خطبة الجمعة القادمة 30 مايو : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، للدكتور محروس حفظي
فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، بتاريخ 3 ذو الحجة 1446هـ ، الموافق 30 مايو 2025م

خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 30 مايو 2025 م بعنوان : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، للدكتور محروس حفظي بتاريخ 3 ذو الحجة 1446هـ ، الموافق 30 مايو 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 30 مايو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 30 مايو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 30 مايو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 23 مايو 2025م بعنوان : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ ، للدكتور محروس حفظي :
(1) فضلُ العشرِ الأُولِ مِن ذي الحجةِ.
(2) أهمُّ أعمالِ العشرِ الأُولِ مِن ذي الحجةِ.
(3) ضرورةُ حفظِ النفسِ، والتحذيرِ مِن الانتحارِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 30 مايو 2025م بعنوان: فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ
بتاريخ 3 ذو الحجة 1446هـ = الموافق 30 مايو 2025 م»
الحمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ، أمّا بعدُ ،،،
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة 30 مايو : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، للدكتور محروس حفظي
(1) فضلُ العشرِ الأُولِ مِن ذي الحجةِ:
لقد خصَّ اللهُ أمةَ سيِّدِ الأنامِ بمِنَحٍ وعطايَا، وجعلَ لهم مِن مواسمِ الخيراتِ التي تُضاعَفُ فيها الأجورُ، وتُحطُّ فيها الأوزارُ، ما يتنافسُ فيه المتنافسونَ، ويسعَى إلى تحصيلِهِ العقلاءُ الأخيارُ، واللهُ جلَّ وعلا قد امْتنَّ بهذه المنةِ العظيمةِ كي يتعظَ العاقلُ، وينتبهَ الغافلُ، قال ربُّنَا: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مَنْ رَحِمَتِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ» (الطَّبَرَانِيُّ، ورِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ) .
إنّ أعمارَ هذه الأمةِ هي أقصرُ أعمارًا مِن الأممِ السابقةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ، إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» (الترمذي وحسنه وابن ماجه)، لكنّ اللهَ بمنِّهِ وكرمهِ عوضهَا بأنْ جعلَ لها الأعمالَ الصالحةَ التي تباركُ في عمرِهَا، فكأنّ من عملهَا رُزقَ عمرًا طويلًا، وفيما يلي أوجزُ في عجالةٍ أهمَّ ما اشتملتْ عليه العشرُ الأولُ مِن ذي الحجةِ مِن فضائلَ:
أولًا: أنّ اللهَ أقسمَ بهَا في كتابهِ العزيزِ: لقد وردتْ الإشارةُ إلى فضلِ هذه الأيامِ العشرِ في بعضِ آياتِ القرآنِ الكريمِ، كقولهِ تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، بل أقسمَ اللهُ بها في سورةِ الفجرِ، فقال: ﴿وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْر﴾، والقسمُ يقتضِي التفخيمَ والتعظيمَ؛ إذ العظيمُ لا يقسمُ إلّا على عظيمٍ، وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في معرفةِ الليالٍي العشرِ فقِيلَ: هي العشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ، كما في روايةِ ابنِ عباسٍ، وقيلَ العشرُ الأولُ مِن المحرمِ كما في روايةٍ أخرى عنه، وقيلَ هى العشرُ الأولُ مِن شهرِ ذي الحجةِ، وهو القولُ الراجحُ؛ إذ نهارُ العشرِ الأوائلِ مِن ذي الحجةِ تفضلُ نهارَ العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ، كما نصَّ عليهِ الإمامُ الطبريُّ، وأكّدَ ذلك ابنُ كثيرٍ في تفسيرهِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وابنِ الزبير ومُجاهدٍ وغيرِ واحدٍ مِن السلفِ والخلفِ .
ثانيًا: أنّها مِن جملةِ الأربعين التي وعدَها اللهُ موسى عليه السلام: قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾، يقولُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ: (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا هِيَ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثِينَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَالْعَشَرُ عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ وابنُ جريجٍ وروي عن ابنِ عباسٍ وغيرهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمِيقَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَحَصَلَ فِيهِ التَّكْلِيمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ) أ.ه تفسير القرآن العظيم 3/ 421 .
ثم جاءتْ سنةُ الأمينِ ﷺ بتأكيدِ ما سبقَ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» (أبو داود والترمذي وحسنه) .
إنّ هذه العشرَ فرصةٌ لتزكيةِ النفسِ وطهارتِهَا مِن الأمراضِ القلبيةِ المختلفةِ حتى تستقبلَ أنوارَ اللهِ عزّ وجلّ، وفيوضاتِ الإلهِ؛ إذ التخليةُ قبلَ التحلِيةِ، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، فليحذرْ المسلمُ المعاصِي في هذه الأيامِ، فإنَّ إثمَها عندَ اللهِ أعظمُ، فإذا كانتْ الحسنةُ تضاعفُ في أيام الخيرِ، فكذا السيئةُ قالَ ربُّنَا: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، ومَن لم يعرفْ شرفَ زمانهِ فسيأتي عليهِ وقتٌ يعرفُ ذلك، لكن بعدَ فواتِ الأوان، وفي وقتٍ لا ينفعُ فيه الندمُ، قال تعالى ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ .
ومما ينبغِي التنبهُ له شموليةُ العملِ الصالحِ المتقربُ بهِ إلى اللهِ عزّ وجلّ لكلِّ ما يُقصدُ بهِ وجه اللهِ وابتغاء مرضاتهِ في هذه العشرِ، سواءً أكان ذلك قولًا أم فعلًا؛ وهو ما يُشيرُ إليه قولهُ ﷺ: “العَمَلُ الصَّالِحُ“، ففِي التعريفِ بأل الجنسيةِ عموميةٌ وعدمُ تخصيصٍ، وفي هذا تربيةٌ على الإكثارِ مِن الأعمالِ الصالحةِ، كما أنّ فيه بُعدًا تربويًّا لا ينبغِي إغفالُهُ يتمثلُ في أنّ تعددَ العباداتِ وتنوعهَا يُغذِّي جميعَ جوانبِ النموِّ “الجسميةِ والروحيةِ والعقليةِ …إلخ” وما يتبعهَا مِن جوانبَ أُخرى عندَ المسلمِ، ألَا فليحرصْ العاقلُ ألّا يفوتهُ أيُّ بابٍ مِن أبوابِ الخيرِ وحتى ولو كان مَن حولَهُ يتغافلُ عنهُ، فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ، كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» (مسلم) .
ثالثاً: أنَّ فيهَا “يومَ النحرِ”: وهو يومُ العاشرِ مِن ذِي الحجةِ، وهو أعظمُ أيامِ الدُنيا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» (أبو داود، وأحمد).
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة 30 مايو : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، للدكتور محروس حفظي
(2) أهمُّ أعمالِ العشرِ الأُولِ مِن ذِي الحجةِ:
إنّ دينَنَا حرصَ على فتحِ بابِ التنافسِ في الطاعاتِ حتى يُقبِلَ كلُّ إنسانٍ على ما يستطيعُهُ مِن عملِ الخيرِ مِن حجٍّ وعمرةٍ، وصلاةٍ وصيامٍ، وصدقةٍ وذكرٍ ودعاءٍ …الخ، وفي ذلك توجيهٌ تربويٌّ لإطلاقِ استعداداتِ الفردِ وطاقاتهِ لبلوغِ ما يصبُو إليه مِن الفوائدِ والمنافعِ والغاياتِ الأخرويةِ المتمثلةِ في الفوزِ بالجنةِ، والنجاةِ مِن النارِ، قال ابنُ حجرٍ: (وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ) أ.ه (فتح الباري 2/ 460) .
ومِن أعظمِ تلك الأعمالِ التي يتقربُ بها المسلمُ إلى ربِّهِ ما يلي:
أولًا: الصيامُ: يُستحَبُّ صومُ العشرِ الأوائلِ مِن ذي الحجةِ، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ: «رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ ، فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ غَضَبَهُ، قَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ… قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» (مسلم)، فانظرْ أخي الحبيب إلى سعةِ رحمةِ اللهِ، وفيضِ جودهِ وكرمهِ، أنْ جعلَ صيامَ يومٍ واحدٍ سببًا لمغفرةِ ذنوبِ سنتينِ مِن الصغائرِ، أمّا الكبائرُ فتحتاجُ إلى توبةٍ وندمٍ وعزمٍ على عدمِ العودةِ إليهَا أبدًا وإقلاعٍ عن المعصيةِ، وردِّ الحقوقِ إلى أصحابِهَا، والتحللِ مِمّن ظلمَهُ، فلا تحرمْ نفسَكَ مِن صيامِ يومِ عرفةَ لِمَا فيهِ مِن عظيمِ الأجرِ وجزيلِ المثوبةِ.
ثانيًا: الإكثارُ مِن ذكرِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى ودعائهِ، وتلاوةِ القرآنِ الكريمِ: تحقيقًا لقولهِ تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، وقولهِ: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾، فإذا أكثرَ المسلمُ مِن الذكرِ أنسَ بالذكرِ، واطمأنتْ نفسُهُ بهِ، وزادَ قربًا مِن ربِّهِ، وكان داعيًا لاعتيادِ الذكرِ، والإكثارِ منه بعدَ ذلك، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» (أحمد).
لقد كان بعضُ السلفِ الصالحِ إذا كان يومُ عرفةَ استقرُّوا في المساجدِ، وانقطعُوا عن الدنيا، وعن عراكِهَا وأهلِهَا، وتفرَّغُوا للذكرِ والصلاةٍ، وتلاوةِ القرآنِ، فمَن كان يومُهُ كذلك، فهو حَرِيٌّ بأنْ ينالَ هذه المغفرةَ مِن ربِّ العزةِ والجلالِ، ويُستحبُّ الجهرُ بهذا التكبيرِ، وقد علّقَ البخارِيُّ عن ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ- رضي اللهُ عنهما- كان يخرجانِ إلى السوقِ فيكبرانِ، ويكبرُ الناسُ بتكبيرِهِمَا، وكان عمرُ يكبّرُ في قبتِهِ، فيسمعُهُ أهلُ المسجدِ، فيكبرونَ ويكبرُ أهلُ السوقِ، حتى ترتجَّ مِنَى تكبيرًا، وعن مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: غَدَاةَ عَرَفَةَ: مَا تَقُولُ فِي التَّلْبِيَةِ هَذَا الْيَوْمَ؟ قَالَ: «سِرْتُ هَذَا الْمَسِيرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ، وَلَا يَعِيبُ أَحَدُنَا عَلَى صَاحِبِهِ» (مسلم) .
كما يُستحبُّ الإكثارُ مِن الدعاءِ الصالحِ في هذه الأيامِ اغتنامًا لفضيلتِهَا، وطمعًا في تحققِ الإجابةِ فيهَا؛ إذ المسلمُ إذا طرقَ بابَ اللهِ جلَّ وعلَا بالدعاءِ، فإنَّ اللهَ حييٌّ كريمٌ، يستحييِ أنْ يردَّ يدَي عبدِهِ إليهِ صفرًا، فمَا مِن داعٍ يدعُو إلًّا حُقِّقَ رجاؤهُ سواءٌ كانَ معجلًا في الدنيا، أو مؤخرًا في الآخرةِ، أو يُصرفُ عنهُ مِن السوءِ بقدرِ ما دعَا، كمَا ثبتَ بذلك الحديثُ عن سيدِنَا رسولِ اللهِ ﷺ.
ثالثًا: التوبةُ والإنابةُ إلى اللهِ عزّ وجلّ: إذ إنّ مِمّا يُشرعُ في هذه الأيامِ المباركةِ أنْ يُسارعَ الإنسانُ إلى التوبةِ الصادقةِ، وطلبِ المغفرةِ مِن ربِّه، وأنْ يُقلعَ عن الذنوبِ والمعاصي والآثامِ صغيرِهَا وكبيرِهَا، ويتوبَ إلى اللهِ تعالى منها طمعًا فيمَا عندَ اللهِ مِن الخيرِ، وتحقيقًا لقولهِ تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وليحافظ المسلمُ على الصلواتِ الخمسِ في المسجدِ، وليكثر مِن الصدقاتِ قولًا وفعلًا وسلوكًا؛ إذ هي أرجى للقبولِ في تلك الأيامِ الفاضلةِ، وأفضلُ الصدقةِ كما بيَّنَ رسولُنَا ﷺ، الصدقةُ على ذي الرحمِ الكاشحِ، يعني على ذي الرحمِ الذي يعاملُكَ معاملةً سيئةً ومع ذلك تتصدقُ عليه، والمحرومُ مَن ضيّعَ هذه الفرصةَ، ومَن جَدَّ وجدً، ويُسِّرَ لهُ سبلُ الخيرِ، فجاهدْ نفسَكَ في طاعةِ اللهِ، قال تعالي: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال ابنُ رجبٍ: (ما فُعِلَ في العشرِ في فرضٍ فهو أفضلُ مِمّا فُعِلَ في عشرٍ غيرهِ مِن فرضٍ، فقد تضاعفَ صلواتهُ المكتوبة، على صلواتِ عشرِ رمضانَ، وما فُعِلَ فيه مِن نفلٍ أفضلُ مِمّا فُعِلَ في غيرهِ مِن نفلٍ) . أ.هـ .
رابعًا: الكفُّ عن أخذِ شيءٍ مِن الشعرِ والأظافرِ: مَن أرادَ الأضحيةَ فليُمسِكَ عن الأخْذِ مِن شعْرِه وظُفْرِه وبَشَرَتِه، منذُ دخولِ العشْرِ إلى أنْ يذبحَ أُضحيتَه، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ» (مسلم)، ولعلَّ الحكمةَ مِن ذلك أنْ يشاركَ الحجاجَ في بعضِ مناسكهِم وأعمالهِم؛ لئلّا يغيب عن خاطرهِ عظمةُ تلك الأيامِ، وفضلُ ما يقعُ فيها مِن الأعمالِ، والأمرُ فيه سعةٌ وتيسيرٌ، ورحمةٌ لا تعسيرٌ.
أخِي الحبيب: اجعلْ مِن هذه العشرِ فرصةً لتحقيقِ السلامِ الداخلِي مع نفسِكَ والخارجِي مع الآخرين؛ لأنّ الرحمةَ والمغفرةَ تنصبُّ فيها على العبادِ صبًّا، فأكثرْ فيها مِن إخراجِ الصدقاتِ، وقضاءِ الحاجات، وألحَّ فيها بالدعاءِ للهٍ– عزّ وجلّ- في الخلواتِ خاصةً في الثلثِ الأخيرِ مِن الليلِ، حيثُ يتنزلُ ربُّنَا– سبحانه- نزولًا يليقُ به، وليحذر العبدُ مِن ارتكابِ المعاصي والمنكراتِ في العشرِ؛ لأنّ الحسنةَ كما تضاعفُ في مواسمِ الخيرِ والبرِّ كما قال في حقِّ أمهاتِ المؤمنين ﴿يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً﴾، فكذا المعصيةُ عقابُهَا في تلك العشرِ كبيرٌ، وإثمُهَا عظيمٌ، فيا أيُّهَا المقيمُ علي المعاصِي أقصرْ، وتبْ وارجعْ إلي ربِّك، ولا تقنطْ ولا تيأ مِن رحمتهِ، فعن أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . (الترمذي وحسنه) .
أخِي المسلم: اغتنمْ وقتَكَ، واحرصْ على ألّا تضيعَهُ في هذه العشرِ؛ لأنّ الناقدَ بصيرٌ، والخطرَ عظيمٌ، والطريقَ شاقٌّ، قالَ ربُّنَا: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ قال ﷺ: “ثم ليقفنَّ أحدكُم بينَ يدي اللهِ ليس بينَهُ وبينهُ حجابٌ ولا ترجمانٌ يترجمُ لهُ، ثُم ليقولنَّ له: ألمْ أوتكَ مالًا؟ فليقولنَّ: بلَى، ثم ليقولنَّ ألم أرسلْ إليك رسولًا؟ فليقولنَّ: بلى، فينظرُ عن يمينهِ فلا يرى إلّا النارَ، ثم ينظرُ عن شمالهِ فلا يرى إلّا النارَ، فليتقيَنَّ أحدكُم النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فإنْ لم يجدْ فبكلمةٍ طيبةٍ” (البخاري)، وليعلم الفطِنُ اللبيبُ أنّ العبادةَ في وقتِ الغفلةِ والانشغالِ بالدنيا ثوابُهَا عظيمٌ وفضلُهَا كبيرٌ قال ﷺ: “العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ” (مسلم) .
يقولُ الإمامُ النوويُّ: (الْمُرَادُ بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَةُ وَاخْتِلَاطُ أُمُورِ النَّاسِ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ الناسَ يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغُ لها إلّا) أ.ه. (شرح النووي على مسلم 18 / 88) .
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة 30 مايو : فضائلُ عشرِ ذِي الحجةِ، للدكتور محروس حفظي
الخطبة الثانية: «ضرورةُ حفظِ النفسِ، والتحذيرِ مِن الانتحارِ»
أصبحَ الانتحارُ ظاهرةً عالميةً نتيجةَ غيابِ الإيمانِ باللهِ، وفقدانِ الروحِ لغذائِهَا الصحيحِ، قالَ تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125]، ثم نُقلت هذه الظاهرةُ إلى شبابِ المسلمينَ بصورةٍ تثيرُ القلقَ، وتبعثُ الأسَى في النفسِ البشريةِ مِمّا يدلُّ على ضعفِ الإيمانِ، وغيابِ اليقينِ باللهِ سبحانَهُ.
لقد خلقَ اللهُ الإنسانَ بيدهِ، ونفخَ فيهِ مِن روحهِ، وأسجدَ لهُ ملائكتَهُ، وأرسلَ لهُ الرسلَ والأنبياءَ، ووضعَ لهُ دستوراً يضمنُ لهُ السعادةَ والراحةَ، وعمارةَ الأرضِ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 30]، ولذا جعلَ الإسلامُ الحفاظَ على النفسِ إحدَى “المقاصدِ الكليةِ الخمسِ”، وهي: “حفظُ الدينِ، والنفسِ، والنسلِ، والعقلِ، والمالِ” فلا يحقُّ لأحدٍ كائناً مَن كانَ أنْ يزهقَ روحَهُ التي وهبَهَا مِن اللهِ بأيِّ وسيلةٍ كانت كالانتحارِ، فهي بمثابةِ الوديعةِ أو العاريةِ، ليس لصاحبِهَا إلّا حراستهَا حتى تُستوفَى منه.
قال الإمامُ الشاطبيُّ: (مجموعُ الضرورياتِ خمسٌ هي: حفظُ الدينِ، والنفسِ، والنسلِ، والمالِ، والعقلِ، هذه الضرورياتُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَلْ عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ، وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الْأُخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ، وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ) أ.ه. (الموافقات، 2/ 18).
ليوقن العبدُ أنَّ الضيقَ يعقبُهُ الفرجَ لا محالةَ، والفقرَ يتبعهُ الغنَى، وهكذا الحياةُ لا تبقَى على حالٍ واحدٍ، يقولُ سبحانَهُ: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال رسول اللَّهِ ﷺ: «وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (رواه أحمد).
فلماذا الجزعُ واليأسُ والقنوطُ؟!، ولذا مَن يتسخطُ على قضاءِ اللهِ؛ فيتخلصُ مِن نفسهِ بالانتحارِ، هو جاهلٌ بسننِ اللهِ الكونيةِ، فالإنسانُ خُلقَ في هذه الحياةِ؛ ليكابدَ عناءَهَا، ويواصلَ مسيرتَهُ فيها حتى يذوقَ طعمَ الراحةِ والهناءةِ، قالَ تعالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، مَن أيقنَ بذلك، لن يُسلّمَ قلبَهُ لليأسِ والقنوطِ، ولن يلجأَ للانتحارِ، وإزهاقِ روحِهِ قالَ سبحانَهُ: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وقال: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وللهِ درُّ القائلِ:
إِنَّ الأُمُورَ إِذَا مَا اللهُ يَسَّرَهَا … أَتَتْكَ مِنْ حَيْثُ لا تَرْجُو وَتَحْتَسِب
وَكُلُّ مَا لَمْ يُقَدِّرَهُ الإِلَهُ فَمَا … يُفِيدُ حِرْصُ الْفَتَى فِيهِ وَلا النَّصَبُ
ثِقْ بِالإِلَهِ وَلا تَرْكَنُ إِلَى أَحَدٍ … فَاللهُ أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَ وَيُرْتَقَبُ
يا مَن تكاثرت عليكَ الديونُ، ويا مَن أرهقتكَ همومُ الحياةِ، وتفكر في مخرجٍ، ارفعْ يديكَ إلى السماءِ، واحتمِي بالذي خلقَكَ، وتكفلَ برزقِكَ قالَ تعالى: {وَكَأَيِّنٍ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60]، فاللهُ مفرجٌ ما أنت فيه مِن الكرباتِ، وميسرٌ لك ما تمرُّ بهِ مِن المعسراتِ، ومسهلٌ عليكَ ما تعانيهِ مِن الصعوباتِ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2: 3]، فهلّا وضعَ العبدُ همومَهُ بينَ يدَيْ مولاهُ، ورفعَ حاجاتِهِ إليهِ، فعَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» (رواه الترمذي وحسنه).
إنَّ مَن ينتحرُ أو يزهقُ روحَهُ، يظنُّ أنَّهُ بفعلتهِ الشنعاء أنّهُ سيستريحُ مِن عناءِ الحياةِ، ونصبِهَا وصخبِهَا، ألَا يعلمُ أنّهُ – إنْ لم تدركْهُ رحمةُ اللهِ- قد ينتقلُ إلى عذابٍ أنكَى مِمّا كان فيهِ في دارِ الفناءِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (متفق عليه).
والإسلامُ في أمرهِ بالحفاظِ على النفسِ يذهبُ إلى ما هو أدقُّ مِن إزهاقِهَا، فينهى المسلمَ عن “تمني الموت” عندَ نزولِ البلاءِ بهم، وهذا مِن بابِ الترقِّي في النهِي؛ لأنَّ “النهي عن الأدنَى فيهِ دلالةٌ على شناعةِ الجريمةِ العليَا ألَا وهي “إزهاقُ النفسِ” بأيِّ صورةٍ، فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي” (متفق عليه).
بل حذّر الإسلامُ الإنسانَ الذي قد يتسببُ في قتلِ نفسِهِ، فقالَ تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وعن عَلِيٍّ بْن شَيْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ – يعني حائط-، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» (رواه أبو داود).
بل وردَ أنَّ النبيَّ ﷺ امتنعَ عن صلاةِ الجنازةِ مِمّن “قتلَ نفسَهُ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ نَفْسَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ » (رواه الترمذي وحسنه)، فعلَ ذلكَ ﷺ زجراً لغيرهِ مِن الناسِ عن التساهلِ في “قتلِ أنفسِهِم، بينمَا الصحابةُ صلُّوا عليهِ.
ليس كلّمَا ألمتْ بالإنسانِ مصيبةٌ يهرعُ إلى إزهاقِ رُوحهِ، فالدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاءٍ، فقد أُوذِيَ الأنبياءُ والأولياءُ والصالحونَ، ونزلت بهِم حوادثٌ يشيبُ لهَا الولدانُ ومع ذلكَ صبرُوا، ولم تخر عزائمُهُم، فلنقارنْ حالَنَا بحالِهِم، فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (رواه البخاري).
ولا تشغلْ بالكَ بغيرِكَ، ولا تراقبْ الآخرينَ مِمّن وسَّعَ اللهُ عليهِم، فهذا يوقعُكَ في محاذيرَ جسيمةٍ، ومخاطرةٍ عظيمةٍ، قد يجرّكَ إلى التخلصِ مِن حياتِك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» (الترمذي وابن ماجه)، فانظرْ إلى مَن هو دونكَ في أمرِ دنياهُ، وثابرْ في سبيلِ الخروجِ مِن أزمتِكَ، ولا ترضَ بالدونِ، واقنعْ بمَا أعطاكَ اللهُ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ وَحْدَهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: «انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تُزْدَرَى نِعْمَةُ اللَّهِ عِنْدَكَ» (ابن حبان).
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنّه أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، الَّلهُمَّ أَوْرِدْنَا حَوْضَ نبيِّك، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهُ، وَأَنِلْنَا شَفَاعَتَهُ، وَاجْعَلْنَا فِي الجَنَّةِ بِجِوَارِهِ ﷺ، واجعلْ بلدنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، ووفقْ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: الفقير إلى عفو ربه الحنان المنان د / محروس رمضان حفظي عبد العال
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف