خطبة الجمعة القادمة : إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ، للدكتور أحمد رمضان
بتاريخ 21 صفر 1447هـ، الموافق 15 أغسطس 2025م

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 21 صفر 1447هـ، الموافق 15 أغسطس 2025م.
-عناصر خطبة الجمعة القادمة 15 أغسطس 2025م بعنوان : إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العُنْصُرُ الأوَّلُ: السَّعْيُ وَالْعَمَلُ عِبَادَةٌ رَبَّانِيَّةٌ وَوَاجِبٌ شَرْعِيٌّ
العُنْصُرُ الثَّانِي: إِتْقَانُ الْعَمَلِ سِرٌّ لِنَهْضَةِ الْأُمَّةِ وَرَمْزٌ لِعِزَّتِهَا
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: السَّعْيُ وَالْعَمَلُ طَرِيقُ الْبَرَكَةِ وَالرِّزْقِ
الخطبة الثانية: العنصر الرابع: التَّكَاتُفُ الاِجْتِمَاعِيُّ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 15 أغسطس 2025م بعنوان : إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ
21 صفر 1447هـ – 15 أغسطس 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
اَلْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالسَّعْيِ وَالْعَمَلِ، وَجَعَلَ الْحَرَكَةَ فِي الْحَيَاةِ سَبِيلًا لِلنَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» (أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان”، ج 4، ص 334) – صحيح.
العُنْصُرُ الأوَّلُ: السَّعْيُ وَالْعَمَلُ عِبَادَةٌ رَبَّانِيَّةٌ وَوَاجِبٌ شَرْعِيٌّ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنَّ دِينَ اللَّهِ الْحَنِيفَ لَيْسَ دِينًا يُقْعِدُ أَهْلَهُ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَلَا شَرِيعَةً تُرِيدُ لِأُمَّةِ الْإِيمَانِ أَنْ تَبْقَى فِي ذُيُولِ الْأُمَمِ، بَلْ هُوَ دِينٌ جَعَلَ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ، وَطَلَبَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، وَبَذْلَ الْجُهْدِ الْمُتْقَنِ سَبِيلًا لِرِضَا اللَّهِ، وَعِبَادَةً يُثَابُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا، وَطَرِيقًا لِرِفْعَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: أَيْ سَهَّلَ اللَّهُ الْأَرْضَ لَكُمْ، وَذَلَّلَ طُرُقَهَا، وَأَوْدَعَ فِيهَا أَرْزَاقًا لَا تُحْصَى، فَسِيرُوا فِي أَرْجَائِهَا وَاطْلُبُوا مَا قَدَّرَ اللَّهُ فِيهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَرْجِعَ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ” (تفسير ابن كثير، ج4، ص390).
إِذًا، فَالْإِسْلَامُ يَرْبِطُ بَيْنَ حَرَكَةِ الْحَيَاةِ وَرِقَابَةِ الْآخِرَةِ، لِيُدْرِكَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ تُحْسَبُ لَهُ إِنْ أَخْلَصَ النِّيَّةَ وَالتَزَمَ الْحَلَالَ.
الْعَمَلُ عِبَادَةٌ، بَلْ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ:
أيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنَّ دِينَنَا الْحَنِيفَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْحَيَاةِ، بَلْ سَوَّى بَيْنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ الشَّرِيفِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20].
قَالَ محمد سيد طنطاوي رحمه الله: “وقد جمع- سبحانه- بين السعى في الأرض لطلب الرزق، وبين الجهاد في سبيله، للإشعار بأن الأول لا يقل في فضله عن الثاني، متى توفرت فيه النية الطيبة، وعدم الانشغال به عن ذكر الله” (التفسير الوسيط، ج15، ص169).
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: “فِي ذِكْرِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ الْمَرَضِ وَقَبْلَ الْقِتَالِ، إِثْبَاتٌ أَنَّ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْحِلَالِ جِهَادٌ يُؤْجَرُ صَاحِبُهُ إِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ” (الجامع لأحكام القرآن، ج19، ص62).
وَقَالَ أَيْضًا: سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُكْتَسِبِينَ الْمَالَ الْحَلَالَ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “أأَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ”. (الجامع لأحكام القرآن، ج19، ص56).
حديث نبوي يوضّح المعنى:
رُوِيَ أَنَّهُ مَرَّ رَجُلٌ جَلِيدٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأُعْجِبَ أَصْحَابُهُ بِقُوَّتِهِ، فَقَالُوا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ ﷺ: “إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ» (رواه الطبراني في الكبير ح 282. 19/ 129، حديث حسن).
وهكذا تُثبت الشريعة: أن العمل الحقّ، سواء في الجهاد أو الرزق، عبادة ربانية مُجزية إذا كانت خالصة مخلصة لله.
قالَ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهُما: “ما خَلَقَ اللَّهُ مَوْتةً أُحبُّ إليَّ مِنَ المَوْتِ بَعدَ المَوْتِ في سَبيلِ اللَّهِ، أُموتُها بَينَ شُعَبَتَي رَحلِي، أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ضَارِبًا في الأَرضِ”. (تفسير القرطبي، ج19، ص62؛ وذُكر كذلك في شمائل السيوطي «الدر المنثور»، ج8، ص323).
مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على مَجْمُوعَةٍ مِنَ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَنْتُمْ؟» فَقَالُوا: «نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ». فَقَالَ: “بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَّوَاكِلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يَلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ”. رواه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب “الزهد” (ج1، ص 309، رقم 885)، وابن أبي الدنيا في كتاب “التوكل على الله” (ص 43، رقم 78)، أبو نعيم في “حلية الأولياء” (ج1، ص 49).
وَقَالَ أيضـًا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “لَا يَقْعُدُ أحدكم عن طلب الرزق يقول اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تمطر ذهباً ولا فضة” إحياء علوم الدين ج 2، صـ 62.
وقال سفيان الثوري:
“لَأَنْ أُخْلِفَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللهُ عَلَيْهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ” حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ لِأَبِي نُعَيْمٍ، ج7، ص16.
فَكَيْفَ نَحْنُ وَقَدْ صَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَسْتَسْهِلُ الْمَسْأَلَةَ وَيَتَوَسَّعُ فِي الْأَخْذِ مِنَ النَّاسِ دُونَ حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ؟! إِنَّهُ لَزَمَنٌ يَحْتَاجُ فِيهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَتَخَذَ الْعِفَّةَ شِعَارًا، وَغِنَى النَّفْسِ دَثَارًا، وَالسَّعْيَ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ دِينًا وَوِقَايَةً.
إِنَّ الصِّدْقَ فِي الْمَعَامَلَاتِ وَالْأَمَانَةَ فِي الْأَعْمَالِ مِمَّا جَعَلَهُ الإِسْلَامُ سَبِيلًا لِرِفْعَةِ الْمَرْتَبَةِ وَسُمُوِّ الدَّرَجَةِ، فَجَمَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْأَمَانَةِ وَالتُّجَّارِ الصَّادِقِينَ وَبَيْنَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ”. رواه الترمذي في “سننه” برقم (1209)، وقال: حديث حسن.
فَيَا لَهَا مِنْ مَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ! أَنْ يَبْلُغَ التَّاجِرُ بِنَزَاهَتِهِ وَصِدْقِهِ مَرَاتِبَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ. فَهَذَا دِينٌ يَجْعَلُ مِيزَانَ الْقِيَمِ أَعْلَى مِنْ مِيزَانِ الْأَمْوَالِ، وَيَرْفَعُ مَنْ صَدَقَ فِي مَعَاشِهِ إِلَى سُلَّمِ الْمُقَرَّبِينَ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ الصَّادِقُ وَالْبَيْعُ الْأَمِينُ عِبَادَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
السَّعْيُ عِبَادَةٌ لَا تُنَافِي التَّوَكُّلَ
رَوَى الْبُخَارِيُّ (ح 2072) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ”.
تَأَمَّلُوا –رَحِمَكُمُ اللَّهُ– فِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَبِيٌّ مُلْهَمٌ، وَمَلِكٌ مُمَكَّنٌ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، يَصْنَعُ الدُّرُوعَ وَيَبِيعُهَا، لِيُرْسِخَ مَعْنَى أَنَّ الْعِزَّةَ فِي الْكَسْبِ الْحَلَالِ أَفْضَلُ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ ﷺ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: “لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيُورُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (التِّرْمِذِي، ح2344، صحيح).
الْمَعْنَى: الطَّيْرُ تَخْرُجُ جَائِعَةً وَتَعُودُ شَبْعَى، فَلَوْ بَقِيَتْ فِي أَعْشَاشِهَا مَا وَجَدَتْ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَسْعَى وَيَجْتَهِدُ ثُمَّ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ.
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الْعَمَلَ عِبَادَةٌ، وَالسَّعْيَ فَرِيضَةٌ، وَالِاجْتِهَادَ سَبِيلُ الْعِزَّةِ وَالْبَرَكَةِ. وَلَكِنَّ الْعَمَلَ لَا يُؤْتِي ثَمَرَتَهُ وَلَا تُجْنَى بَرَكَاتُهُ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِتْقَانِ وَالإِخْلَاصِ. وَهُنَا نَنْتَقِلُ إِلَى الْعُنْصُرِ الثَّانِي: إِتْقَانُ الْعَمَلِ سِرٌّ لِنَهْضَةِ الْأُمَّةِ وَرَمْزٌ لِعِزَّتِهَا، لِنَرَى كَيْفَ أَمَرَ الإِسْلَامُ بِالْإِتْقَانِ، وَرَبَطَهُ بِحُبِّ اللَّهِ وَرِضَاهُ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: إِتْقَانُ الْعَمَلِ سِرٌّ لِنَهْضَةِ الْأُمَّةِ وَرَمْزٌ لِعِزَّتِهَا
عِبَادَ اللَّهِ، لَمْ يَكْتَفِ الإِسْلَامُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْعَمَلِ، بَلْ أَمَرَ بِإِتْقَانِهِ وَإِحْسَانِ أَدَائِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ أُسُسِ بِنَاءِ الأُمَمِ، وَرَمْزًا لِعِزَّةِ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَمِفْتَاحًا لِرِفْعَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَلَا عِزَّةَ لِأُمَّةٍ تَتَكَاسَلُ فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا قُوَّةَ لِمُجْتَمَعٍ يُؤَدِّي أَعْمَالَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الإِتْقَانِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
التَّفْسِيرُ الْمَوْضُوعِيُّ: قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ: “فسيرى اللهُ إن عمِلتُم عملَكم، ويراه رسولُه ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ في الدنيا، ﴿وَسَتُرَدُّونَ﴾ يومَ القيامةِ إلى مَن يَعْلَمُ سرائرَكم وعلانيتَكم، فلا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن باطنِ أمورِكم وظواهرِها ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: يقولُ: فيُخْبِرُكم بما كنتم تَعمَلون؛ وما منه خالصًا وما منه رياءً، وما منه طاعةً وما منه للهِ معصيةً، فيجازِيكم على ذلك كلِّه جزاءَكم؛ المحسنَ بإحسانِه، والمسيءَ بإساءتِه”. (جامع البيان، ج 11، ص 667، 668).
فَكَيْفَ يَتَسَاهَلُ الْمُؤْمِنُ فِي عَمَلٍ يُعْرَضُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
الإِتْقَانُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» (رواه البيهقي في شعب الإيمان، ج4، ص334، صحيح.
الْمَعْنَى: لَيْسَ الإِتْقَانُ تَرَفًا، وَلَا أَمْرًا دُنْيَوِيًّا مَحْضًا، بَلْ هُوَ مِيزَانٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَجْعَلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْعُبُودِيَّةِ.
قِصَصٌ مُضِيئَةٌ فِي الإِتْقَانِ:
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمَانَةُ الْعَمَلِ: كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا فِي شَأْنِهِ الْخَاصِّ أَطْفَأَ سِرَاجَ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَوْقَدَ سِرَاجًا مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ: “إِنَّ هَذَا نُورُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ حُقُوقِهِمْ” (سير أعلام النبلاء، ج5، ص120).
مُشَارَكَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَمَلِ: روى ابن إسحاق في السيرة أن النبي ﷺ شارك الصحابة في بناء المسجد، وحمل معهم اللبن والحجارة، وهو يقول:
اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ”. أخرجه البخاري (428، 7201)، ومسلم (524/ 1805).
لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الْقَائِدَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلَ الْعَامِلِينَ.
الإِتْقَانُ سَبِيلُ الْحَضَارَةِ وَالنَّهْضَةِ
إِذَا نَظَرْنَا فِي تَارِيخِ الْمُسْلِمِينَ، رَأَيْنَا أَنَّ عُصُورَ أَمْجَادِهِمْ كَانَتْ يَوْمَ اجْتَمَعَ الْعِلْمُ مَعَ الْإِتْقَانِ: فِي بَيْتِ الْحِكْمَةِ تُتَرْجَمُ الْكُتُبُ بِأَدَقِّ اللُّغَاتِ، وَفِي الْمَرَاكِزِ الصِّنَاعِيَّةِ تُبْنَى السُّفُنُ وَتُصَاغُ الْآلَاتُ بِأَبْهَى إِحْكَامٍ، حَتَّى سَبَقُوا الْعَالَمَ.
وَلَمَّا تَرَاجَعَ الإِتْقَانُ، وَفَشَا الْإِهْمَالُ، تَأَخَّرَتِ الأُمَّةُ، وَتَقَدَّمَ غَيْرُهَا.
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الإِتْقَانَ هُوَ جِسْرُ الْعِبَادَةِ إِلَى الْبَرَكَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَى نَتَائِجَ سَعْيِهِ مُبَارَكَةً فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، فَعَلَيْهِ بِإِتْقَانِ الْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَهُنَا نَنْتَقِلُ إِلَى الْعُنْصُرِ الثَّالِثِ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: السَّعْيُ وَالْعَمَلُ طَرِيقُ الْبَرَكَةِ وَالرِّزْقِ
أيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنَّ الرِّزْقَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، قَدْ قَسَمَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَضَمِنَ لِكُلِّ نَفْسٍ قُوتَهَا، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَعَ لَنَا السَّعْيَ وَالأَخْذَ بِالأَسْبَابِ شَرِيعَةً وَسَبِيلًا لِنُزُولِ بَرَكَاتِهِ وَتَحْصِيلِ رِزْقِهِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ الرِّزْقَ وَهُوَ قَاعِدٌ مُعْرِضٌ عَنِ السَّعْيِ، فَقَدْ جَهِلَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ وَخَالَفَ شَرْعَهُ فِي دِينِهِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الْجُمُعَة: 10].
قَال القرطبي رحمه الله: هَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، إِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ. (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أَيْ مِنْ رِزْقِهِ. وَكَانَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دعوتك، وصليت فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتِنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وأنت خير الرازقين. (الجامع لأحكام القرآن ج18، ص108، 109).
فَانْظُرُوا -عِبَادَ اللَّهِ- كَيْفَ جَمَعَ الْقُرْآنُ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَسَعْيِ الدُّنْيَا، لِيُرَبِّيَ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْحَيَاةِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ كَانَتْ عِبَادَةً.
السَّعْيُ يُجْلِبُ الْبَرَكَةَ وَيَدْفَعُ الْفَقْرَ
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ» (رواه مسلم، ح2664).
فَالسَّعْيُ نَافِذَةُ الْبَرَكَةِ، وَالْكَسَلُ سَبِيلُ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ. وَلِذَا كَانَ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ» (أبو داود، ح1548، صحيح).
قِصَّةٌ نَبَوِيَّةٌ بَلِيغَةٌ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى الْعَمَلِ
جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ: «أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟» قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ. فَقَالَ ﷺ: «ائْتِنِي بِهِمَا»، فَبَاعَهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا لِأَهْلِكَ، وَبِالآخَرِ قَدُومًا، وَاذْهَبْ فَاحْتَطِبْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا” فَعَادَ الرَّجُلُ وَقَدْ كَسَبَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ (ابن ماجه، ح2140)، والنسائي (7/ 259). وقال الترمذي: حديث حسن
الدَّرْسُ: أَرَادَ ﷺ أَنْ يُعَلِّمَ الأُمَّةَ أَنَّ الْعِزَّةَ فِي الْعَمَلِ أَشْرَفُ مِنْ ذُلِّ السُّؤَالِ، وَأَنَّ السَّعْيَ يُفْتَحُ بِهِ بَابُ الْكِفَايَةِ وَالْغِنَى.
أَقْوَالُ السَّلَفِ فِي الْبَرَكَةِ وَالسَّعْيِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: “لَأَنْ أَتْرُكَ دِرْهَمًا فِي يَدِ وَلَدِي خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ أَتْرُكَهُ يَسْأَلُ النَّاسَ” (حِلْيَةُ الأَوْلِيَاء، ج8، ص167).
الْبَرَكَةُ ثَمَرَةُ السَّعْيِ الْمُتْقَنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].
وَقَالَ ﷺ: “الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» (البخاري، ح1427، ومسلم، ح1033).
فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ يَدُ الْعَامِلِ الْمُعْطِي، وَالسُّفْلَى يَدُ الْمُعْتَمِدِ الْمُتَّكِلِ، وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي بِنَاءِ الْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ الإِيمَانِيَّةِ.
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الْبَرَكَةَ تُلْحَقُ بِالْيَدِ الْعَامِلَةِ، وَالْكَسَلُ يَجْلِبُ الْفَقْرَ وَالذُّلَّ. فَاعْمَلُوا وَاجْتَهِدُوا، وَخُذُوا بِالأَسْبَابِ مَعَ صِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ، وَيُبَارِكُ فِي جُهْدِ الْمُجْتَهِدِ، وَيَرْفَعُ قَدْرَ الْمُتَّقِنِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ.
الخَاتِمَةُ وَالدُّعَاءُ
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ السَّعْيَ فِي الأَرْضِ، وَالإِتْقَانَ فِي الْعَمَلِ، وَالإِخْلَاصَ فِي النِّيَّةِ، أُسُسٌ تَبْنِي الْأُمَمَ، وَتُقِيمُ الْحَضَارَاتِ، وَتَجْلِبُ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ –عِبَادَ اللَّهِ– فِي أَعْمَالِكُمْ، وَاحْفَظُوا أَوْقَاتَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَرَى مَا تَعْمَلُونَ، وَسَيُجَازِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ؛ فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْعَامِلِينَ فِي حَقِّكَ، الْمُتْقِنِينَ لِأَعْمَالِهِمْ، الْمُخْلِصِينَ فِي نِيَّاتِهِمْ.
اللَّهُمَّ افْتَحْ لَنَا أَبْوَابَ رِزْقِكَ الْحَلَالِ، وَبَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَعْيَنَا فِي مَرْضَاتِكَ، وَارْزُقْنَا قُوَّةً فِي طَاعَتِكَ، وَإِتْقَانًا فِي أَعْمَالِنَا.
د. أحمد رمضان
الخطبة الثانية: العنصر الرابع: التَّكَاتُفُ الاِجْتِمَاعِيُّ
الحمدُ للهِ الَّذي جَعَلَ التَّراحُمَ بَيْنَ عِبادِهِ سَبَبًا لِعُلُوِّ شَأنِهِمْ، وَأَمَرَ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَهَى عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يُوافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
التَّكَاتُفُ الاِجْتِمَاعِيُّ مَعْنَاهُ وَمَكَانَتُهُ فِي الإِسْلَامِ
أيُّها الأحِبَّةُ، التَّكَاتُفُ الاِجْتِمَاعِيُّ هُوَ تَعَاوُنُ النَّاسِ فِي مَا يَجْلِبُ الخَيْرَ وَيَدْفَعُ الضَّرَرَ، وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ أَجْمَلِ صُوَرِ الإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا” [رواه البخاري 481، ومسلم 2585]، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
هذا المَعْنَى جَاءَتْ بِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، وَهُوَ أَمْرٌ صَرِيحٌ بِأَنْ نَكُونَ يَدًا وَاحِدَةً.
التَّكَاتُفُ سِمَةُ المُجْتَمَعِ الصَّالِحِ
متى كانَ المُجْتَمَعُ مُتَكَاتِفًا، زَالَتْ مَظَاهِرُ الفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَعَمَّتْ الرَّحْمَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ. وَفِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ بَعْدَ الهِجْرَةِ آخَى بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَتَقَاسَمُوا المَالَ وَالدِّيارَ، حَتَّى قَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: “إِنِّي أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَعْجَبَكَ فَأُطَلِّقُهَا فَتَتَزَوَّجُهَا”، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: “بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ” [رواه البخاري 3780].
هذا المَشْهَدُ العَظِيمُ يَعْكِسُ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّكَافُلِ وَالإِيثَارِ.
ثَمَرَاتُ التَّكَاتُفِ وَآثَارُهُ فِي الحَيَاةِ
التَّكَاتُفُ يَجْلِبُ القُوَّةَ وَالمَنَعَةَ، وَيُحَوِّلُ المُجْتَمَعَ إِلَى بِنَايَةٍ مُحْكَمَةٍ. وَمَا سَقَطَتْ أُمَّةٌ إِلَّا حِينَ تَفَرَّقَتْ قُلُوبُهَا وَتَشَتَّتَتْ كَلِمَتُهَا. وَقَدْ قَالَ ﷺ: “المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ” [رواه البخاري 2442، ومسلم 2580].
وانظروا –رعاكم الله– كيف وقَفَ المُسْلِمُونَ مَعَ المُتَضَرِّرِينَ فِي عُصُورٍ شَتَّى، فَفِي أَزْمِنَةِ المَجَاعَاتِ وَالكَوَارِثِ كَانُوا يَجْمَعُونَ الغِلَالَ وَالأَمْوَالَ لِإِغَاثَةِ المُحْتَاجِينَ.
دَعْوَةٌ عَمَلِيَّةٌ لِلتَّكَاتُفِ
التَّكَاتُفُ لَيْسَ شِعَارًا يُرْفَعُ، بَلْ مَسْؤُولِيَّةٌ يَتَحَمَّلُهَا كُلُّ فَرْدٍ. وَيَبْدَأُ ذَلِكَ بِزِيَارَةِ المَرِيضِ، وَمُسَاعَدَةِ الفَقِيرِ، وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ، وَالمُسَاهَمَةِ فِي المَشَارِيعِ الخَيْرِيَّةِ. وَالإِسْلَامُ يَجْعَلُ كُلَّ ذَلِكَ قُرْبَةً إِلَى اللهِ، فَقَالَ ﷺ: “أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ” [رواه الطبراني في المعجم الكبير 13646، حديث حسن].
فلْنَكُنْ يَدًا وَاحِدَةً، نُعِينُ الضَّعِيفَ، وَنُقَوِّي المُحْتَاجَ، وَنَحْمِلُ هَمَّ أُمَّتِنَا.
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَارْزُقْنَا الإِخْلَاصَ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ.
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، سنن النسائي، مسند أحمد، شعب الإيمان للبيهقي، المعجم الكبير للطبراني.
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تفسير ابن كثير، جامع البيان للطبري، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي، شعب الإيمان للبيهقي، الزهد أحمد بن حنبل، سير أعلام النبلاء للذهبي، الدر المنثور للسيوطي، إحياء علوم الدين للغزالي، التوكل على الله ابن أبي الدنيا.
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
–للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف