السلام في عيون الصوفية: رحلة من باطن النفس إلى رحابة الوجود

السلام في عيون الصوفية: رحلة من باطن النفس إلى رحابة الوجود
السلام في عيون الصوفية : رحلة من باطن النفس إلى رحابة الوجود بصيغة word
السلام في عيون الصوفية: رحلة من باطن النفس إلى رحابة الوجود بصيغة pdf
مقدمة:
السلام الأكبر ثمرة الجهاد الأكبر، فالسلام عند الصوفية ليس مرحلة أولى، بل غاية روحية يبدأ من مجاهدة النفس، وينتهي بتوحيد النظر إلى الخلق والوجود؛ هو “سلم أكبر” يُبنى على “جهاد أكبر”، كما قال الرسول – صلي الله عليه وسلم – : «رجعْنا من الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ» [البيهقي، الزهد الكبير، ح ١٦٩].
وهكذا، يتحول الإنسان في الرؤية الصوفية إلى مركز إشعاع للسلام، لأنه حمل النور، وأسكنه في قلبه، فرأى العالم بنور الله، وسالمه من الداخل إلى الأبد.
تفاصيل المحتوى
- السلام الصوفي: ينبع من الروح لا من وضع سياسي
- قراءة في الرؤية الصوفية عند المعاصرين والقدماء
- السلام مع كل ذرة في الوجود
- دلائل السلام في مواقف الصوفية
- الخاتمة
السلام الصوفي: ينبع من الروح لا من وضع سياسي
السلام في التصوف ليس وضعًا اجتماعيًا ولا مظهرًا سطحيًا، بل هو حقيقة روحية نابعة من معرفة الله وسكون القلب، تعبر من باطن الإنسان إلى علاقاته بالخلق، ثم إلى انسجامه مع الكون، يتَجلَّى هذا الفهم العميق عند أعلام التصوف كابن عربي، وابن الرومي، والحلاج، والسهروردي، في مقولاتهم ومواقفهم العملية التي جعلت السلام ثمرة السلوك إلى الله.
في التصوف؛ السلام لا يُعرّف على أنه مجرد غياب الحرب أو صمت البنادق، بل هو حالة إلهية يصيب بها من يشاء؛ يقول الشيخ الأكبر ابن عربي: “اعلم أن السلام حال إلهي، فمن تحقق بأسماء الله نال منه نصيبًا” [الفتوحات المكية، جـ٢، صـ٤٤٢].
وهذا هو “السلام الصوفي” الذى ينبع من الروح التي خامرت بشاشة الحب الإلهي، فمنح من نوره نصيبًا، فلا يتوهم متوهم أن السلام الصوفي معناه الاستكانة والضعف والهوان ويبالغ أو يغالي فينعت الصوفي بالجبن، لأن السلام في التصوف يرنو إلى معنى عميق من معاني التربية النفسية؛ إذ السلام عند الصوفية هو ثمرة لسلوك روحي قوامه المجاهدة والذكر والمعرفة، لا شعارًا يُرفع، بل هو مقام يُعاش، تلك نظرة تُخرج السلام الصوفي عن معنى السلام سياسيًا أو اجتماعيًا، فهو تجربة روحية عميقة، تنبع من الفناء في محبة الله، وسكينةً لا تتزعزع؛ تمخضت عن تجلياتٍ الحق، سلام من نوعٍ مختلف لا يُصطنع، ولا يُفرض، بل يثمر من التسليم والرضا.
قراءة في الرؤية الصوفية عند المعاصرين والقدماء
يرى الباحث الفرنسي (إريك يونس جوفرا)، الذي اعتنق الإسلام واتخذ من التصوف دربًا روحانيًا، أن المستقبل الحقيقي للإسلام لا يكمن في التيارات الأيديولوجية الحركية التي تقوم على الإقصاء والتعصب ورفض المخالف، بل في الإسلام الروحي الذي يتجلى في التصوف[صـ: ١١٢، كتاب المستقبل للإسلام الروحاني].
ففي رؤيته، يُقدِّم التصوف نموذجًا منفتحًا يتقبل التعددية الفكرية، ويُمكِن أن يشكّل بديلًا حقيقيًا لكل تيارات الإسلام السياسي التي أدت إلى التشظي والانقسام في العالم الإسلامي، بسبب ما قامت عليه من عنف رمزي ومادي تحت دعاوى دينية.
هذه الرؤية ليست بعيدة عن مواقف تراثية راسخة، فقد عبّر عنهاالإمام أبو حامد الغزاليبوضوح حين قال عن أهل الملل الأخرى من نصارى الروم والترك في أقاصي البلاد: “أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والفرس، ولم تبلغهم الدعوة…” [الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، صـ: ١٧١].
إن هذه العبارة تدل على عمق في الفهم الصوفي للإيمان، حيث يتسع صدر المؤمن ليشمل الرحمة حتى لأولئك الذين لم يتبعوا الإسلام، ما داموا لم تقم عليهم الحجة، ويتجلى في كلام الغزالي حسن ظن عام بالبشر، وسعة صدر تتجاوز حدود الطائفة إلى رحابة الإنسانية؛ هذا هو جوهر التصوف: التماس العذر، وتمني الخير، بل والدعاء بالرحمة للمخالف، لا الطرد ولا الإدانة.
ولم يقف التصوف عند حدود “قبول الآخر”، بل تجاوزه إلى أسمى مراتب العفو والصفح حتى عن الظالمين. ومن أروع الشواهد على ذلك ما يُروى عن الحسين بن منصور الحلاج حين قُبض عليه وسُجن، ثم سيق للقتل، فرفع يديه داعيًا لمن سعوا في إعدامه بقوله: “هؤلاء عبادك، قد اجتمعوا على قتلي تعصبًا لدينك وتقربًا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم، لما ابتُليت بما ابتُليت” [عبد الرحمن بدوي، شهيد التصوف الحلاج، صـ: ٢٣٠].
وموقف الحلاج هو مثال على التوجه الصوفي في الأخلاق والآداب فهم قوم قد تطهرت قوبهم من الغلّ والحقد، وبلغوا في التسليم والصفاء مبلغًا ساميًا، فكانوا سلما وسلامًا، ليس فيهم معتد أو ساع لهلاك أو ضرر أو انتقام.
إن هذا النموذج الصوفي في التعامل مع الآخر، سواء أكان مختلفًا في العقيدة، أو معتديًا في السلوك، يُقدِّم أنموذجًا إنسانيًا وروحيًا فريدًا في تاريخ الفكر الإسلامي، وهو ما يجعل الدعوة إلى “منهج صوفي” لا تعني الانسحاب من العالم، بل تعني الدخول فيه بقلب مسالم وروح متصالحة.
السلام مع كل ذرة في الوجود
يقولابن عربي: “العارف من يرى كل شيء سلامًا، لأنه يشهد الله في كل شيء” [الفتوحات المكية، جـ٣، صـ٢١].
فالصوفي يعيش حالة انسجام كوني؛ يرى الحيوان والنبات والجماد شركاء له في التسبيح، ويشعر معهم بالاتصال لا الانفصال، وهذه الحالة هي نتيجة “الفناء في الله”، الذي ينقل الإنسان من ذاته المحدودة إلى “البقاء بالله”، حيث ترى كل المخلوقات في ضوء التوحيد، كما قالالنفري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”؛ فالسلام عند الصوفية يمتد ليشمل كل ذرة في الوجود، حيث يرى الصوفي في الكون كتابًا إلهيًا مفتوحًا تتجلّى فيه أسماء الله وصفاته فيعيش حالة من الإجلال والتقديس لكل شيء، ويَقبل فيها نظام الوجود بتقلباته دون اعتراض، معتبرًا أن الألم جزءًا من الحكمة الإلهية الكبرى، ويعامل فيها كل ما حوله برفق وتقدير لأنه مظهر من مظاهر الحق، فيتحول العالم في نظره إلى محراب للسلام، والصمت فيه تسبيح، والهواء صلاة، فلا خصام مع شيء لأن كل شيء متصل بالله.
دلائل السلام في مواقف الصوفية
يُعَدّ السلام النفسي ركنًا جوهريًّا في التجربة الصوفية، وهو لا ينفصل عن الفناء عن الهوى والانتصار على الصراع الداخلي، وقد عبّرت السيدة رابعة العدوية عن هذا البُعد بقولها المشهور: “ما عبدته خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته، لكن أحببته فأحببت كل ما يتصل به”، وهو قولٌ يكشف عن أعلى درجات الطمأنينة الروحية، حيث يتحرّر القلب من الخوف والطمع، ويتوجه إلى الله بالمحبة الخالصة. [ينظر: الرسالة القشيرية، صـ ٢٥٤].
وفي السياق ذاته، يُعلّم الشيخ عبد القادر الجيلاني تلامذته مبدأً جوهريًّا في تهذيب النفس، فيقول: “سلامك مع غيرك لا يصح إلا إذا سلمت من نفسك”، أي إن السلام الخارجي لا يكون صادقًا إلا حين يتحقق السلام الداخلي، فالمصالحة مع الآخرين تبدأ من المصالحة مع الذات [الفتح الرباني، صـ ٣٣].
أما جلال الدين الرومي، فيصف المتصوف الحقّ بأنه: “من لا يؤذي أحدًا، ولو بكلمة، لأن قلبه قد نزل فيه النور”، وهو تعبير شعري عميق يربط بين نور القلب وسلوك السلام، فحين يستنير الداخل بنور الله، ينعكس ذلك على الخارج سلوكًا مُسالِمًا رحيمًا [(مثنوي معنوي)، دفتر ١، بيت ١١٢].
إن السلام عند الصوفية لا يُفهم باعتباره غيابًا عن النزاع فحسب، بل هو حالة روحية تنبع من تطهير النفس من الأهواء والأنانية، والتسليم المطلق لمشيئة الله؛ وعندها يتحقق السلام الداخلي الذي هو أصل كل سلام خارجي، وينعكس على علاقة الصوفي بالخلق، فتسود الرحمة والتسامح، ويغدو القلب مملوءًا محبة، تصيبه تجليات الحق فيترجمها آدابا وأخلاقا مع الخلق، ويعاملهم باللين والسكينة.
ويمتد هذا السلام حتى يشمل الكون بأسره؛ إذ ينسجم الصوفي مع أقدار الله، مؤمنًا بحكمته، راضيًا بما يجري، عاملًا بلا اضطراب ولا قلق؛ فالصوفي يطلب السلام من خلال الفناء عن ذاته والبقاء بالله، فيصل إلى طمأنينة القلب وسكينة الروح.
وأخيرا: فإن السلام في الرؤية الصوفية ليس منفصلًا عن أسماء الله الحسنى، بل هو ثمرة الإيمان باسم الله “السلام”، والتعلق به في كل حال، فهو سلام لا يُستمد من الظروف بل من معرفة الحق سبحانه والتعلق به.
الخاتمة
السلام في الرؤية الصوفية ليس موقفًا ساذجًا ولا انسحابًا من قضايا العالم، بل هو فعلٌ مقاوم للتطرّف بكل أشكاله، من خلال تطهير النفس قبل تغيير الآخر، فحين يغيب السلام الداخلي يسهل أن يتحول الدين إلى وسيلة قهر لا رحمة، وقد قدّم أعلام التصوف نموذجًا حيًّا في التعايش والرحمة، جعل من الإيمان طمأنينةً، ومن المعرفة سكينة، ومن الاختلاف تنوعًا، وبهذا الفهم يواجه التصوف الانغلاق الأيديولوجي، ويرتقي بالخطاب الديني من دوائر الإقصاء والعداء، إلى فضاءات المحبة والقبول.
وتلك دعوة لإعادة اكتشاف جوهر الإسلام الوسطي، تقوم على جهاد النفس لا قتال الآخر، لأن السلام – كما يؤمن به الصوفي – هو ثمرة الجهاد الأكبر، لا شعار يُفرض، بل مقام يُبلَغ، وهكذا يقف التصوف في وجه موجات الغلو والتطرّف، لا بالسيف ولا بالجدل، بل بالنور الذي يسكن القلب، فيُضيء العالم سلامًا ورحمة.