وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ خلق الانتماء والوفاء للشيخ عبد الناصر بليح
الحمد لله رب العالمين .. يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ولك الحمد حمداً كثيراً طيباُ مباركاً فيه .. وأشهد أن لا أله الله وحده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين . وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله ..
أما بعد فيا جماعة الإسلام : يقول الله تعالي : “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ” [الأحزاب : 21]. ونحن في شهر مولده لابد لنا أن نتأسى بأخلاقه فهو الأسوة والقدوة وما أحوجنا لأن نتخلق بأخلاق الرسول صلي الله عليه وسلم ونقتدي به فهو خير أسوة وخير قدوة .. فقد امتدحه المولي عزوجل بقوله :” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ”. وقال عن نفسه :”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” وقال :”إنما أنا رحمة مهداه “
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: (أن هشام بن حكيم سأل عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: خلقه القرآن).متفق عليه). الناظر في سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم يجدها مثلاً حيًّا لحسن الخلق، حيث لخص رسول الله الهدف من بعثته في قوله: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”( البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي.. ولما سأله أبو بكر الصديق :”ما كل هذا الأدب الجم يا سول الله قال :”أدبني ربي فأحسن تأديبي “(رواه السخاوي). فكان يدعو إلى الله بأخلاقه، كما يدعو إليه بأقواله. ولو تحدثنا اليوم عن خلق واحد من أخلاقه صلي الله عليه وسلم ماكفانا وقت .. وهو خلق الوفاء والانتماء فقد ضرب لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أروع الأمثلة في هذا الخلق.. ففي تعامله مع ربه كان صلى الله عليه وسلم وفياً أميناً ، فقام بالطاعة والعبادة خير قيام ، وقام بتبليغ رسالة ربه بكل أمانة ووفاء ، فبيّن للناس دين الله القويم ، وهداهم إلى صراطه المستقيم ، وفق ما جاءه من الله ، وأمره به ، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (سورة النحل 44) . فقد كان وفياً لربه عزوجل فكان لا يعمل عملاً ولا فعلاً ولا قولاً إلا لله فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل وكان كل دعوته من أجل الله ولله وما غضب لنفسه مرة فما غضب إلا لله فكان دائماً يقول من أحب لله وأبغض لله وأعطي لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان “
وفائه لبلده :
ولما خرج رسول الله صلي الله عليه وسل مهاجراً من مكة إلى المدينة كما روي عنه :وقف علي الحزورة(سوق) ونظر إلى البيت وقال :والله انك لأحب أرض الله إلي وانك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك”(الترمذي والنسائي –زادالمعاد1/8). ورغم فساد أهلها وظلمهم له ومحاربتهم لدعوته ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم يعطينا درساً في الانتماء فيقول في رواية أخري :” ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك – قاله لمكة . (صححه الألباني). وهذا يشير إلى مدي حب رسول الله صلي الله عليه وسلم لبلده مكة المكرمة موطن ولادته ونشأته وفيها البيت الحرام ولأنها منزل الوحي ولأن بها الأهل والأقربين ولأن بها مآثر إبراهيم.(خاتم النبيين2/5) . والرسول صلي الله عليه وسلم كان حين يذكر أحد الصحابة مكة أمامه تذرف عيناه بالدمع ويقول له :”دع القلوب تقر”ولا عجب فحب الوطن من الإيمان..
الانتماء العائلي و الأسرى:
وفائه لأمه: فقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم وفياً لأمه فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال :”زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربى في أن استغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن ازور قبرها فأذن لي” وفائه لزوجاته : وفاء النبي لأهله قال رسول الله : “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”)الترمذي في سننه، وصححه الألباني) وكان من كريم أخلاقه في تعامله مع أهله وزوجه أنه كان يُحسن إليهم ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم، ومن وفائه لزوجته خديجة وكان وفياً مع زوجاته ، فحفظ لخديجة رضي الله عنها مواقفها العظيمة ، وبذلها السخي ، وعقلها الراجح ، وتضحياتها المتعددة ، حتى إنه لم يتزوج عليها في حياتها ، وكان يذكرها بالخير بعد وفاتها ، ويصل أقرباءها ، ويحسن إلى صديقاتها ، وهذا كله وفاءاً لها رضي الله عنها . وكان وفياً لأقاربه ، فلم ينس مواقف عمه أبي طالب من تربيته وهو في الثامنة من عمره ، ورعايته له ، فكان حريصاً على هدايته قبل موته ، ويستغفر له بعد موته حتى نهي عن ذلك .
وكان من شأنه أن يرقّق اسم عائشة -رضي الله عنها- كأن يقول لها: (يا عائشة، ويقول لها: (يا حميراء)، ويُكرمها بأن يناديها باسم أبيها بأن يقول لها: (يا ابنة الصديق)، وما ذلك إلا توددًا وتقربًا وتلطفًا إليها واحترامًا وتقديرًا لأهلها . وكان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل معه من إناءٍ واحد، فيقول لها: “دعي لي. وتقول له: دع لي”(مسلم). وعن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة) البخاري(.. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم”) أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أيضًا قالت: (خرجت مع رسول الله في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا. فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك. فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا. فتقدموا، ثم قال لي: تعالي أسابقك. فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك” ) أبو داود في سننه، وصححه الألباني). وكان يعدل بين نسائه ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة؛ فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها (أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى رسول الله وأصحابه، فجاءت عائشة… ومعها فِهرٌ ففلقت به الصحفة، فجمع النبي بين فلقتي الصحفة وهو يقول: “كلوا، غارت أُمكم” مرتين، ثم أخذ رسول الله صحفة عائشة فبعث بها إلى أُم سلمة، وأعطى صحفة أُم سلمة عائشة”(النسائي وصححه الألباني).
وفائه لأصحابه:
وكان من وفائه لأصحابه موقفه مع حاطب بن أبي بلتعة مع ما بدر منه حين أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في أشد المواقف خطورة ، حيث كتب إلى قريش يخبرها بمقدم رسول الله وجيشه، فعفى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفاءاً لأهل بدر ، وقال : ( إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) رواه البخاري و مسلم.
وفائه لأبناءه : كان صلي الله عليه وسلم باراً بأبنائه وبناته وفياً لهم رحيماً رفيقاً بهم فلم مات ابنه إبراهيم حمله وبكي ويسأله أحد الصحابة أتبكي يارسول الله فيقول :”إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الرب ” (البخاري).
ومن شدة انتماء الرسول صلي الله عليه وسلم لأبنائه أنه زوج فاطمة لعلي وأوصاه بحسن صحبتها فعن حجر بن قيس قال : خطب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة رضي الله عنها فقال : هي لك على أن تحسن صحبتها . وأخرجه البزار بلفظ : هي لك يا علي لست بدجال . ( ومعنى قوله لست بدجال : يدل على أنه قد كان وعده فقال : إني لا أخلف الوعد ) ( صحيح ) وكان يقول :” فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري ” . ( صحيح ) . وأخرجه البخاري مختصرا بلفظ : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني.. ولما أراد علي أن يتزوج عليها من ابنة أبي جهل .. فصعد صلي الله عليه وسلم المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال :” إن فاطمة بضعة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عم عدو الله مكانا واحدا أبدا – وفي رواية : عند رجل واحد أبدا” (صحيح ).
وفائه صلي الله عليه وسلم للخدم . عن أنس قال: (خدمت النبي عشر سنين، والله ما قال أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا”( متفق عليه ). وعن عائشة -رضي الله تعالى- عنها قالت: (ما ضرب رسول الله خادمًا له، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله”) مسلم).
صفة النبي صلي الله عليه وسلم في التوراة
عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة والعوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا). رواه البخاري