خطبة الجمعة القادمة 16 مايو : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي
بتاريخ 18 ذو القعدة 1446هـ ، الموافق 16 مايو 2025م

خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 16 مايو 2025 م بعنوان : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي بتاريخ 18 ذو القعدة 1446هـ ، الموافق 16 مايو 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 16 مايو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط .
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 16 مايو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 16 مايو 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 16 مايو 2025م بعنوان : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي :
(1) الوسطيةُ أعظمُ مقاصدِ الشريعةِ الغراءِ.
(2) مظاهرُ الوسطيةِ والاعتدالِ في الإسلامِ.
(3) أثرُ الوسطيةِ على الفردِ والمجتمعِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 16 مايو 2025م بعنوان: حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
حبُّ التناهِي شططٌ، خيرُ الأمورِ الوسطُ
بتاريخ 18 ذو القعدة 1446هـ = الموافق 16 مايو 2025 م»
الحمدُ للهِ حمداً يُوافي نعمَهُ، ويُكافىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ، أمَّا بعدُ ،،،
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة 16 مايو : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي
(1) الوسطيةُ أعظمُ مقاصدِ الشريعةِ الغراءِ:
الاعتدالُ سنةٌ ربانيةٌ في الكونِ، فاللهُ- سبحانه- خلقَ كلَّ شيءٍ في هذا الوجودِ خلقاً متقناً حكيماً بديعاً في هيئتهِ، وفي زمانهِ، وفي مكانهِ، وفي وظيفتهِ على حسبِ ما تقتضيهِ إرادتهُ وحكمتهُ، قال تعالى:﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، و”الوسطيةُ” مِن أبرزِ خصائصِ الإسلامِ، بل الركيزةُ الكبرَى لهذه الأمةِ المحمديةِ حتى صارت “الوسطيةُ” مضربَ الأمثالِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: «سألَ رجلٌ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ فقال: إِنَّكَ تُخْرِجُ أَمْثَالَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مِنَ الْقُرْآنِ فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ” خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا”؟ قَالَ: نَعَمْ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾، وقولُهُ تعالَى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾» أ.ه.
إنَّ لفظَ “الوسطيةِ ” تعنِي التوازنَ والاعتدالَ بينَ طرفَيِ الغلوِّ والتقصيرِ، والإفراطِ والتفريطِ، والإسرافِ والتقتيرِ، فكلُّ أمرٍ لهُ طرفانِ مذمومانِ، إمّا إلى إفراطٍ وإمّا إلى تفريطٍ، والوسطُ هو التوازنُ بينهمَا، وقد جعلَ اللهُ – عزَّ وجلَّ– “الوسطيةَ والاعتدالَ” مِن أعظمِ مقاصدِ هذه الشريعةِ الغراءِ قال الإمامُ الشاطبيُّ: (إنَّ الشريعةَ جاريةٌ في التكليفِ لمقتضاهَا على الطريقِ الوسطِ العدلِ، الآخذِ مِن الطرفينِ بقسطٍ لا ميلَ فيهِ، فإذَا نظرتَ إلى كُليِّةٍ شرعيةٍ، فتأمَّلهَا تجدهَا حاملةً على التوسطِ والاعتدالِ، ورأيتَ التوسطَ فيها لائحًا، ومسلكَ الاعتدالِ واضحاً، وهو الأصلُ الذي يُرجعُ إليهِ، والمعقِلُ الذي يُلجأُ إليهِ) أ.ه.؛ لأنّهّ إذا خلت “الوسطيةُ” مِن شيءٍ يترتبُ عليهِ وجودُ أحدِ أمرينِ: أولهُمَا: الانقطاعُ عن العملِ بسببِ تزاحمِ الحقوقِ، فإنّهُ إذا أوغلَ في عملٍ شاقٍّ فربمَا قطعَهُ عن غيرِهِ لا سيّمَا حقوقُ الغيرِ، إذ المطلوبُ منهُ القيامُ بهَا على أكملِ وجهٍ، فحينمَا آخَىﷺ بينَ سلمانَ وأبي الدرداءِ رأى سلمانُ أنَّ أبا الدرداءِ ليس لهُ حاجةً في الدنيا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» (البخاري)، ثانيهما: وقوعُ الخللِ في العملِ، فيدخلُ على المكلفِ السآمةَ والمللَ في العبادةِ؛ إذ العملُ الخارجُ عن المعتادِ قد يؤدِّي إلى وقوعِ ضررٍ مِن أمراضٍ بدنيةٍ أو نفسيةٍ، فإذا علمَ المكلفُ أو ظنَّ أنّهُ يدخلُ عليهِ شيءٌ مِن ذلكَ يتحرجُ بهِ ويعنتهُ ويكرهُ بسببهِ العملَ، قال الإمامُ الأوزاعِيُّ: “ما مِن أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ به، إلّا عارضَ الشيطانُ فيهِ بخصلتينِ، ولا يُبالى أيهمَا أصاب: الغلوَّ، أو التقصيرَ”؛ ولذا نهَى ﷺ عن الصلاةِ وقتَ التعبِ، ورغّبَ فيها وقتَ النشاطِ، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللهِ الْمَسْجِدَ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ، أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ: «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فَتَرَ قَعَدَ» (متفق عليه)، فكان ﷺ كثيرًا ما يقولُ كلمةَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي»، دلالةً على أنّهّ يحبُّ الأمرَ، ولكنّهُ يخشَى الفتنةَ على الأمةِ؛ ولهذا لم يؤخر ِﷺ صلاةَ العشاءِ إلى منتصفِ الليلِ، وامتنعَ ﷺ عن الخروجِ إلى “التراويحِ” جماعةً في رمضانَ خشيةَ أنْ يُفرَضَ على المسلمينَ، وتأخرَ ﷺ في الردِّ على مَن سألَ عن تكرارِ الحجِّ في كلِّ عامٍ خشيةَ فرضيتِهِ، وهكذا فمنهجهُ ﷺ الواضحُ هو الوسطيةُ الممزوجةُ بالإشفاقِ على الخلقِ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ لِنَفْسِهِ فِي أَمْرٍ يُنْتَهَكُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ لِلَّهِ حُرْمَةٌ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ» (أبو داود) .
أمةُ الإسلامِ هي الأمةُ الوسطُ، وهي الأمةُ المعتدلةُ، ولذا كانت هي الأمةُ الشاهدةُ على جميعِ الأممِ قبلهَا، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ، أَىْ رَبِّ، فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ لاَ، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ ﷺ وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ، وَهْوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾» (البخاري) .
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة 16 مايو : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي
(2) مظاهرُ الوسطيةِ والاعتدالِ في الإسلامِ:
لم يقدرْ أحدٌ على القيامِ بالدينِ كلِّهِ، ولم تجتمعْ فضائلُه وكمالاتُه إلّا في شخصِ سيدِنَا رسولِ اللهِ ﷺ، والناسُ لهُم في دينِهِم أرزاقٌ، كمَا أنّ لهُم في مالهِم أرزاقاً، فخذْ مِن الدينِ أوسطَهُ وأعدلَهُ، ولا تكلف نفسَكَ ما لا تطيقُ مِن الأعمالِ، فنحن أمةٌ وسطٌ، أمرَنَا اللهُ أنْ نستقيمَ على أمرِهِ الذي شرعَهُ لنَا كمَا قال سبحانَهُ مخاطبًا نبيَّهُ ﷺ: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾؛ فالشارعُ الحكيمُ لم يكل الخلقَ إلى عقولِهِم، ولا إلى أهوائِهِم وإلّا زلُّوا وشططُوا، وللوسطيةِ مظاهرُ في الإسلامِ عقيدةً وشريعةً، وأخلاقاً ومعاملاتٍ حتى إنّهَا حازت كلَّ جانبٍ مِن هذه الجوانبِ، ومِن مظاهرِ الوسطيةِ في الإسلامِ:
أولاً: في جانبِ العقيدةِ: وقد قامت “الوسطيةُ” في العقيدةِ على أمرينِ: الفطرةُ، واحترامُ العقلِ، والاهتداءُ بنورِ الوحيِ، فاللهُ فطرَ الخلقَ على الحنيفيةِ السمحةِ، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه﴾، ولمّا كانت هذه الفطرةُ لا تستقلُّ وحدَهَا بمعرفةِ الخيرِ والشرِّ، أرسلَ اللهُ الرسلَ– عليهمُ السلامُ-، وأنزلَ عليهِمُ الكتبَ؛ لتستقيمَ الفطرُ، ولتبينَ للناسِ ما غابَ عنهُم مِمّا لا تدركهُ العقولُ بمفردِهَا، فما لا يستقلُّ العقلُ بمعرفتهِ أمدَّهُ الشرعُ بنورِ الهدايةِ فيهِ، وبيَّنَ الحقَّ مِن الباطلِ حتى تقومَ حجةُ اللهِ على الخلقِ، ويقطعَ عنهُم المعاذيرَ، فما بينَ الكونِ المنظورِ، وكتابِ اللهِ المسطورِ، تستقيمُ الفطرةُ على هذه الوسطيةِ؛ ولذا أعطَى الإسلامُ للإنسانِ الحريةَ الكاملةَ في اعتناقِ دينِه الذي يختارُهُ دونَ إجبارٍ، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وحرّمَ الإكراهَ بجميعِ أشكالِه، واعتبرَ ذلكَ منافٍ للسننِ الكونيةِ، ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، ورتبَ اللهُ على اختيارِ العبدِ تحملِ المسئوليةِ في الآخرةِ.
ثانياً: في جانبِ العباداتِ: اللهُ لا يريدُ أجساداً تركعُ وتسجدُ، بينمَا القلوبُ ساهيةٌ غافلةٌ، ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً﴾، بل يريدُ عبادةً يظهرُ أثرُهَا على سلوكِ الفردِ وحتى وإنْ كانت قليلةً، قال ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ» (متفق عليه)، والإنسانّ جسدٌ وروحٌ، فهو مخلوقٌ مِن قبضةٍ مِن طينِ الأرضِ، ونفخَ اللهُ فيهِ مِن روحِه، فلا بُدَّ مِن التوازنِ بينهمَا قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، ولذا تميزت الشريعةُ بالسهولةِ، وتلمسُ ذلك واضحاً جلياً في بابِ “العباداتِ” ففي الصلاةِ: أمرَ دينُنَا بتخفيفِهَا وعدمِ الإطالةِ فيهَا؛ لأنَّ المصلينَ فيهمُ الضعيفُ والمريضُ، فينبغِي مراعاةُ أحوالِهِم، فعن جَابِرِ قَالَ: «أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُ نَاضِحَانِ لَهُ، وَقَدْ جَنَحَتِ الشَّمْسُ، وَمُعَاذٌ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ، فَدَخَلَ مَعَهُ الصَّلَاةَ، فَاسْتَفْتَحَ مُعَاذٌ الْبَقَرَةَ، أَوِ النِّسَاءَ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ صَلَّى، ثُمَّ خَرَجَ، وذكر ذلك لِلنَّبِيِّ ﷺ فقال: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ» أَوْ «فَاتِنٌ، فَاتِنٌ، فَاتِنٌ»، «فَلَوْلَا قَرَأْتَ: “سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى”، “وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا”، فَصَلَّى وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ، وَذُو الْحَاجَةِ، أَوِ الضَّعِيفُ» (أحمد)، وكانت صفةُ عبادتِهِ ﷺ كما قال جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: «كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا» (مسلم)، بل إنّهُﷺ غضبَ لمَّا شقَّ أحدُهُم على المسلمينَ، فعن أبي مسعودٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ النبي ﷺ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ» (البخاري).
تابع / خطبة الجمعة القادمة 16 مايو : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي
وفي “الصيام”: أرشدَنَا سيدُنَا ﷺ أنّهُ ينبغِي للمسلمِ ألّا يشقَّ على نفسِه بل يوازنُ بينَ متطلباتِ جسدهِ وروحِه؛ فالتوسطُ في الصيامِ والقيامِ وغيرهِمَا مِن العباداتِ يحفظُ على الإنسانِ صحتَهُ، ويشدُّ مِن أزرهِ عندَ الكبرِ، فيظلُّ ماضياً على ما كان عليهِ مِن العبادةِ حتى يلقَى اللهَ تعالى، فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:«فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ»، فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ، وَقَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ:«إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ:«فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ-عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وَلاَ تَزِدْ عَلَيْهِ» قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ؟ قَالَ:«نِصْفَ الدَّهْرِ»، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ ﷺ» (البخاري)، فتأملْ الحبَّ الإلهيَّ قد ملأَ شغافَ قلبِ ابنِ عمروٍ- رضي اللهُ عنهما-، فجعلَهُ يتصرفُ هذا التصرفَ، وأنساهُ كرَّ الأيامِ، وتبدلَ الحالِ، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾.
ثالثاً: في جانبِ الدعوةِ إلى اللهِ سبحانَهُ: جاءَ سيدُنَا ﷺ فوضعَ عن هذه الأمةِ الإصرَ والأغلالَ التي كانت على الأممِ السابقةِ، ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾، و “الوسطيةُ” في الدعوةِ تقومُ على مبدأينِ: التيسيرُ في الفتوَى، والتبشيرُ وعدمُ التنفيرِ؛ ولهذا قال الإمامُ سفيانُ الثورِي: “إنّمَا الفقهُ الرخصةُ مِن ثقةٍ، أمَّا التشددُ فيحسنهُ كلُّ أحدٍ”، وهذا المنهجُ الوسطُ دائماً ما كان ﷺ يوجهُ إليهِ الصحبَ الكرامَ، فعن أبي بُرْدَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: «ادْعُوَا النَّاسَ، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا» (مسلم)، فالأمرُ بالمعروفِ مِن أسبابِ خيريةِ هذه الأمةِ ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، لكن يجبُ النظرُ في “فقهِ المآلاتِ” التي تترتبُ على الأمرِ والنهيِ، فإذا كانت المفاسدُ أكثرَ مِن المصالحِ لم يجزْ الإنكارُ، وأمَّا إذا كانت المصالحُ أرجحَ وجبَ أنْ يقومَ بهِ مَن تأهلَ له بحيثُ لا يُقدَّمُ المهمُّ على الأهمِّ، قال الإمامُ سفيانُ الثوري: “لا يأمرُ بالمعروفِ، ولا ينهى عن المنكرِ إلّا مَن كان فيه خصالٌ ثلاث: رفيقٌ بمَا يأمرُ، رفيقٌ بمَا ينهَى، عدلٌ بمَا يأمرُ، عدلٌ بمَا ينهَى، عالمٌ بمَا يأمرُ، عالمٌ بمَا ينهَى” أ.ه.
رابعاً: في وجوهِ الإنفاقِ: المؤمنُ وسطٌ في طلبهِ للدنيا لا يُغالِي في طلبِهَا وتحصيلِهَا حتى لا يصيرُ عبداً لها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» (البخاري)، ولا ينقطعُ أيضاً عن بذلِ أسبابِ الرزقِ الحلالِ، والعيشِ الهنيِّ فيها، والتمتعِ بمَا أباحَ اللهُ لهُ، ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾، وقد أخبرَ القرآنُ الكريمُ عن صفاتِ “عبادِ الرحمنِ”، وبيّنَ حالَهُم في سلوكِهِم وفي معاشِهِم فقالَ سبحانَهُ:﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، فهُم ملتزمونَ في إنفاقهِم التوسطَ، فلا هُم متجاوزونَ للحدودِ التي شرعَهَا اللهُ، ولا هُم بخلاءُ في نفقتِهِم إلى درجةِ التضييقِ، وإنّمَا هم خيارٌ عدولٌ، فهم في حياتِهِم نموذجٌ يُقتدَى بهِ في القصدِ؛ لأنَّ الإسرافَ والتقتيرَ كلاهُمَا مفسدٌ لحياةِ الأممِ، أمّا الاعتدالُ في الإنفاقِ، فهو سماتُ العقلاءِ الذين على أكتافِهِم تنهضُ الأممُ، وتسعدُ المجتمعاتُ، ف “عبادُ الرحمنِ” بينَ المرتبتينِ، فلا يحرموَن هذا على حسابِ هذا، ولا يعطونَ هذا على حسابِ هذا؛ عملًا بتوجيهاتِ النبيِّ ﷺ، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:«أَتَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ النبي ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ، وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ، وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ؟ وَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ ﷺ: «تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ، وَالْجَارِ، وَالْمِسْكِينِ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْلِلْ لِي، قَالَ: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، وَالْمِسْكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ، وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾» (أحمد).
تابع / خطبة الجمعة القادمة 16 مايو : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي
خامساً: في شؤونِ الحياةِ كلِّهَا “أسلوبُ حياةٍ”: شملتْ “الوسطيةُ” جميعَ أمورِ الحياةِ ولم تقفْ عندَ حدٍّ معينٍ منهَا حتى في “العقابِ” قالَ تعالَى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾، كما تناولت “الوسطيةُ” أيضاً “أمورَ النكاحِ”؛ حيثُ يسرَهُ الإسلامُ، ولم يشددْ في تكاليفِه، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:«إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤُونَةً» (النسائي)، وترتبَ على ذلك الرزقُ الوفيرُ، فقالَ ربُّنَا:﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾؛ كما وجدنَا أنَّ سيدَنَا ﷺ حريضٌ على تربيةِ أصحابِه الكرامِ على منهجِ الاعتدالِ، ومنعِهِم مِن أيِّ اجتهادٍ قد يفضِي بهم إلى ما يفسدُ عباداتِهِم، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ ﷺ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» (البخاري)، وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ:«مَنْ هَذِهِ؟» قَالَتْ: فُلاَنَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا، قَالَ:«مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» (البخاري)، فليس في هذه الحوادثِ إلّا مزيدُ اجتهادٍ في الطاعةِ، حافزهُ حبُّ الخيرِ، وصدقُ النيّةِ، لكنّهُ ﷺ كان أبصرَ وأعلمَ، فمنعَهُم؛ لِمَا يؤولُ إليهِ مِن ابتعادٍ عن منهجيةِ التوسطِ التي اتسمتْ بهَا رسالتُهُ السمحةُ.
لقد صارَ “التوسطُ” سمةَ هديِ النبيِّ ﷺ، وشعاراً له حتى ظنَّ بعضُ الصحبِ الكرامِ أنَّ سببَ هذا راجعٌ لمقامِه الشريفِ ﷺ وما نالَهُ مِن مغفرةِ الكريمِ، فأنكرَ عليهِم ﷺ هذا الأمرَ، وأكدَ عليهِم أنَّ هذا المنهجَ المعتدلَ هو الأتقَى والأعظمَ خشيةً وطاعةً للهِ، تجد ذلك في حديثِ الثلاثِ الذين سألُوا عن عبادةِ النبيِّ ﷺ، فتقالُّوهَا، فعزمُوا على الإكثارِ مِن الطاعةِ فقالَ لهُم سيدُنَا ﷺ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (البخاري).
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة 16 مايو : حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محروس حفظي
(3) أثرُ الوسطيةِ على استقرارِ الفردِ والمجتمعِ:
“الوسطيةُ” منهجٌ واقعيٌّ يقومُ على الاعتدالِ في كلِّ شيءٍ، فلا ضررَ ولا ضرار، وإذا نظرَ العبدُ إلى العباداتِ والأعمالِ، وأرادَ أنْ يقتديَ فيها بأكملِ الخلقِ سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ رأى ذلك غيرَ شاقٍّ عليهِ، ولا مانعَ لهُ عن مصالحِ دنياهُ، بل يتمكنُ معهُ مِن أداءِ الحقوقِ كلِّهَا: “حقُّ اللهِ، وحقُّ النفسِ، والأهلِ والأصحابِ” وغيرهَا مِن الحقوقِ برفقٍ وسهولةٍ دونَ مزاحمةٍ بينها، أمّا مَن شدّدَ على نفسِهِ فلم يكتفِ بمَا اكتفَى بهِ النبيُّ ﷺ ولا بمَا علَّمَهُ للأمةِ وأرشدَهُم إليهِ، بل غلَا، وأوغلَ في العباداتِ، فإنَّ الدينَ يغلبهُ، وآخرُ أمرهِ العجزُ والانقطاعُ، فمَن قاومَ هذا الدينَ، ولم يقتصد، غلبَهُ، واستحسرَ ورجعَ القهقريَّ، ولهذا أمرَ ﷺ بالقصدِ، وحثَّ عليهِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبي ﷺ:«سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، …، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» (البخاري).
إنَّ المبالغةَ والتشددَ في الأمرِ لا شكَّ أنّهُ سيولدُ في النفسِ الكِبرَ والغرورَ، والتعالِي على الخلقِ، وربَّمَا يقودهُم للزيغِ والتطرفِ، ونبذِ الخُلقِ، ووصفهِم بالفسقِ، ورميهِم بالكفرِ، وتأملُوا صفةَ الخوارجِ التي جاءت في السنةِ المطهرةِ سيتبينُ لكُم يقينًا أنَّ مَن تعبدَ اللهَ على غيرِ منهجِ الوسطِ والاعتدالِ المحمدِي سيضلُّ لا محالةَ؛ فلا يُغترُّ بتدينِ هذا المتشددِ، ولا يُنخدَعُ بهِ، فمهمَا جلبَ على نفسِه مِن مظاهرِ التدينِ الشكلِي، فهو يوماً ما سيزولُ هذا الستارُ، وتسقطُ عنه تلك الأقنعةُ المزيفةُ، قال ﷺ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (أبو داود).
لقد رغبَّنَا الشارعُ الحكيمُ في البعدِ عن التشددِ حتى لا يصبحَ المجتمعُ عرضةً للإنحرافِ بمفهومِه الشاملِ، فعَنْ ابنِ مسعودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا» (مسلم)؛ لأنَّ التشددَ مسلكٌ مِن مسالكِ الشيطانِ لفتنةِ الناسِ في دينِهِم، فالشيطانُ إمَّا أنْ يدخلَ على الإنسانِ مِن بابِ التساهلِ والتفريطِ والتمييعِ حتى يوقعَهُ في المحرماتِ وتضييعَ الواجباتُ، أو يدخلَ عليهِ مِن بابِ التشددِ والإفراطِ، فيوقعَهُ في الغلوِّ في فهمِ النصوصِ الشرعيةِ، والتطرفِ في تطبيقِهَا حتى يصرفَهُ عن الحقِّ والعدلِ، ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾، وهذا يخالفُ سماحةَ الإسلامِ وعدلَهُ؛ فدينُ اللهِ وسطٌ في كلِّ تشريعاتِه، وآدابِه؛ ولذا بيّنَ لنَا النبيُّ ﷺ أنَّ “الوسطيةَ” تعنِي: “الاستقامةَ وعدمَ الميلِ”، فلا إفراطَ ولا تفريط، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (النسائي).
أخي الكريم: الرسالةُ المحمديةُ سهلةُ التطبيقِ، واضحةُ الفهمِ، فلم يشق اللهُ على عبادِه، وأمرَهُم بالرفقِ في أمرهِم، فعن أبي هريرةَ عن النبيِّ ﷺ قال: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا» (البخاري)، لكن هذا كلُّهُ يحتاجُ إلى حسنِ الفهمِ، والقصدِ في العملِ.
ولنفهمْ ولنعلمْ أنَّ “الوسطيةَ” فيها إعطاءُ الحقوقِ، فحقُّ اللهِ لهُ الحقُّ الأعظمُ، ورسولهِ ﷺ، ثم للوالدين حقوقهُم، وللزوجِ حقوقهُ، وللزوجةِ حقوقهَا، وللأبناءِ حقوقهُم، وللأقاربِ والخلقِ أجمعين حقوقهُم، وللوطنِ حقهُ، وهكذا في إطارِ التوازنِ والعدلِ دونَ تعدٍّ على حسابِ الآخرِ، ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
كما أنَّ مَن التزمَ منهجَ “الوسطيةِ” في عبادتِه وسلوكِه، ذاقَ طعمَ الإيمانِ، واستشعرَ حلاوتَهُ، فينطلقُ يعمرُ هذه الحياةَ بروحٍ يملأهَا الأملُ والتفاؤلُ بعيداً عن اليأسِ والقنوطِ، ويداومُ ويثابرُ على الطاعاتِ دونَ كللٍ أو مللٍ، ولا يتفلتُ عن الواجباتِ، مِمّا يتولدُ لديهِ الاستقرارُ النفسِي، والعاطفِي في التعاملِ مع قضاءِ اللهِ وقدرِه، فيصبرُ عندَ نزولِ الشدائدِ، ويشكرُ عندَ زحامِ النعمِ، فينشأُ عن ذلك كلِّهِ قلةُ الخطأِ، وكثرةُ الصوابِ سواءٌ أكان في أمورِ الدنيا أو الدينِ، ومجاهدةُ النفسِ، والارتقاءُ بها نحو المعالِي، ودوامُ المحاسبةِ لهَا، والإنابةُ للهِ ربِّ العالمين.
اللهُمَّ إنَّا نسألكَ أنْ تحفظَ دينَنَا الذي هو عصمةُ أمرِنَا، ودنيانَا التي فيها معاشُنَا، وآخرتَنَا التي إليهَا مردُّنَا، وأنْ تجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمناً أماناً، سلماً سلاماً وسائرَ بلادِ العالمين، وأنْ توفقَ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: الفقير إلى عفو ربه الحنان المنان د / محروس رمضان حفظي عبد العال
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف