نعمــة الفهـــم أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : ” وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ” (الأنبياء : 78- 79) فعبر الحق سبحانه وتعالى بلفظ “ففهمناها ” ولم يقل علمناها ، لأن العلم شيء والفهم شيء آخر .
ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي الله ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله” (صحيح البخاري) ، أي ويعطي الله (عز وجل) العلم والفقه والفهم من يشاء ، ويمن به على من يشاء ، فالفهم نعمة من أجل نعم الله (عز وجل) على عباده .
وقد قال رجل للقاضي شريح : علمني القضاء ، فقال له شريح: القضاء فقه ، القضاء لا يُعَّلم، أي أنه قائم على الفقه والفهم ، يقال : فقَه الرجل بفتح القاف إذا فهم ، وفقِه بكسر القاف إذا سبق غيره في الفهم ، وفقُه بالضم إذا صار الفقه والفهم له لازمة وملكة وسجية .
ولا يظن من حفظ بعض المسائل من بعض الكتب أنه قد صار حجة ، أو فقيهًا ، أو مرجعًا يرجع إليه وينزل على قوله أو رأيه ، فالأمر أبعد وأعمق، إذ لو كان الأمر واقفًا عند حدود معرفة بعض الأحكام الجزئية بمعزل عن أصولها وسياقها وزمانها ومكانها وقواعدها الكلية والأصولية لكان الخطب هينًا والأمر جد يسير ، غير أن الأمر أبعد من ذلك وأدق ، فعندما دخل الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) المسجد ووجد رجلاً يتصدر مجلس العلم سأله عن الناسخ والمنسوخ فلم يدر جوابًا ، فقال عليّ (رضي الله عنه) : هذا ليس بعالم ، هذا رجل يقول: أنا فلان بن فلان فاعرفوني.
فإلى جانب معرفـة القـواعد الأصوليـة ، وقـواعـد الفقـه الكليـة ، وعلم الحديث رواية ودراية ، وعلوم القرآن وما يتفرع عنها ويدور حولها من دراسات قرآنية وأسرار بيانية وبلاغية ، هناك فقه الواقع ، وفقه الأولويات ، وفقه المقاصد ، وفقه النوازل ، وفقه المتاح ، وفقه الموازنات، مما لا غنى عنه للمفتي فضلا عن المجتهد.
وتبقى بعد ذلك نعمة الفقه والفهم والفيض الرباني ، حيث يقول الحق سبحانه : “وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ” (الكهف : 65) ، ويقول سبحانه : ” وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (البقرة : 282) .