خطبة الجمعة القادمة : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ ، للدكتور أحمد رمضان
للدكتور أحمد رمضان، بتاريخ 5 ربيع الأول 1447هـ ، الموافق 29 أغسطس 2025م

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ ، للدكتور أحمد رمضان، بتاريخ 5 ربيع الأول 1447هـ ، الموافق 29 أغسطس 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 أغسطس 2025م بصيغة word بعنوان : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ ، للدكتور أحمد رمضان.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 أغسطس 2025م بصيغة pdf بعنوان : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ ، للدكتور أحمد رمضان.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 29 أغسطس 2025م بعنوان : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ.
العنصر الأول: السَّماحةُ في الإسلام وسِماتُها الإيمانية
العنصر الثَّاني: آثارُ السَّماحةِ على الفردِ والمجتمعِ في الدنيا والآخرة
العنصر الثالث: سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ: رمزٌ وهويةٌ وَقَصَصُ هدايةٍ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 29 أغسطس 2025م بعنوان : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ : كما يلي:
سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ
5 ربيع الأول 1447هـ – 29 أغسطس 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الحليمِ الرَّحيمِ، الغفورِ الكريمِ، الرؤوفِ بعبادِه، الذي سبقتْ رحمتُه غضبَه، وعمَّ فضلُه خلقَه، وأمرَ بالسَّماحةِ في المعاملةِ، وجعلها شِعارَ المؤمنينَ الصادقينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلهُ اللهُ رحمةً للعالمين، وإمامًا للمتسامحين، وقدوةً للمتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أيُّها الإخوةُ المسلمون، إنَّ السَّماحةَ في دينِ الإسلامِ ليست مظهرًا هامشيًّا أو فضيلةً ثانويةً، وليست نزعةً وجدانيةً طارئةً، بل هي أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الدِّينِ، وركنٌ متينٌ في بناءِ شخصيةِ المسلمِ، وشعبةٌ من شعبِ الإيمانِ، تنبعُ من قلبٍ ممتلئٍ بحبِّ اللهِ، مطمئنٍّ برجاءِ ثوابِه، وتفيضُ آثارُها في معاملةِ الخالقِ والمخلوقِ على حدٍّ سواءٍ.
العنصر الأول: السَّماحةُ في الإسلام وسِماتُها الإيمانية
لقد جاء القرآنُ الكريمُ ليؤسِّسَ للسَّماحةِ في أصولِ العقيدةِ وفروعِ الشريعةِ، ويغرسَها في القلوبِ، ويجعلَها من أوضحِ علاماتِ التُّقى. قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، أي: فبرحمةٍ مِن اللهِ لنْتَ لهم، وكذلك كانت صفتُه صلى الله عليه وسلم، كما وصَفَه اللهُ به: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. فبرحمةِ اللهِ يا محمدُ، وبرأْفَتِه بك، وبمَن آمَن بك مِن أصحابِك، لِنتَ لتُبَّاعِك وأصْحابِك … وجعَله قريبًا رَحيمًا بالمؤمنين. [وقد] ذُكر لنا أنَّ نَعْتَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في التَّوْرَاةِ: ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا صَخوبٍ (صَخاب) في الأسْواقِ، ولا يَجْزِى بالسيئةِ مثلَها، ولكن يَعْفُو ويَصْفَحُ. [تفسير الطبري، ج6، ص186- 187 ت: التركي، ط. دار هجر].
قال ابن بطَّال – رحمهُ الله – “الكلامُ الطّيِّبُ مَندوبٌ إليهِ وهو مِن جليلِ أفعالِ البِرِّ؛ لأنَّ النبيَّ عليهِ السّلامُ جَعَلهُ كالصدقةِ بالمالِ… ألا ترى أنّها تَذهبُ الشَّحناءَ وتُجْلِيَ السَّخيمَةَ – أما ترى أن الكلمة الطيبة تُزيل العداوة وتطهر القلوب من الضغائن – كما قال تعالى: (ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت 34. شرح صحيح البخاري لابن بطال باب: “الرفق في الأمر كلّه”، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، الرياض: مكتبة الرشد، الطبعة الثانية، 1423هـ/2003م، ج 9، ص 225.
وفي السُّنَّةِ النبويةِ، روى عبدُ الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبي ﷺ قال: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى العُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ”. صحيح مسلم، ح 2593.
ومن أروع المواقف التي تجسِّد هذه السَّماحة، ما رواه أنس رضي الله عنه: “كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ“. صحيح البخاري، ح 5809، وصحيح مسلم، ح 1057.
فهكذا كان ﷺ يعامل حتى من أساء إليه، فيحوِّل الموقفَ إلى درسٍ في الحلمِ والعفوِ.
وقد قال الحسن البصري رحمهُ الله: “المؤمنُ سهلُ الجانبِ، لينُ الكلمةِ، قريبٌ من الناسِ، لا يُعاشرُهم إلا على خيرٍ”. حلية الأولياء، ج2، ص147.
أيُّها الأحبةُ، إنَّ السَّماحةَ قوَّةٌ في ضبطِ النفسِ، وسموٌّ في الخلقِ، وهي التي تجمعُ القلوبَ على المودَّةِ، وتطفئُ نيرانَ البغضاءِ، وتجعلُ المجتمعَ متماسكًا، يعيشُ أفراده في ظلٍّ من الرحمةِ والعدلِ.
السَّمَاحَةُ سِمَةُ المُؤْمِنِينَ وَمِفْتَاحُ القُلُوبِ
أيُّها الأحِبَّةُ الكِرامُ، إنَّ السَّمَاحَةَ في الإسلامِ لَيْسَتْ مجرَّدَ مَسْأَلَةٍ أخلاقيةٍ تكميليةٍ، وإنَّما هِيَ صِفَةٌ أصيلةٌ وَسِمَةٌ راسِخَةٌ في كُلِّ مُؤمِنٍ صادِقٍ، يَسْتَمِدُّهَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ من أحبِّكم إليَّ أحسنُكم أخلاقًا» [رواه البخاري، ح 3759، ومسلم، ح 2321].
فالمؤمنُ الحقُّ يُقَابِلُ الإساءةَ بالإحسانِ، والجَفَاءَ بالبِشْرِ، ويُبَادِرُ بالعَفْوِ قَبْلَ طَلَبِهِ، ويَغْفِرُ قَبْلَ الاعْتِذَارِ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا – جَلَّ وَعَلَا-: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].
وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ كَثِيرٍ – رَحِمَهُ اللهُ – في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: “إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ، أَيْ قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْمَوْصِيَةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ”. [تفسير ابن كثير، ج7، ص 165- 166، ط. العلمية].
لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ، وَقَفَ أَمَامَ أَهْلِهَا الَّذِينَ آذَوْهُ وَأَخْرَجُوهُ وَقَاتَلُوهُ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» قَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» [السنن الكبرى للبيهقي، ج9، ص199، ح 18276، تحقيق محمد عبد القادر عطا، ط. دار الكتب العلمية، ضعيف بهذا اللفظ، ولكن تسمية الطُّلَقَاء ثابتةٌ في السُّنَّة، والطلقاءُ هم الذين عفا عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريشٍ وسامَحَهم يوم الفتح، والقصة ثابتة في السيرة (ابن هشام، ج4، ص54 ط. دار المعرفة]. هَذَا هُوَ أَسْمَى أَنْوَاعِ السَّمَاحَةِ الَّتِي تُذِيبُ الأَحْقَادَ وَتَفْتَحُ أَبْوَابَ القُلُوبِ.
وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ–: “ثَلَاثٌ يُصَفِّيْنَ وُدَّ أَخِيكَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَتُوَسِّعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ” [الأدب المفرد للبخاري، ح 970، صحيح].
قال الشاعر: وَإِنِّي لَمِمَّا يَزْهَدُ النَّاسُ فِي غِنًى ** وَيُغْنِينِي عَنْ كَسْبِ القَلِيلِ سَمَاحِيَا
فَالسَّمَاحَةُ يَا أَحِبَّة لَيْسَتْ مَجَرَّدَ بَذْلٍ مَادِّيٍّ، بَلْ هِيَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي العَفْوِ وَالإِحْسَانِ وَالمُسَارَعَةِ لِقَطْعِ سِلْسِلَةِ الثَّأْرِ وَالغِلِّ.
خلاصة العنصر: السماحةُ هي جسرُ العبورِ إلى القلوبِ، وسلاحُ الداعيةِ في دعوته، وحِصنُ المجتمعِ من الانقسامِ والشقاقِ، ومفتاحُ الألفةِ بين المؤمنين.
العنصر الثَّاني: آثارُ السَّماحةِ على الفردِ والمجتمعِ في الدنيا والآخرة
أولاً: السَّمَاحَةُ قُوَّةٌ لَا ضَعْفٌ
أيُّهَا الإخْوَةُ الكِرَامُ، يَخْطَئُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَيَظُنُّ أَنَّ السَّمَاحَةَ أَمَارَةُ عَجْزٍ أَوْ دَلِيلُ ضَعْفٍ، وَهَذَا وَهْمٌ يُخَالِفُ مِيزَانَ الشَّرْعِ وَمِنْهَاجَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ السَّمَاحَةَ فِي الإِسْلَامِ قِمَّةُ القُوَّةِ والمِعيارُ الأصدقُ لسلامةِ القلوبِ وشهامةِ النفوسِ، لِأَنَّهَا إِمْسَاكٌ لِلنَّفْسِ عِنْدَ هَيَجَانِ الغَضَبِ، وَكَبْحٌ لِجِمَاحِهَا عِنْدَ الِاسْتِفْزَازِ، وَإِلْزَامٌ لَهَا طَرِيقَ الحِلْمِ وَالرِّفْقِ، وَهِيَ مَنْقَبَةُ الأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ فِي أَوْجِ قُدْرَتِهِمْ.
قال تعالي: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].
و قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» [صحيح البخاري، ح 6114، ن عطاءات العلم، وصحيح مسلم، ح 2609]، وَفِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَرَادَ ﷺ أَنَّ الَّذِي يَقْوَى عَلَى مَلْكِ نَفْسِهِ عِنْدَ الغَضَبِ وَيَرُدُّهَا عَنْهُ هُوَ القَوِيُّ الشَّدِيدُ… فَدَلَّ هَذَا أَنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْ مُجَاهَدَةِ العَدُوِّ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ لِلَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ مِنَ القُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ لِلَّذِي يَغْلِبُ النَّاسَ وَيَصْرَعُهُمْ”. شرح صحيح البخاري لابن بطّال، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، ط2 (1423هـ)، ج9، ص296، «كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب».
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ”. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، كِتَابُ البِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ اسْتِحْبَابِ العَفْوِ وَالتَّوَاضُعِ، حَدِيثُ رَقْم (2588).
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللهِ، هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَضَعُ بَيْنَ أَيْدِينَا قَاعِدَةً رَبَّانِيَّةً عَجِيبَةً، تُخَالِفُ مَا يَتَصَوَّرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ العَفْوَ ضَعْفٌ أَوْ تَنَازُلٌ عَنِ الحَقِّ، بَلْ بَيَّنَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ العَفْوَ يُورِثُ صَاحِبَهُ عِزًّا حَقِيقِيًّا، لَيْسَ عِزَّ القُوَّةِ الجَسَدِيَّةِ وَلَا السُّطْوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ عِزَّ المَكَانَةِ وَالقَدْرِ فِي قُلُوبِ الخَلْقِ، وَرَفْعَةِ الدَّرَجَةِ عِنْدَ الخَالِقِ.
فَالعَفْوُ سُلُوكُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُصْلِحِينَ، يُطْفِئُ نِيرَانَ العَدَاوَةِ، وَيُبَدِّدُ سَوَادَ الضَّغِينَةِ، وَيَجْعَلُ القُلُوبَ تَنْقَادُ بِالمَحَبَّةِ بَدَلَ أَنْ تُسَاقَ بِالخَوْفِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيرَةَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ قَالَ لِمَنْ آذَوْهُ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» أَدْرَكَ أَنَّ العَفْوَ فِي مَوْضِعِ القُدْرَةِ هُوَ ذِرْوَةُ القُوَّةِ، وَأَسْمَى مَرَاتِبِ الشَّجَاعَةِ.
وَيَتَأَكَّدُ هَذَا المَعْنَى فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]، فَجَعَلَ اللهُ العَفْوَ سَبِيلًا لِمَغْفِرَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ بِتَذْكِيرِنَا بِحَاجَتِنَا جَمِيعًا إِلَى عَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ.
مَوْقِفٌ مِنْ حَيَاةِ الخُلَفَاءِ:
ذُكِرَ أَنَّ الخَلِيفَةَ العَبَّاسِيَّ المَأْمُونَ، بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ يَسُبُّهُ فِي مَجَالِسِهِ، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ لَهُ المَأْمُونُ: أَنْتَ الَّذِي تَذْكُرُنَا بِسُوءٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ وَأَشَدَّ مِنْهُ، فَقَالَ المَأْمُونُ مُبْتَسِمًا: لَوْ شِئْتُ لأَوْجَعْتُكَ عُقُوبَةً، وَلَكِنِّي أَخْتَارُ أَنْ أَسْتَبْقِيَكَ بِدُعَائِكَ لَنَا بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ جَزِيلٍ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: “اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ”. فَبَلَغَتْ سَمَاحَتُهُ القُلُوبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهَا سُيُوفُهُ. تحقق
أَقْوَالُ الحُكَمَاءِ وَالعُلَمَاءِ:
قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاءِ: “أَعْقَلُ النَّاسِ أَعْذَرُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَقْوَاهُمْ نَفْسًا أَحْلَمُهُمْ عِنْدَ الغَضَبِ”. وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ – رَحِمَهُ اللهُ- حَوْلَ أَثَرِ المَحَبَّةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي النَّفْسِ وَالرُّوحِ: “هِيَ قُوتُ القُلُوبِ، وَغِذَاءُ الأَرْوَاحِ، وَقُرَّةُ العُيُونِ، وَهِيَ الحَيَاةُ الَّتِي مَنْ حُرِمَهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَمْوَاتِ، وَالنُّورُ الَّذِي مَنْ فَقَدَهُ فَهُوَ فِي بَحَارِ الظُّلُمَاتِ، وَالشِّفَاءُ الَّذِي مَنْ عَدِمَهُ حَلَّتْ بِقَلْبِهِ جَمِيعُ الأَسْقَامِ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَعَيْشُهُ كُلُّهُ هُمُومٌ وَآلَامٌ”. ابْنُ القَيِّمِ، مَدَارِجُ السَّالِكِينَ، فَصْلُ «مَنْزِلَةِ المَحَبَّةِ»، ج 3، ص9.
شَاهِدٌ شِعْرِيٌّ:
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ ** فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
الخُلاَصَةُ:
السَّمَاحَةُ مِعْيَارُ القُوَّةِ الحَقِيقِيَّةِ، لَيْسَتْ هُوَادَةً مُضَيِّعَةً لِلْحُقُوقِ، بَلْ هِيَ تَحْكِيمُ لِلْعَدْلِ وَإِمْسَاكٌ لِزِمَامِ الغَضَبِ، يَبْتَغِي بِهَا المُؤْمِنُ وَجْهَ اللهِ، قَبْلَ أَنْ يَنْتَصِرَ لِنَفْسِهِ.
ثانيا: السَّمَاحَةُ مِفْتَاحُ التَّوَاصُلِ وَسِرُّ دَوَامِ الأُلْفَةِ
عبادَ اللهِ، إنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبَّةِ مَن يُحسِنُ إليها، ونفورِها ممَّن يُسيءُ إليها، والسَّمَاحَةُ تُزيلُ أحقادَ الصدورِ، وتقرِّبُ بين النفوسِ، وتذيبُ جليدَ الجفاءِ، فتجعلُ الناسَ كالجسدِ الواحدِ.
لقد جعلَ الإسلامُ السَّمَاحَةَ في المعاملاتِ بابًا عظيمًا للأجرِ، فقال النَّبِيُّ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» (صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن اقتضى، رقم 2076، ج3، ص66، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر). والمعنى أنَّ السَّمَاحَةَ مطلوبةٌ في كلِّ حالٍ: حين البيعِ، فلا يُغالِيَ في الثمنِ أو يُخفي العيبَ، وحين الشراءِ، فلا يُماطِلُ في الثمنِ أو يحمِّلُ البائعَ فوقَ طاقته، وحين المطالبةِ بالدَّينِ، فلا يقسو ولا يرهقُ المدينَ، بل ويُيسِّرَ ويُؤجِّلَ ويعفوَ.
وقال ابنُ بطَّال – رحمه اللهُ – في “شرح صحيح البخاري”: “فِيهِ: الحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ، وَحُسْنِ المُعَامَلَةِ، وَاسْتِعْمَالِ مَعَالِي الأَخْلَاقِ وَمَكَارِمِهَا”. شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِي، لِابْنِ بَطَّال، تَحْقِيق: أَبُو تَمِيمٍ يَاسِرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، مَكْتَبَةُ الرُّشْد، ط2، 1423هـ، ج 6، ص 210.
وفي “صحيح مسلم” عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ، فَقَالَ: آللهِ؟ قَالَ: آللهِ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» (صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب فضل إنظار المعسر، رقم 1563، ج3، ص1224، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي).
أيُّها الأحبَّةُ، انظروا إلى سَمَاحَةِ الصحابةِ – رضوانُ اللهِ عليهم – تجدوا فيها عجبًا: فهذا عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ رضي اللهُ عنهما، كان له دَيْنٌ على رجلٍ، فجاءه الرجلُ يومًا يريدُ قضاءَه، فأعطاه أكثرَ ممَّا عليه، فقال ابنُ الزبيرِ: ما هذا؟ قال: هذا جزاءُ صبرِكَ عليَّ، فقال: واللهِ لو زدتَّني ما أخذتُه، إنَّما صبرتُ للهِ لا طمعًا في زيادةٍ. (أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”، كتاب البيوع، باب في السماحة في البيع والشراء، ج6، ص482، رقم 33114، تحقيق: كمال يوسف الحوت).
وفي السيرةِ النبويَّةِ مثالٌ خالدٌ: “أنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأغْلَظَ له فَهَمَّ به أصْحَابُهُ، فَقالَ: دَعُوهُ، فإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، واشْتَرُوا له بَعِيرًا فأعْطُوهُ إيَّاهُ وقالوا: لا نَجِدُ إلَّا أفْضَلَ مِن سِنِّهِ، قالَ: اشْتَرُوهُ، فأعْطُوهُ إيَّاهُ، فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً. (صحيح البخاري (2390)، ومسلم (1601).
قال الشاعرُ:
تَحَلَّ بالسَّمَاحَةِ وَالسَّخَاءِ ** فَكِلَاهُمَا خُلُقُ الكِرَامِ
فَإِذَا جَمَعْتَ لِقَاحَهُمَا ** بَلَغَتْ مَقَاصِدَكَ العِظَامِ
عبادَ اللهِ، إنَّ ديمومةَ الألفةِ بين الناسِ لا تقومُ على كثرةِ اللقاءاتِ أو المجاملاتِ، بل على السَّمَاحَةِ التي تُطَهِّرُ القلوبَ من الغِلِّ والحسدِ، وتبني الجسورَ على أساسٍ من الرحمةِ والمودَّةِ.
ثالثاً: السَّمَاحَةُ سَبِيلُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ
أيُّهَا الإِخْوَةُ الأَفَاضِلُ، لَيْسَتِ السَّمَاحَةُ زِينَةً تُضْفِي عَلَى الإِنْسَانِ بَهَاءَ الخُلُقِ فَقَطْ، بَلْ هِيَ مِنَ المَنَازِلِ العَالِيَةِ فِي طَرِيقِ السَّالِكِينَ، وَمِنَ الأَبْوَابِ الَّتِي تُفْتَحُ لِصَاحِبِهَا آفاقُ الرَّاحَةِ وَسَعَةِ الصَّدْرِ فِي الدُّنْيَا، وَتَفْتَحُ لَهُ فِي الآخِرَةِ أَبْوَابَ الرِّضْوَانِ وَالنَّجَاةِ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ.
إِنَّ السَّمَاحَةَ تُطْفِئُ نِيرَانَ الضَّغَائِنِ، وَتَمْسَحُ غُبَارَ الخِلَافِ، وَتَرْفَعُ الإِنْسَانَ عَنْ مَسَاقِطِ النِّزَاعِ وَالمُخَاصَمَاتِ، فَتَجْعَلُهُ مِرْآةً صَافِيَةً، وَقَلْبًا رَحِيمًا، وَخُلُقًا كَرِيمًا.
قَدْ ثَبَتَ فِي “صَحِيحِ مسلم” أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «واللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» [مسلم، ح 2699]، وَمِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ العَوْنِ أَنْ يَتَسَامَحَ الإِنْسَانُ مَعَ غَرِيمِهِ أَوْ مُعَامِلِهِ. وَفِي “مُسْنَدِ أَحْمَد” أَنَّهُ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ» [مسند أحمد ح 8711، والترمذي 1306إسناده صحيح]، فَيَا لَهَا مِنْ بُشْرَى يَوْمَ يَشْتَدُّ الحَرُّ وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الرُّؤُوسِ.
تَأَمَّلُوا – رَحِمَكُمُ اللهُ – فِي صَنِيعِ ذِي النُّورَيْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حِينَ جَاءَتْ سَنَةُ الرَّمَادَةِ، فَأَتَى بِقَافِلَةٍ تَحْمِلُ أَلْفَ بَعِيرٍ مُحَمَّلَةً بِالْقَمْحِ وَالزَّيْتِ، فَجَاءَ التُّجَّارُ يَرْغَبُونَ فِي شِرَائِهَا، فَقَالَ: قَدْ زَادَنِي عَلَيْكُمْ مَنْ يُعْطِينِي عَشْرَةَ أَضْعَافٍ! فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: اللهُ – جَلَّ جَلَالُهُ – وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا صَدَقَةٌ لِوَجْهِ اللهِ. فَأَحْيَا اللهُ بِهَا بُطُونًا جَائِعَةً، وَقُلُوبًا ذَابِلَةً، وَأَجْرَى ذِكْرَهُ فِي المَحَافِلِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
مَثَلٌ نَبَوِيٌّ عَجِيبٌ
وَفِي “صَحِيحِ مُسْلِم” إنَّ رَجُلًا كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، أتاهُ المَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فقِيلَ له: هلْ عَمِلْتَ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: ما أعْلَمُ، قيلَ له: انْظُرْ، قالَ: ما أعْلَمُ شيئًا، غيرَ أنِّي كُنْتُ أُبايِعُ النَّاسَ في الدُّنْيا وأُجازِيهِمْ، فَأُنْظِرُ المُوسِرَ، وأَتَجاوَزُ عَنِ المُعْسِرِ، فأدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ». [البخاري ح 3451، مسلم، ح 1560]، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ بِسَبَبِ سَمَاحَتِهِ.
أَدَبُ الشُّعَرَاءِ
قَالَ حَافِظُ الحِكَمِ وَمُؤَدِّبُ النَّاسِ:
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ ** فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا
وإذا أُصيب القومُ في أخلاقِهم * فأقِمْ عليهم مأتمًا وعويلًا
يَا عِبَادَ اللهِ، السَّمَاحَةُ تَجْعَلُكَ تَعِيشُ هَادِئَ البَالِ، نَقِيَّ القَلْبِ، مَحْمُودَ السِّيرَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي الآخِرَةِ تَلْقَى بَشَارَةَ رَبِّكَ فِي ظِلٍّ وَأَمَانٍ، فَكُنْ سَمْحًا تُسْعِدْ وَتَسْعَدْ.
العنصر الثالث: سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ: رمزٌ وهويةٌ وَقَصَصُ هدايةٍ
أيها الأحبَّة، ليست السماحةُ في الإسلام خُلُقًا فرديًّا فحسب، بل هي معلمٌ من معالم هذا الدين ورمزٌ لهويته، تتجلّى في أقواله وأفعاله وشرائعه. وقد أثنى اللهُ –جلَّ وعلا– على نبيِّه ﷺ بهذا الخُلُق فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].
وبيَّن ﷺ ميزان التفاضل عند الله فقال: «إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانه» (صحيح مسلم).
قصةٌ شاهدةٌ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ؛ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ؛ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ. فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا وَاللهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم”. مسلم (ح1764)، رواه البخاري مختصرًا (ح462).
وسماحته ﷺ مع غير المسلمين: قام لجنازة يهوديٍّ، فقيل: إنها جنازة يهودي، فقال: «أليست نفسًا؟»؛ أخرج البخاري ومسلم “إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّتْ به جِنَازَةٌ، فَقَامَ فقِيلَ: إنَّه يَهُودِيٌّ، فَقالَ: أَليسَتْ نَفْسًا” البخاري (ح 1312)، مسلم (ح 961).
وأثرُ التجارةِ السمحة: وقد قرَّر مؤرخون وباحثون أن أخلاقَ التجار المسلمين من صدقٍ ووفاءٍ وسماحةٍ كانت من أهمِّ أسباب انتشار الإسلام في أرخبيل الملايو وشرقِ آسيا، لا سيما مع حُسن المعاملة ولينِ الكلام.
وهكذا كانت السماحةُ مفتاحَ القلوب، وجسرَ العبور إلى الإسلام؛ كم من إنسانٍ أبصر الحقَّ في خُلُقِ مسلمٍ سمحٍ فاهتدى.
فالسماحة –عبادَ الله– ليست ترفًا أخلاقيًّا، بل هي طاعةٌ وعبادة، وسبيلٌ إلى محبَّة الله ومغفرته، وجسرٌ لبلوغ قلوب الناس وإقناعهم بالدين. فلنجعلها مفتاحَ قلوبنا وعلامةَ ديننا، ولنحيها في بيوتنا وأسواقِنا ومعاملاتنا، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].
أيُّهَا الأَحِبَّةُ، قَدْ سِرْنَا فِي رِحَابِ السَّمَاحَةِ، فَتَنَاوَلْنَا أَثَرَهَا فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَنَجَاةِ الآخِرَةِ، وَشَاهَدْنَا كَيْفَ جَعَلَهَا الإِسْلَامُ رَمْزًا لِهُوِيَّتِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ مِفْتَاحًا لِقُلُوبٍ كَانَتْ مُغْلَقَةً، وَسَبَبًا فِي دُخُولِ أَقْوَامٍ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.
فَتَأَمَّلُوا –رَحِمَكُمُ اللهُ– كَيْفَ أَثْمَرَتْ سَمَاحَةُ النَّبِيِّ ﷺ إِسْلَامَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَكَيْفَ انْتَشَرَ الإِسْلَامُ فِي أَرْجَاءِ الأَرْضِ بِأَخْلَاقِ تِجَارٍ صَادِقِينَ، وَلَيْسَ بِجُيُوشٍ غَازِيَةٍ.
فَلْنَجْعَلِ السَّمَاحَةَ مِفْتَاحَ قُلُوبِنَا وَعَلَامَةَ دِينِنَا، وَلْنُحْيِهَا فِي بُيُوتِنَا وَأَسْوَاقِنَا وَمُعَامَلَاتِنَا، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكْتُبَ لَنَا بِهَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَفَوْزَ الآخِرَةِ.
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].
المراجع: القرآن الكريم، كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، سنن النسائي، مسند أحمد، شعب الإيمان للبيهقي، المعجم الكبير للطبراني. المصنف لابن أبي شيبة.
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تفسير ابن كثير، التفسير الوسيط لطنطاوي، شرح البخاري لابن حجر، شرح البخاري لابن بطال، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي، حلية الأولياء، مَدَارِجُ السَّالِكِينَ لابْنُ القَيِّمِ، الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر، إعلام الموقّعين لابن القيم.
د. أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف