حَتَّى كَانَتَا أَوَّلَ الرُّعَاءِ رِيًّا، فَاِنْصَرَفَتَا إِلَى أَبِيهِمَا بِغَنَمِهِمَا {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [اَلْقَصَصُ: ٢٣: ٢٤]، فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَمَّلَ مَشَقَّةَ السَّقْيِ، وَآثَرَ الْمُزَاحَمَةَ مَعَ السُّقَاةِ دُونَ أَنْ يَطْلُبَ أَجْرًا مِنْهُمَا، رِفْقًا بِحَالِهِمَا، وَحَالِ أَبِيهِمَا “اَلشَّيْخِ الْكَبِيرِ”.
قَالَ اَلسُّدِّيُّ: “رَحِمَهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، فَأَتَى إِلَى الْبِئْرِ فَاِقْتَلَعَ صَخْرَةً عَلَى الْبِئْرِ، كَانَ النَّفَرُ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْفَعُوهَا، فَسَقَى لَهُمَا مُوسَى دَلْوًا فَأَرْوَتَا غَنَمَهُمَا، فَرَجَعَتَا سَرِيعًا، وَكَانَتَا إِنَّمَا تَسْقِيَانِ مِنْ فُضُولِ الْحِيَاضِ”. [جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ].
وَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -وَهُوَ خَلِيفَةٌ- يَخْرُجُ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ، فَيَدْخُلُ بَيْتًا؛ لِيَقْضِيَ حَاجَةَ اِمْرَأَةٍ عَجُوزٍ عَمْيَاءَ قَدْ قَعَدَ بِهَا السِّنُّ، فَرَآهُ طَلْحَةُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَلْحَةُ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَإِذَا بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ، فَقَالَ لَهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ أَ عَثَرَاتِ عُمَرَ تَتْبَعُ؟! [حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ].
________________________________________
اَلْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى اِحْتِرَامِ الْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ:
إِنْ أَحْسَنْتَ إِلَى “اَلْكَبِيرِ” سَيُسَخِّرُ اللَّهُ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْكَ فِي عَجْزِكَ وَشَيْخُوخَتِكَ، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آلُ عِمْرَانَ: ١٤٠]؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اَلْبِرُّ لَا يَبْلَى، وَالْإِثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُنْ كَمَا شِئْتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ} [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي “اَلزُّهْدِ الْكَبِيرِ”].
وَمِنَ الصُّوَرِ الْغَرِيبَةِ عَنْ أَخْلَاقِ مُجْتَمَعَاتِنَا: أَنْ تَرَى الشَّبَابَ فِي طُرُقِ الْمُوَاصَلَاتِ الْعَامَّةِ يَجْلِسُونَ عَلَى كَرَاسٍ، وَتَرَى رِجَالًا وَنِسَاءً مِنْ كِبَارِ السِّنِّ يَقِفُونَ بِجَانِبِهِمْ دُونَ أَدْنَى مُبَالَاةٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَرْبِيَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَخْلَاقِيَّةِ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ} [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي “شُعَبِ الْإِيمَانِ”].
________________________________________
اَلْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ:
إِذَا نَظَرْتَ فِي وَاقِعِنَا الْيَوْمَ تَجِدْ خَلَلًا كَبِيرًا فِي هَذَا الْخُلُقِ الْعَظِيمِ “اِحْتِرَامِ الْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ”، فَمَا أَحْوَجَ أَوْلَادَنَا فِي عَصْرٍ تَغَلْغَلَتْ فِيهِ الْمَادَّةُ إِلَى اِسْتِحْضَارِ هَذِهِ الْقِيمِ الْإِيمَانِيَّةِ بَلْ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي اِحْتِرَامِ الْكَبِيرِ وَتَوْقِيرِهِ؛ فَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {اَلْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ} [رَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ].
فَيَجِبُ عَلَى أَوْلَادِنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ اِلْتِزَامُ هَذَا الْأَدَبِ الْإِسْلَامِيِّ الرَّفِيعِ مَعَ “كِبَارِ السِّنِّ” فِي مُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ وَالْمَوَاقِفِ، لَا سِيَّمَا وَقْتَ تَفَاقُمِ الْحَاجَةِ، وَاِشْتِدَادِ الْبُؤْسِ، وَإِلَّا فَالتَّخَلِّي عَنْ هَذَا الْخُلُقِ يُنْذِرُ بِوَبَالٍ عَظِيمٍ بِمُرْتَكِبِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى خِسَّةِ فَاعِلِهِ، وَاِنْعِدَامِ مُرُوءَتِهِ، وَسُوءِ تَرْبِيَتِهِ.
________________________________________
مِنْ صُوَرِ “اِحْتِرَامِ الْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ”:
١- حُسْنُ اِسْتِقْبَالِهِمْ:
عَلَيْنَا أَنْ نُحْسِنَ اِسْتِقْبَالَ “اَلْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ”، وَنَتَذَكَّرَ حَسَنَاتِهِمْ مَعَنَا؛ وَفِي السِّيرَةِ الْعَطِرَةِ مَا يُرْشِدُكَ إِلَى ذَلِكَ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: جَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ: لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: {مَنْ أَنْتِ؟} قَالَتْ: أَنَا جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ، فَقَالَ: {بَلْ أَنْتِ حَسَّانَةُ الْمُزَنِيَّةُ، كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟} قَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ؟ فَقَالَ: {إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ} [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي “شُعَبِ الْإِيمَانِ”].
٢- اَلْفَرَحُ وَالسُّرُورُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ:
يُعَلِّمُنَا الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقَافَةَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ مَعَ “كِبَارِ السِّنِّ”، وَالْبَشَاشَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَعَدَمَ التَّدْقِيقِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَتَتْهُ عَجُوزٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: {إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ}، فَذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ لَقِيَتْ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: {إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَدْخَلَهُنَّ الْجَنَّةَ حَوَّلَهُنَّ أَبْكَارًا} [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي “اَلْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ”].
٣- تَقْدِيمُ الْكِبَارِ فِي الْكَلَامِ وَفِي الْمَجَالِسِ:
يُعَلِّمُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْخُلُقَ فِي مَوْقِفٍ عَمَلِيٍّ تَطْبِيقِيٍّ؛ فَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ} [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
قَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ: “فِيهِ: تَقْدِيمُ ذِي السِّنِّ فِي السِّوَاكِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُ ذِي السِّنِّ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشْيِ وَالْكِتَابِ، وَكُلِّ مَنْزِلَةٍ قِيَاسًا عَلَى السِّوَاكِ، وَاِسْتِدْلَالًا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ: {كَبِّرْ كَبِّرْ}: يُرِيدُ لِيَتَكَلَّمَ الْأَكْبَرُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ أَدَبِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: تَقْدِيمُ ذِي السِّنِّ أَوْلَى فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا لَمْ يَتَرَتَّبِ الْقَوْمُ فِي الْجُلُوسِ، فَإِذَا تَرَتَّبُوا، فَالسُّنَّةُ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ مِنَ الرَّئِيسِ أَوِ الْعَالِمِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ “شُرْبِ اللَّبَنِ”. [شَرْحُ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لِاِبْنِ بَطَّالٍ].
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا تَحَدَّثَ عِنْدَهُ اِثْنَانِ بِأَمْرٍ مَا بَدَأَ بِأَكْبَرِهِمَا سِنًّا، وَقَالَ: {كَبِّرْ كَبِّر}” [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
٤- اِسْتِشَارَتُهُمْ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ:
يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَخْذُ مَشْوَرَةِ الْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ فِي الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ خِبْرَةً وَحِنْكَةً بِشُئُونِ الْحَيَاةِ، وَأَعْظَمُ دِرَايَةً بِالْأَعْرَافِ وَالتَّقَالِيدِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ} [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ].
٥- أَدَبُ تَقْدِيمِ الضِّيَافَةِ وَالْبَدْءِ فِيهَا بِالْأَكْبَرِ أَوِ الْأَعْلَمِ ثُمَّ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ:
قَدِّمِ الْكَبِيرَ وَذَا الْفَضْلِ فِي الضِّيَافَةِ وَالتَّكْرِيمِ، فَاِبْدَأْ بِهِ قَبْلَ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْمَجْلِسِ، عَمَلًا وَاِتِّبَاعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “كُنَّا إِذَا دُعِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طَعَامٍ، لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعَ يَدَهُ”. [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَقَدْ عَقَدَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي كِتَابِهِ “رِيَاضِ الصَّالِحِينَ” بَابًا خَاصًّا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَأَوْرَدَ فِيهِ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَعَنْوَنَهُ بِقَوْلِهِ: “بَابُ تَوْقِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالْكِبَارِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَرَفْعِ مَجَالِسِهِمْ وَإِظْهَارِ مَرْتَبَتِهِمْ”.
قَالَ الْعَلَّامَةُ اِبْنُ عَلَّانَ فِي “دَلِيلِ الْفَالِحِينَ” تَعْلِيقًا عَلَى هَذَا الْعُنْوَانِ الَّذِي عَنْوَنَ بِهِ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ هَذَا الْبَابَ مَا يَلِي: (تَوْقِيرُ الْعُلَمَاءِ) أَيْ تَعْظِيمُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي السِّنِّ. (وَالْكِبَارُ) أَيْ فِي السِّنِّ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ عِلْمٍ. (وَأَهْلُ الْفَضْلِ) مِنَ الْكَرَمِ وَالْمُرُوءَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ خِصَالِ الْكَمَالِ الَّتِي بِهَا تَتَفَاضَلُ الرِّجَالُ. (وَتَقْدِيمُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ) مِمَّنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. (وَرَفْعُ مَجَالِسِهِمْ) وَإِنْ كَانُوا هُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يَطْلُبُوا رَفْعَهَا تَوَاضُعًا وَاِتِّبَاعًا لِحَدِيثِ “كَانَ يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ”. (وَإِظْهَارُ مَرْتَبَتِهِمْ) أَدَاءً لِحَقِّ ذِي الْحَقِّ.
وَظَاهِرُ تَعْبِيرِهِ أَنَّهُمْ عِنْدَ اِجْتِمَاعِهِمْ يُرَتَّبُونَ بِتَرْتِيبِهِمْ فِي الذِّكْرِ، فَيُقَدَّمُ ذُو الْعِلْمِ عَلَى ذِي السِّنِّ، وَهُوَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ…
فَالسُّنَّةُ اَلْبَدْءُ بِالْأَكْبَرِ أَوِ الْأَفْضَلِ أَوِ الْأَعْلَمِ، أَيْ عِنْدَ وُجُودِ شَخْصٍ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَاضِرِينَ بِمِزْيَةِ كِبَرِ السِّنِّ – مَثَلًا -، أَوْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، أَوْ نَبَاهَةِ الذِّكْرِ، أَوْ شَرَفِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ، أَوْ شَرَفِ الْإِمَامَةِ وَالْقِيَادَةِ، أَوْ شَرَفِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ شَرَفِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَالسُّنَّةُ فِي الضِّيَافَةِ وَالتَّكْرِيمِ الْبَدْءُ بِهِ ثُمَّ بِمَنْ عَلَى يَمِينِهِ أَيًّا كَانَ، جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْبَدْءِ بِالْيَمِينِ، وَالنُّصُوصِ الْقَائِلَةِ: {كَبِّرْ كَبِّر}، وَ{لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا}، وَ{اِبْدَؤُوا بِالْأَكَابِرِ}، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ غَلَطًا وَضَعْفَ فَهْمٍ لِلنُّصُوصِ وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا: أَنَّ السُّنَّةَ الْبَدْءُ بِمَنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْيَمِينِ لِلْمُضِيفِ أَيًّا كَانَ، اِسْتِنَادًا إِلَى أَحَادِيثِ الْبَدْءِ بِالْيَمِينِ. وَهَذَا يُشْرَعُ حِينَمَا يَكُونُ الْحَاضِرُونَ مُتَسَاوِينَ مُتَقَارِبِينَ فِي الْخِصَالِ أَوِ الْفَضَائِلِ وَالسِّنِّ، فَيَبْدَأُ بِأَوَّلِ مَنْ فِي يَمِينِ الْمُضِيفِ، أَمَّا إِذَا تَسَاوَوْا فِيهَا وَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمْ وَلَوْ بِكِبَرِ السِّنِّ مَثَلًا، فَيَبْدَأُ بِهِ، لِأَنَّهُ وُصِفَ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَيُرَجَّحُ بِهَا عَلَى سِوَاهُ، فَيَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ غَيْرِهِ.
فَالْبَدْءُ بِالْيَمِينِ مُطْلَقًا مَشْرُوعٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصْفٌ فَاضِلٌ يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ لِصَاحِبِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ كَمَا ذُكِرْتُ قَرِيبًا، أَمَّا عِنْدَ وُجُودِ وَصْفٍ اِعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ الْحَنِيفُ مِزْيَةً وَشَرَفًا وَفَضِيلَةً، فَالْبَدْءُ بِأَفْضَلِ مَنِ اِتَّصَفَ بِهِ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِلَا رَيْبٍ.
وَعَلَى حَدِّ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ: سَيَبْدَأُ الْمُضِيفُ بِمَنْ كَانَ فِي أَوَّلِ جِهَةِ يَمِينِهِ، وَلَوْ كَانَ أَصْغَرَ الْأَوْلَادِ وَالْأَطْفَالِ، أَوْ صَدْرَ الْمَجْلِسِ، أَوْ سَائِقًا أَوْ مُرَافِقًا لِوَجْهِ الْقَوْمِ، أَوْ رَأْسَ الْعَشِيرَةِ، أَوْ تَاجَ الْمَجْلِسِ: الْعَالِمَ الْجَلِيلَ، أَوِ الْأَمِيرَ النَّبِيلَ، أَوِ الْجَدَّ أَوِ الْوَالِدَ أَوِ الْعَمَّ الْفَضِيلَ، فَهَلْ يَسُوغُ فِي فِقْهِ الْإِسْلَامِ وَأَدَبِهِ: أَنْ يُتْرَكَ هَؤُلَاءِ الْعِلْيَةُ مِنَ الْقَوْمِ مِنَ الْبَدْءِ بِضِيَافَتِهِمْ وَتَكْرِيمِهِمْ، وَيَبْدَأَ بِالطِّفْلِ أَوِ الْخَادِمِ أَوِ السَّائِقِ، ثُمَّ بِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَمْثَالِهِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ قَلِيلًا؟! وَقَدْ يَكُونُ عَدَدُ الَّذِينَ عَلَى الْيَمِينِ قَبْلَ كَبِيرِ الْقَوْمِ وَأَفْضَلِهِمْ عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَلَا يَنْتَهِي الْمُضِيفُ إِلَى وَجِيهِ الْمَجْلِسِ وَصَدْرِهِ إِلَّا بَعْدَ عَشَرَةِ أَشْخَاصٍ أَوْ عِشْرِينَ شَخْصًا!
حَاشَا فِقْهَ الْإِسْلَامِ وَأَدَبَهُ أَنْ يُسَوِّغَ هَذَا الْإِخْلَالَ بِالْأَدَبِ وَالتَّجَمُّلِ الْفِطْرِيِّ. أَمَّا فِي حَالِ طَلَبِ السُّقْيَا مِنْ صَغِيرٍ أَوْ مَفْضُولٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَقَدْ صَارَ هُوَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِإِجَابَتِهِ وَالْبَدْءِ بِهِ لِطَلَبِهِ، ثُمَّ بِمَنْ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ وَأَقَلَّهُمْ شَأْنًا، وَإِذَا لَحَظَ -عِنْدَ تَقْدِيمِ مَا طَلَبَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ أَوْ سِوَاهُ – أَنَّ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ أَوْ أَفْضَلُ، لَهُ تَوَجُّهٌ إِلَى مَا قُدِّمَ إِلَيْهِ، فَآثَرَهُ بِالْبَدْءِ بِهِ، رِعَايَةً لِلْأَدَبِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْإِيثَارِ، فَذَاكَ فَضْلٌ كَبِيرٌ قَدْ حَازَهُ، زَادَ بِهِ عِطْرًا، وَاِرْتَفَعَ بِهِ قَدْرًا وَأَحْرَزَ بِهِ أَجْرًا. [مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ]
________________________________________
إِجْرَاءَاتٌ عَمَلِيَّةٌ لِتَرْسِيخِ ثَقَافَةِ اِحْتِرَامِ كِبَارِ السِّنِّ:
اَلتَّحِيَّةُ اللَّائِقَةُ: اَلْمُبَادَرَةُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ، وَالْوُقُوفُ لَهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِمْ، وَإِظْهَارُ الْبِشْرِ عَلَى الْوَجْهِ.
إِتَاحَةُ الْأَوْلَوِيَّةِ: تَقْدِيمُهُمْ فِي الصُّفُوفِ، وَالْمَقَاعِدِ، وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَالْمُنَاسَبَاتِ.
خَفْضُ الصَّوْتِ عِنْدَ مُخَاطَبَتِهِمْ: لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ يُشْعِرُهُمْ بِالْإِهَانَةِ أَوِ التَّقْلِيلِ.
اَلْإِنْصَاتُ وَالصَّبْرُ عِنْدَ حَدِيثِهِمْ: وَعَدَمُ مُقَاطَعَتِهِمْ، وَلَوْ طَالَ كَلَامُهُمْ أَوْ تَكَرَّرَ.
اَلتَّخْفِيفُ عَنْهُمْ فِي الْمَشَقَّةِ: حَمْلُ الْأَغْرَاضِ عَنْهُمْ، مُسَاعَدَتُهُمْ فِي الْحَرَكَةِ، وَإِرْشَادُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
إِظْهَارُ التَّقْدِيرِ اللَّفْظِيِّ: اِسْتِخْدَامُ أَلْفَاظِ الْاِحْتِرَامِ مِثْلِ: “تَفَضَّلُوا”، “لَوْ سَمَحْتُمْ”.
اَلْاِسْتِئْذَانُ قَبْلَ مُسَاعَدَتِهِمْ: لِيَكُونَ الْمَوْقِفُ لَطِيفًا وَغَيْرَ مُتَكَلِّفٍ.
سُؤَالُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ: زِيَارَةٌ، اِتِّصَالٌ، أَوْ رِسَالَةٌ بَسِيطَةٌ تَعْكِسُ الْاِهْتِمَامَ.
اَلْاِسْتِفَادَةُ مِنْ خِبْرَاتِهِمْ: سُؤَالُهُمْ وَالْاِسْتِمَاعُ لِرَأْيِهِمْ فِي الْمَوَاقِفِ وَالتَّجَارِبِ.
تَجَنُّبُ السُّخْرِيَةِ مِنْ ضَعْفِهِمْ: سَوَاءً ضَعْفِ السَّمْعِ أَوِ الْحَرَكَةِ أَوِ النِّسْيَانِ.
إِنَّ اِحْتِرَامَ كِبَارِ السِّنِّ مِنَ الْقِيَمِ الَّتِي تُمَيِّزُ الْمُجْتَمَعَاتِ الرَّاقِيَةَ وَالْمُتَحَضِّرَةَ، وَهُوَ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَإِنْسَانِيٌّ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْفَرْدِ لِيَشْمَلَ الْبِنَاءَ الْمُجْتَمَعِيَّ بِأَسْرِهِ. وَمِنْ خِلَالِ مُبَادَرَةِ “صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ”، نَهْدِفُ إِلَى إِعَادَةِ هَذَا الْاِحْتِرَامِ إِلَى مَكَانَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَتَصْحِيحِ الْمَفَاهِيمِ الْمَغْلُوطَةِ الَّتِي قَدْ تُؤَدِّي إِلَى هَدْمِ أَوَاصِرِ الْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ بَيْنَ الْأَجْيَالِ، لِنَصْنَعَ مُجْتَمَعًا مُتَمَاسِكًا يَحْتَرِمُ مَاضِيَهُ وَيَحْمِي مُسْتَقْبَلَهُ.
________________________________________
مَرَاجِعُ لِلْاِسْتِزَادَةِ:
دَلِيلُ الْفَالِحِينَ إِلَى طُرُقِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ، اِبْنُ عَلَّانَ الصِّدِّيقِيُّ.
سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، شَمَائِلُهُ الْحَمِيدَةُ، خِصَالُهُ الْمَجِيدَةُ، لِعَبْدِ اللَّهِ سِرَاجِ الدِّينِ.
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف










