ننفرد بنشر زاد الأئمة : لـ خطبة الجمعة القادمة حول : الأوطان ليست حفنة من التراب

ننفرد بنشر زاد الأئمة : وزارة الأوقاف تعلن رسميا عن زاد الأئمة والخطباء.. الدليل الإرشادي لـ خطبة الجمعة القادمة حول : الأوطان ليست حفنة من التراب ، بتاريخ 17 ذو الحجة 1446هـ ، الموافق 13 يونيو 2025م.
الإصدار الرابع من سلسلة “زاد الأئمة والخطباء: الدليل الإرشادي لخطب الجمعة”
وتدعو وزارة الأوقاف كل أبنائها إلى التوسع في القراءة الواعية المستوعبة لكل ميادين الحياة واهتماماتها، وامتلاك الثقافة الواسعة التي تعينهم على أداء دورهم الديني الوطني على أكمل وجه.
ننفرد بنشره : لتحميل زاد الأئمة والخطباء.. الدليل الإرشادي لخطب الجمعة القادمة : الأوطان ليست حفنة من التراب بصيغة word
لتحميل زاد الأئمة والخطباء.. الدليل الإرشادي لخطب الجمعة القادمة : الأوطان ليست حفنة من التراب بصيغة pdf
زاد الأئمة والخطباء
الدليل الإرشادي لخطب الجمعة
زاد الأئمة والخطباء (4)
الدليل الإرشادي لخطب الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأوطان ليست حفنة من تراب
الحمد لله الذي جعل الأوطان محبوبة لكل نفسٍ سوية، وجعل الحنين إليها في قلوب الخلق مرغوبةً ومرضية، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمدًا المبعوث إلى كل البريَّة، والذي «كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا». [صحيح البخاري] من شوقه وحنينه إلى طلعتها البهية.
أما بعد:
فإن موضوع خطبتنا اليوم ذو شجون، يلامس شغاف القلوب، ويتعلق بفطرة أصيلة أودعها الله تعالى في نفوسنا، ألا وهو حب الأوطان.
- مفهوم الوطن:
«إن الوطن في الحقيقة ليس حفنة تراب، بل هو شعب، وحضارة، ومؤسسات، وتاريخ، وانتصارات، وقضايا، ومكانة إقليمية ودولية، وتأثير سياسي وفكري في محيطنا العربي والإسلامي، ورجال عباقرة صنعوا تاريخ هذا الوطن في مجال العلم الشرعي، وفي التاريخ الوطني الحافل بالنضال لحماية هذا الوطن، وفي التاريخ الاقتصادي، والتاريخ العسكري، والدبلوماسي، والأدبي، والفني، وغير ذلك من المجالات التي نبغ فيها العباقرة من أبناء هذا الوطن.
فتجاهلُ كل هذه المكونات التي تصنع مفهوم الوطن، واختزالها في حفنة تراب، يمثل عقوقا وطنيا، وفهما مجتزئا ومشوها، وتحقيرًا لأمر عظيم».[الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين]
- حديث القرآن والسنة عن الوطن يدل على أهميته العظمى:
جاءت عشرات الآيات تشير إلى قيمة الوطن وأهميته؛ فعند قوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29]. قال الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي: «قال علماؤنا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ، وَحَنَّ إلَى وَطَنِهِ. وَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِر”. [أحكام القرآن].
وعند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]. قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى: «جعل مفارقة الأوطان معادلةً لقتل النفس». [مفاتيح الغيب].
وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: «وقد قُرنت مفارقة الوطن بالقتل، قَال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ} [فتح الباري].
وعند قوله: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ} [الحشر: 3]. يقصّ علينا ربنا أن مجرد إخراجهم من الوطن عقاب شديد لكل من خالف أو جحد رسالة الأنبياء، وأن الحق سبحانه قد سماه عذابًا، وجعله كافيًا دون سواه من ألوان العذاب فقال: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا} أي: لولا إجلاؤهم ومفارقتهم لأوطانهم لعذبهم في الدنيا بالقتل والسباء ونحوه، ولكنه اكتفى بالإخراج عذابًا لهم.
قال الإمام البقاعي المتوفى 885هـ: «ولما كان الوطن عديلَ الروح؛ لأنه للبدن كالبدن للروح، فكان الخروج منه في غاية العسر» [نطم الدرر].
والآيات في ذلك كثيرة لمن تأملها وطالع كلام المفسرين.
وفي قصة بداية نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وذهابه إلى ورقة بن نوفل؛”فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ” [متفق عليه].
قال الإمام السهيلي: «ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس، وأيضا فإنه حَرَم الله وجوار بيته وبلدة أبيه إسماعيل؛ فلذلك تحركتْ نفسُه عند ذكر الخروج منه، ما لم تتحرك قبل ذلك فقال “أومخرجي هم؟ ” والموضع الدال على تحرك النفس وتحرقها إدخال الواو بعد ألف الاستفهام، مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، وذلك أن الواو ترد إلى الكلام المتقدم، وتشعر المخاطب بأن الاستفهام على جهة الإنكار أو التفجع لكلامه أو التألم منه».[الروض الأُنُف (2/ 273)]
ورُوي من عدة طرق أن أُصيل الهُذلي- بالتصغير- الغفاري قدم إلى رسول الله ﷺ من مكة قبل أن يُضرب الحجاب، فقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: كيف تركتَ مكة؟.
قال: اخضرَّت جنباتها، وابيضَّت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها، وذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله ﷺ.
فقال له رسول اللهِ ﷺ: حسبك يا أُصيل، لا تُحْزِنّي، وفي لفظ قال: لا تشوقنا يا أُصيل، وفي لفظ قال: دع القلوب تَقَر. [أورده السخاوي في المقاصد الحسنة وغيره]. ومعناها: دع القلوب تقر بالمدينة، ولا تشوقنا وتشوقهم إلى مكة.
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يريد منا أن نرتقيَ بإيماننا من درجة الإنسانية المتجردة عن الإحساس بالكائنات إلى الإنسانية التي تعتقد أن كل شيء في الكون فيه إحساس وشعور متدفق بالحزن والفرح، والرضا والغضب، والعطاء والمنع، وبينك وبينه صلة وعلاقة وُدٍّ.
فالوطنُ ليس عبارة عن جماد لا إحساس فيه، بل هو قيم وأخلاق، عادات وتقاليد، ولاء وانتماء، إخلاص ووفاء، حنين إلى البقاع، شوق إلى المراقد، إحساس بالكائنات، حضارة وثقافة، إحساس بالجمال.
فليست الجمادات بأموات على الحقيقة، ولكن يعلوها قَبَسٌ من نورٍ لا يدرك جلاله وعظمته إلا من نوَّر الله تعالى بصيرته، وأوقفه على أنوار هدايته.
وكم ذكر لنا رسولنا الكريم ﷺ سلامَ الحجرِ عليه بمكة قبل البعثة، وحنين الجذع إليه حتى سمع الصحابة بكاءه، فلما استلمه المصطفى ﷺ ووضع يده عليه سكن وهدأ، وكم سبَّح الحصى في كفه الشريف، وكم شكتْ إليه الحيوانات والدواب، وسمع ورأى ذلك أصحابه الكرام البررة، ثم تأمل صورة ناصعة من تفاعله صلوات الله وسلامه عليه من جبل أحد، كما في قوله الشريف ﷺ كما في الصحيح: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» [رواه البخاري ومسلم].
- الوطن شاهد لك أو شاهد عليك:
لا تتوقف معرفة المؤمن عند الإحساس بالوطن وما فيه من كل مظاهر الحياة، بل يجب عليك أن تستشعر أنَّ الوطن بما فيه من إنسان وحيوان وجماد، يشهد لك أو يشهد عليك بين يدي الله تعالى، فهو يحب الصالحين ويكره العاصين، فالحيوان والجماد يبكي ويفرح، ويرضى ويغضب، ويحب ويكره، وقد قال تعالى مخبرًا عن حالة السماء والأرض عند إهلاك فرعون وقومه، بإخبار عجيب في قوله تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 29]. فهل تبكي الأرض؟ وهل تبكي السماء؟ نعم! تبكي الأرض على الصالح إذا مات أربعين صباحًا، كما صح عَنِ سيدنا ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قال: «بِفَقْد الْمُؤْمِنِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» [رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
والعاصي إذا مات تفرحُ الكائنات كلها لموته وذهاب محله وأثره، ويؤيده ما جاء في الصحيحين وغيرهما عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ابْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَال ﷺ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ».
فانظر كيف أن رسولنا الكريم ﷺ يخبرنا أن الفاجر إذا مات لا يستريح منه العباد فقط؛ بل البلاد والشجر والدواب، كأن الجمادات والحيوانات تحس وتستشعر، وهذا الإحساس والاستشعار يفوق الكثير من الناس في كل زمن.
وقد نُقِلَ عن بعض الحكماء: إنَّ من علامة وفاء المرء وحسن دوام عهده: حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه. وإنَّ من علامة رشده: أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة.
- دوائر الانتماء:
إن «الانتماء دوائر، بعضها أوسع من بعض، والأكبر منها لا ينفي الأصغر، والصغير منها لا يكر على الكبير بالبطلان، ولا يقطع الروابط ولا الصلات مع أبناء الانتماء الكبير.
وانتماء الإنسان لوطنه لا يلغي ولا يَنفي انتماءه إلى أمته العربية، وعالمه الإسلامي، لأنها دوائر متداخلة.
والانتماء إما أن يزول، فيدفع صاحبه إلى التنكر والتبرؤ من أوطانه وقومه وأهله، مما لا يجمل به الانسلاخ منه، وإما أن يزيد بصاحبه، فيصل به إلى العصبية، التي تجعل انتماءه هذا يفسد عليه ما يربطه بأبناء الدوائر الأوسع من الانتماء، ففارق بين حسن الانتماء والوفاء، والقيام لكل دائرة من دوائر الانتماء بحقها، بما لا يقطع روابط البشر، وهو الذي نتحدث عنه، وبين التعصب الذي يجعل الإنسان شديد الحمية إلى دائرة بعينها من دوائر الانتماء، تجعله يعادي من سواها ويقاطعه ويتحامل عليه».[الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين].
- محبة الأوطان فطرةٌ فطر الله عليها الإنسان:
بل هي فطرة فطر الله عليها كلَّ كائنٍ حيٍّ؛ حتى إنَّك ترى الحيوانات والطيور تَحِنُّ إلى مكان إقامتها، وترى أهل البادية يألفون حياة البداوة والخشونة ولا يريدون بها بَدَلًا، وأهل المدنية لا يطيقون البعد عن مركز الحضارة والتقدم ولا يرون عنها عِوضًا، ولذا قالوا: «فِطْرةُ الإنسانِ مَعْجونةٌ بحبِّ الوَطَنِ» [البلدان لابن الفقيه (صـ489)].
بل فطرةٌ فُطر عليها سائر المخلوقات كذلك، فالإنسان يحنُّ إلى وطنه، والأسود تحنُّ إلى عُرُنها، والإبل تحنُّ إلى أعطانها، والغنم تحنُّ إلى مرابضها، والطير إلى أوكارها، والحيات إلى جحورها، والنمل إلى قراها.
فلا يوجد في الكون كله مخلوق إلَّا وهو يحن إلى وطنه، ويأنس به، ويشتاق إليه، ويفزع إليه، ومن خرج عن هذا القدر من المحبة والميل خرج عن حَدِّ الفطرة السليمة النقية.
وقد قال أعرابي وقد سُئل عن بلده: أتشتاق إليها؟ فقال: كيف لا أشتاق إلى رملة، كنت رضيع غمامها، وربيب طعامها” [البلدان لابن الفقيه (492)].
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: «وكانت العرب إذا سافرت، حملت معها من تربة بلدها تستشفي به عند مرض يَعْرِضُ» [مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن (1/105)].
- حب الإنسان للوطن معياره الصدق:
بعض الناس يعلق حبَّ الوطن وكراهيته على مقدار رفاهيته فيه، ونسمع بعض الناس يقول: أيُّ وطن أحبه، وأنا لطالما أعاني فيه سوء معاملة أهله؟ وأيُّ وطن أحبه وقد ظُلمت فيه؟ وأيّ وطن وأنا لم آخذ فيه حقي؟
وقد أحسن الشاعر حين قال:
بِلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عزيزةٌ * وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ
ولنا في سيدنا رسول الله ﷺ المثل والقدوة، فقد آذى أهلُ مكةَ رسولَ الله ﷺ في نفسه وماله وأهله، واعتدوا على جنابه العظيم بالسب والشتم والتطاول بالضرب؛ ناهيك عن ألوان السخرية والإيذاء، ووصفوه بالسحر والجنون والكهانة، حتى عزموا على قتله والنيل منه في مرات عديدة.
ولنسأل جميعًا أنفسنا: هل مثل هذا الوطن يُحب؟ وهل مثل هذا البلد يُكرم أهله؟ وهل مثل هذه الأرض يُشتاق إليها؟
نعم، وطن يُحب، فرأينا الرسول الكريم ﷺ عندما أمره الله بالهجرة إلى المدينة المنورة تراه يحن ويشتاق إلى مكة المكرمة ويقف على مشارفها مودعًا وقلبه يتفطر أسيً وحزنًا وألمًا على فراقها، فعَنْ سيدنا أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: «عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» [رواه أحمد في المسند].
ومن حديث سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» [رواه الترمذي وابن حبان].
وقد أحسن الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي حين بيَّن ما كان يحبه ﷺ فقال: «وكان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه، ويحب الأنصار، إلى أشياء لا تحصى مما لا يغنى المؤمن عنها قط» [سير أعلام النبلاء/ (15/394)].
- الأوطان ليست حدودا جغرافية صنعها الاستعمار:
الأوطان بقاع عريقة، قبل الاستعمار بألوف السنين، واستقرار الوضع الحالي على تلك الحدود يوجب علينا حفظها والدفاع عنها، ورفع تلك الحدود لا يكون بالتلاعب، بل بالاتفاقات العليا التي يتم إبرامها وفق آليات محترمة كما صنع الاتحاد الأوربي مثلا، وما لم يتم ذلك فلابد من احترام الوضع القائم والحفاظ عليه وعدم تضييعه ولا انتقاصه ولا التفريط فيه، فضلا عن أن قيمة الوطن ليست متعلقة أصلا بفكرة الحدود، بل الوطن قيمة تاريخية وعلمية وإقليمية وعالمية، والوطن المصري على وجه الخصوص أمر مركب من عبقرية المكان، وعبقرية الزمان، وعبقرية الإنسان.
فالقول بأن الأوطان حدود جغرافية صنعها الاستعمار فيه خلط شديد في المفاهيم، يختزل صورة الوطن في الذهن، ويؤدي إلى صناعة صورة مزيفة، يتم فيها إهدار قيمة الوطن وتاريخه وإنجازاته ودوره، ويتم فيها التلاعب بمشاعر الإنسان، حيث يلتبس في ذهنه مفهوم الوطن، ويتم إلصاق فكرة الاستعمار وآثاره السيئة بفكرة الوطن، بحيث كلما خطرت فكرة الوطن في الذهن انتقل الذهن منها إلى بشاعة الاستعمار وكراهيته، فيتصور أن كراهية الاستعمار تقتضي منه البراءة من الوطن، تحت دعوى أن الوطن صنيعة الاستعمار». [الحق المبين].
الخطبة الثانية: (تحويل حب الوطن إلى سلوكيات وإجراءات وبرامج عمل):
بعد أن تجلت لنا منزلة الوطن في ديننا، ورأينا كيف أحبه نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وكيف أوجبت الشريعة الدفاع عنه، يأتي السؤال الأهم: كيف نترجم هذا الحب وهذا الفهم إلى واقع عملي ملموس في حياتنا اليومية؟ إن حب الوطن ليس مجرد شعارات تُرفع أو كلمات تُقال، بل هو عمل دؤوب، وسلوك قويم، ومسؤولية عظيمة تقع على عاتق كل واحد منا.
– الحفاظ على الاقتصاد الوطني، سواء من حيث العمل الجاد (كل شخص في موقعه) أو فتح مشروعات إنتاجية أو تشجيع المنتجات المحلية (وهي من الأمور المهمة التي تقوي الاقتصاد، وتعود بالنفع على المواطنين، وتزيد من فرص العمل).
وذلك بالإخلاص في العمل وإتقانه، كلٌّ في موقعه ومجاله. فالموظف المخلص في وظيفته، والعامل المتقن في عمله، والطالب المجتهد في دراسته، والمعلم المربي في تربيته لأجياله، والطبيب الحريص على مصلحة مرضاه، والتاجر الصدوق في معاملاته، كل هؤلاء يخدمون وطنهم ويرفعون شأنه بإخلاصهم وأمانتهم.
فالإتقان في العمل هو عبادة نتقرب بها إلى الله تعالى، وخدمة نقدمها لوطننا ومجتمعنا. قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» (رواه البيهقي).
– المحافظة على مقدراته وممتلكاته العامة، فهذه المرافق والطرق والحدائق والمؤسسات هي ملك لنا جميعًا، وهي ثمرةُ جهد وعرقُ أجيال سبقتنا. فالحفاظ عليها واجب شرعي ووطني، والعبث بها أو إتلافها هو خيانة للأمانة وإضرار بالمصلحة العامة، فلا يجوز شرعا رشق القطارات بالحجارة، ولا سرقة الممتلكات العامة، ولا سرقة قضبان القطارات ، ولا الكتابة على حوائط المترو، وغير ذلك من السلوكيات المحرمة شرعا وقانونا.
ولنتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان، فكيف بمن يحافظ على مرافق وطنه ويصونها؟
– مسئولية الأم والأب في غرس حب الوطن في نفوس الأبناء منذ الصغر ، ودور المدرسة ووسائل الإعلام في ذلك.
– مراعاة أبناء الوطن الواحد لبعضهم البعض في الغربة وهي من السلوكيات الهامة التي يجب غرسها في نفوس الشباب.
– الحفاظ على الـهُوِيَّة الثقافية والذي يتضمن حب اللغة العربية واستخدامها بين الشباب، وعدم تقليد العادات والسلوكيات الوافدة على مجتمعنا.
– تعزيز الوحدة الوطنية ونبذ الفرقة والخلاف من أعظم صور حب الوطن. فالوطن القوي هو الوطن المتحد، الذي يجتمع أبناؤه على كلمة سواء، ويتعاونون على البر والتقوى، ويتناصحون بالحق والصبر.
وعلينا أن نحذر من دعوات الفرقة والتشتت، وأن نكون سدًّا منيعًا أمام كل من يحاول زرع الفتن أو إثارة النعرات الطائفية أو القبلية أو المناطقية. ولنتذكر جميعًا قول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].
– الالتزام بالقوانين والأنظمة التي تنظم حياة المجتمع وتحفظ حقوق أفراده. فالالتزام بالنظام دليل على التحضر والرقي، وهو ضرورة لاستقرار المجتمع وأمنه. وعلينا أن نربي أبناءنا على احترام النظام والقانون، وأن نكون قدوة لهم في ذلك.
– الدعاء للوطن بالخير والأمن والرخاء، وأن يصلح الله قادته وولاة أمره لما فيه خير البلاد والعباد. فالدعاء سلاح المؤمن، وهو تعبير صادق عن حبنا لوطننا ورغبتنا في رفعته وازدهاره. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمدينة بالبركة والمحبة، فلنقتد به في الدعاء لأوطاننا، ومن الألفاظ المروية عن سلف هذه الأمة قولهم: «لو كانت عندنا دعوة مستجابة ما جعلناها إلَّا في السلطان» [سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي (صـ115، 116)].
إنَّ خدمة الوطن والمساهمة في بنائه وتطوره مسؤولية مشتركة، كلٌّ منا يستطيع أن يقدم شيئًا من موقعه. فلنكن جميعًا بناةً صالحين، ومواطنين مخلصين، نُترجم حبنا لوطننا إلى أفعال إيجابية تساهم في رفعته وتقدمه وأمنه. ولنجعل من أوطاننا منارات للخير والحضارة، كما أراد لنا ديننا الحنيف.
قال الشاعر:
ثلاث يعز الصبر عند حلولها *** ويعزب عنها عقل كل لبيب
خروج اضطرار من بلاد تحبها *** وفرقة أصحاب، وفقد حبيب
ولم يزل دأب الصالحين مُحبة الأوطان، حتى لقد روى أبو نُعَيم بسنده إلى سيد الزهاد والعباد إبراهيم بن أدهم أنه قال: «ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد علي من مفارقة الأوطان». [حِلْية الأولياء]
وأخيرًا: إن حب الوطن، دليل الكمال الإنساني، فالوطن لم يكن أبدًا حفنة من تراب، بل هو شعب له تاريخ وحضارة، وحقق انتصارات على أرضه صنع منها مكانة وتأثيرًا وعطاء فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا … إلخ يتوارثه الأجيال سلفًا وخلفًا، فلو لم يكن هناك وطن لما عرفنا هذا التنوع والاختلاف المنثور في كل البلدان في شتى المجالات.
اللهم احفظ بلادنا، وأمِّنَّا في أوطاننا، واجعل بلادنا أمنًا وإيمانًا، سلمًا وإسلامًا، سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين، ووفق ولاة أمورنا لما فيه خير البلاد والعباد، آمين آمين.
مراجع للاستزادة:
– الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين، أد. أسامة الأزهري.
– مقومات حب الوطن في ضوء تعاليم الإسلام، د. سليمان بن عبد الله بن حمود أبا الخليل.
– حب الوطن من منظور شرعي، د. زيد بن عبد الكريم الزيد.
– قيمة الوطن في ضوء سير أعلام الأزهر الشريف، د. إبراهيم شعبان المرشدي.
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف