خطبة الجمعة القادمة للدكتور أحمد رمضان : القوّةُ في أعماقِ نفسِكَ
بتاريخ 16 جمادي الأولي 1447هـ ، الموافق 7 نوفمبر 2025م
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : القوّةُ في أعماقِ نفسِكَ ، إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 16 جمادي الأولي 1447هـ ، الموافق 7 نوفمبر 2025م.
حصريا ل صوت الدعاة لتحميل خطبة الجمعة القادمة 7 نوفمبر 2025م بصيغة word بعنوان : القوّةُ في أعماقِ نفسِكَ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.
انفراد لتحميل خطبة الجمعة القادمة 7 نوفمبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : القوّةُ في أعماقِ نفسِكَ ، للدكتور أحمد رمضان.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 7 نوفمبر 2025م بعنوان : القوّةُ في أعماقِ نفسِكَ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العُنْصُرُ الأول: القُوَّةُ فِي القَلْبِ السَّلِيمِ
العُنْصُرُ الثَّانِي: القُوَّةُ فِي النَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: القُوَّةُ فِي الْعَقْلِ السَّدِيدِ وَالْجَسَدِ السَّلِيمِ سَبِيلُ بِنَاءِ الْإِنْسَانِ
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: تَسْخِيرُ القُوَّةِ لِعِمَارَةِ الحَيَاةِ وَخِدْمَةِ المُجتَمَعِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة نوفمبر 2025م : القوّةُ في أعماقِ نفسِكَ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
القوّةُ في أعماقِ نفسِكَ
16 جمادي الأولي 1447هـ – 7 نوفمبر 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ، وأكرمَه بالعقلِ والإرادةِ والتمييزِ، وجعلَه خليفةً في الأرضِ ليعمُرَها بطاعتِه. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تُورثُ القلبَ طُمأنينةً والنفسَ سكينةً والعقلَ رشدًا والجسدَ قوّةً، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، صلّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
عناصر الخطبة:
العُنْصُرُ الأول: القُوَّةُ فِي القَلْبِ السَّلِيمِ
العُنْصُرُ الثَّانِي: القُوَّةُ فِي النَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: القُوَّةُ فِي الْعَقْلِ السَّدِيدِ وَالْجَسَدِ السَّلِيمِ سَبِيلُ بِنَاءِ الْإِنْسَانِ
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: تَسْخِيرُ القُوَّةِ لِعِمَارَةِ الحَيَاةِ وَخِدْمَةِ المُجتَمَعِ
الإِنسَانِ بَيْنَ القَلْبِ وَالنَّفْسِ وَالعَقْلِ وَالجَسَدِ: أيُّهَا الإخوةُ الأحبَّةُ… إِنَّ اللهَ جلَّ جلالُهُ حينَ خَلَقَ الإنسانَ لم يَجعلْهُ جَسدًا مُفرَدًا يَمشي على الأرضِ كما تمشي البهائمُ، ولا عَقلًا مُنفصِلًا يُدرِكُ دون أن يتحرَّك، ولا روحًا بلا وعاءٍ يحملُها، بل خَلقَهُ بناءً مُتكامِلًا تتضافرُ فيهِ قُوى متعدّدة: قلبٌ يُوجِّه، ونَفْسٌ تُجاهد، وعقلٌ يُفكِّر، وجسدٌ يُنفِّذ. هذه المكوّناتُ الأربع هي الأركانُ التي يقومُ عليها كيانُ الإنسانِ، وبِقَدرِ ما يَعتدلُ توازُنُها يَستقيمُ سلوكُه، وبقدر ما يختلُّ واحدٌ منها يختلُّ البناءُ كلُّه. قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 4-6].
العُنْصُرُ الأول: القُوَّةُ فِي القَلْبِ السَّلِيمِ
أيُّها الإخوةُ الأحبَّةُ… إِنَّ القُوَّةَ الحقيقيةَ للإنسانِ لا تبدأُ من سواعدِه ولا من عُدَّتِه ولا من مالِه، إنما تبدأُ من أعماقِ قلبِه. فالقلبُ هو المِحرَاكُ الخفيُّ الذي يُحرّكُ الأعضاءَ كلَّها، وهو المِيزانُ الذي يَوزنُ عندَ اللهِ، وهو الميدانُ الذي إمّا أن يُشرِقَ بالإيمانِ، وإمّا أن يظلمَ بالشكِّ والشهوةِ. قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89]. قال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. تفسير ابن كثير ج10، ص 355.
القَلبُ في القرآنِ والسنةِ
وحيثما وردَ ذِكرُ القلبِ في القرآنِ الكريمِ، فالمقصودُ به غالبًا مَظانُّ التعقُّلِ والفهمِ والتعلُّمِ. أمّا إذا جاء ذِكرُ الصدرِ، فالإشارةُ تكونُ إلى ذلك وإلى ما يضُمّه من سائرِ القوى؛ كالهوى والشهوةِ والغضبِ ونحوها. ولأجلِ ذلك كان القلبُ موضعَ الشعورِ والعقيدةِ والوجدانِ، وهو كذلك محلُّ العقلِ. والرأيِ، قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
فالقلبُ إذن محلُّ العقلِ والفقهِ والبصيرةِ والإرادةِ والسكونِ، وهو رئيسُ البدنِ وخلاصةُ الروحِ الإنسانيّة. ولذا قال الإمام أبو حامد الغزالي: «هو المدركُ العالمُ العارفُ من الإنسان، وهو المخاطَبُ والمُعاتَبُ والمُطالَب» إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي: ج3، ص4. ومن ثَمّ سُمِّيَت القوّةُ المدركةُ في القلبِ الصنوبري قلبًا.
ويردُ ذكرُ القلبِ في القرآنِ على ثلاثةِ معانٍ رئيسةٍ:
العقلُ: كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. أي قلبٌ زكيٌّ حيٌّ ذكيٌّ يتأثّرُ ويعتبرُ إذا سمعَ كلامَ اللهِ، أمّا من عُطِّل قلبُه عن الإدراكِ والاعتبارِ فوجودُه كعدمه، إذ لا يتجاوزُ دورهُ الجسديّ المحض. وهذا شائعٌ في لسانِ العربِ لمن لا يتعظُ ولا يفقه.
الرأيُ والتدبيرُ: كما في قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]. أي أنَّهم متفرّقونَ في إراداتِهم، متناقضونَ في توجّهاتِهم، متضادّونَ في نواياهم، وذلك سرُّ فُرقتِهم وشقاقِهم.
حقيقةُ القلبِ في الصدر: كما نصّ القرآنُ صراحةً: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. فهو العضوُ الصنوبريّ المودَعُ في الجوف، لكنَّه موضعُ البصيرةِ والشعورِ، فإذا عَميَ عن الهُدى، أُظلمَت الحياةُ كلُّها.
كما يُسمَّى الفُؤَادُ: في أصلِ اللّغةِ يَدُلُّ على الحُمّى وشِدّةِ الحَرارةِ، ومن هنا سُمِّيَ القَلبُ فُؤادًا لِحَرارتِهِ وتَوَقُّدِهِ. وقيلَ: هو غِشاءُ القَلبِ، وقيلَ: باطِنُهُ.
وإطلاقُ الفؤادِ في القرآنِ الكريمِ لا يرادُ به العضوُ المعروفُ، بل يرادُ به المعنى الروحيُّ اللطيفُ، ولذلك وردَ مفردًا وجمعًا في ستِّ عشرةَ آيةً، كلُّها تدلُّ على المعنى المعنويِّ لا العضويِّ. قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، وقال سُبحانَهُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
قال ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ: “لمّا ذكَرَ اللهُ تعالى مَنَّتَهُ على عِبادِهِ بِخَلقِهِم، ذكَرَ ما رَزَقَهُم من السَّمعِ الذي به يُدرِكون الأصواتِ، والأبصارِ التي بها يُبصِرون المرئيّاتِ، والأفئدةِ وهي العُقولُ التي مَركَزُها القَلبُ على الصَّحيحِ. تفسير ابن كثير: ج2، ص 715 .وقال ابنُ عاشورٍ: «الأفئدةُ: جمعُ فُؤادٍ، وأصلُهُ القَلبُ، ويُطلَقُ كثيرًا على العَقلِ، وهو المُرادُ هنا”. تفسير التحرير والتنوير، ابن عاشور: ج7، ص232.
صفات القلوب
أيها الإخوةُ… القرآنُ كثيرًا ما يُحدّثُنا عن القلوبِ؛ يصفها بالسَّلَامَةِ، أو بالمرضِ، أو بالقسوةِ، أو بالختمِ. قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]. وقال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]. وفي المقابل، أثنى على القلوبِ المؤمنةِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
وفي الحديثِ الصحيحِ قال ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضغَةً، إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلبُ» (البخاري 52، ومسلم 1599).
قال ابن حجر: “أي: قدر ما يُمضغ، وعبَّر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية”. فتح الباري، ابن حجر: ج1، ص128.
دلالةُ ذلك أن القوّةَ الداخليةَ تنبعُ من سلامةِ القلبِ وصلاحِه؛ فالقلبُ السليمُ هو الذي لا يعبدُ إلّا الله، ولا يُوالي إلّا في الله، ولا يُبغضُ إلّا لله، قلبٌ متوجّهٌ بصدقٍ إلى مولاه.
قال ابنُ القيّم رحمه الله: «القلبُ السليمُ هو الذي سلِم من كلِّ شهوةٍ تُخالِف أمرَ اللهِ ونهيَه، ومن كلِّ شبهةٍ تُعارِضُ خبرَه، فسلِمَ من عبوديّةِ ما سِواه، ومن تحكيمِ غيرِ رسولِه» (إغاثة اللهفان، ج2، ص90، تحقيق مشهور آل سلمان).
شواهدُ من حياةِ السَّلفِ
عبادَ اللهِ… لقد ضربَ السَّلفُ أروعَ الأمثلةِ في قوّةِ القلبِ السليمِ. فهذا الصحابيُّ الجليلُ أنس بن النضر رضي اللهُ عنه يوم أُحُد، لما رأى التخاذلَ من بعض المسلمين، قال: “اللَّهُمَّ إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي المُسْلِمِينَ وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا جَاءَ به المُشْرِكُونَ فَتَقَدَّمَ بسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ، فَقالَ: أيْنَ يا سَعْدُ، إنِّي أجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَمَضَى فَقُتِلَ، فَما عُرِفَ حتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ بشَامَةٍ أوْ ببَنَانِهِ، وبِهِ بضْعٌ وثَمَانُونَ مِن طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَةٍ بسَهْمٍ”. (صحيح البخاري 4048). أليس هذا قلبًا سليمًا قويًّا لا يعرفُ الوهنَ ولا الخوفَ إلا من الله؟
وهذا إبراهيم عليه السلام، لما أُلقيَ في النارِ، قال كلمتَه المشهورة: “حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيلُ”، “فرفعَ إبراهيمُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ رأسَهُ إلى السماءِ، فقالت السماءُ والأرضُ والجبالُ والملائكةُ: ربَّنا، إبراهيمُ يحرقُ فيكَ، فقالَ: أنا أعلمُ بهِ، وإنْ دعاكم فأغيثوهُ. وقالَ إبراهيمُ حينَ رفعَ رأسَهُ إلى السماءِ: اللهمَّ أنتَ الواحدُ في السماءِ، وأنا الواحدُ في الأرضِ ليسَ في الأرضِ أحدٌ يعبدُكَ غيري، حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيلُ. فقذفوهُ في النارِ، فناداها فقالَ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} الأنبياء 69.. وقالَ ابنُ عباسٍ: لو لم يتبعْ بردُها سلامًا لماتَ إبراهيمُ من شدّةِ بردِها، فكانتِ النارُ عليهِ بردًا وسلامًا” تفسير الطبري ج16، ص306. إنه قلبٌ سليمٌ مُعلَّقٌ بالله، لا تهزّه النيرانُ ولا يضعفه التهديد.
العُنْصُرُ الثَّانِي: القُوَّةُ فِي النَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ
أيها الإخوةُ الكرامُ… إِنَّ النفسَ هي مَيدانُ الجهادِ الأكبرِ، ومَحطُّ الاختبارِ الأعظمِ؛ فهي بين داعٍ إلى الفجورِ، ونداءٍ إلى التقوى. وإذا كان القلبُ هو مركزُ التوجيهِ، فإن النفسَ هي ساحةُ التطبيقِ، وبها يظهرُ أثرُ سلامةِ القلبِ أو فساده. قال اللهُ تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]. هنا يبيّنُ اللهُ أن النفسَ قادرةٌ على الخيرِ والشرِّ، وأن الفلاحَ مرهونٌ بتزكيتها، والخسرانَ مقرونٌ بتدنيسها.
مراتبُ النفسِ في القرآن
لقد ذكر اللهُ للنفسِ ثلاثَ مراتبٍ رئيسيةٍ:
النَّفْسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ: قال يوسفُ عليه السلام: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. وهذه النفسُ هي التي تتبعُ الهوى، وتُزيّنُ لصاحبها الشهوات، وتدعوهُ إلى معصيةِ اللهِ، حتى يصبحَ عبدًا لغرائزه، أسيرًا لذاته.
النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ: قال تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]. وهي نفسٌ تُعاتبُ صاحبَها إذا قصَّر، وتلومُه إذا أذنب، وهي علامةُ حياةِ الضميرِ ويقظةِ القلبِ.
النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ: قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27-30]. هذه هي المرتبةُ العليا؛ نفسٌ راضيةٌ بالله، مرضيةٌ عند الله، تستقرُّ بذكره، وتثبتُ على طاعته، ولا تزعزعُها الفتنُ ولا الشهواتُ.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. فالذكرُ هو غذاءُ النفسِ المطمئنةِ، وبدونه تَضطربُ، ومعهُ تسكنُ وتستريح.
انظروا – رحمكم الله – كيف جسّد الصحابةُ معنى النفسِ المطمئنةِ: بلالٌ بن رباحٍ رضي اللهُ عنه، يُعذَّب في رمضاءِ مكةَ، خُبيب بن عديٍّ رضي اللهُ عنه، لما أسره المشركون وأرادوا قتله، قال: «واللهِ ما أحبُّ أني آمنٌ في أهلي وولدي، وأن محمّدًا ﷺ يُشاكُ بشوكةٍ». إنها نفسٌ راضيةٌ بالله، ثابتةٌ على عهده.
أيها الأحبّةُ… القوّةُ ليست في الأجسادِ ولا في الأموالِ ولا في المظاهرِ، وإنما القوّةُ الحقيقيةُ في نفسٍ مطمئنةٍ بالله، راضيةٍ عنه، ثابتةٍ على طاعتِه، ترى البلاءَ عطاءً، والمحنةَ منحةً، وتستظلُّ في الدينا بظلِّ الرضا.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: القُوَّةُ فِي الْعَقْلِ السَّدِيدِ وَالْجَسَدِ السَّلِيمِ سَبِيلُ بِنَاءِ الْإِنْسَانِ
أيها الإخوةُ الأحبّةُ… إِنَّ العقلَ والجسدَ جناحانِ لا يطيرُ الإنسانُ بدونهما في سماءِ الحياة. فكما أنَّ القلبَ والنفسَ مصدرُ الطمأنينةِ والإيمانِ، فإنَّ العقلَ السديدَ والجسدَ السليمَ هما عُمدةُ العمارةِ والإنتاجِ والعملِ الصالحِ في الأرض. ومَن أرادَ أن يكونَ إنسانًا كاملَ البناء، فليجمعْ بينَ إشراقِ العقلِ وقوّةِ البدن.
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].
أوّلًا: القوّةُ في العقلِ السديد
أيها الأحبّةُ… العقلُ هو النعمةُ الكبرى التي فضّل اللهُ بها الإنسانَ على سائرِ المخلوقاتِ. به يَعرِفُ ربَّه، وبه يفهمُ خطابَه، وبه يُدركُ الخيرَ والشرَّ، والهدى والضلال. لذلك كان العقلُ مناطَ التكليفِ في الشريعةِ.
قال النبي ﷺ: «رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ: عن النائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ، وعن المجنونِ حتى يعقلَ» (سنن أبي داود، كتاب الحدود، حديث 4399، صحيح). فالعقلُ شرطٌ لصحةِ التديّنِ والعملِ، ومن حُرِمَ العقلَ حُرِمَ التكليفَ والمسؤوليةَ.
ثمراتُ العقلِ السديد
الهدايةُ إلى الحقِّ، والتمييزُ بين الهدى والضلال. حسنُ التدبيرِ في أمورِ الدنيا.
القدرةُ على تحمّل المسؤوليةِ واتّخاذ القراراتِ الحكيمة. بناءُ الحضاراتِ، وإقامةُ العلومِ والصناعاتِ.
ثانيًا: القوّةُ في الجسدِ السليم
أيها الإخوةُ… الجسدُ هو وعاءُ الروحِ، وأداةُ العملِ، وميدانُ العبادةِ. فإذا كان الجسدُ قويًّا، كان العبدُ أقدرَ على العبادةِ، وأجدرَ على عمارةِ الأرضِ وخدمةِ الناس.
قال النبي ﷺ: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ» (رواه مسلم 2664). والمقصود بالقوّة هنا: قوّةُ الإيمانِ، وقوّةُ البدنِ، وقوّةُ العزيمةِ. فهي ثلاثيةٌ متكاملةٌ، لا يستغني عنها المسلم. وفي الحديث الآخر قال ﷺ: «نِعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغُ» (صحيح البخاري 6412). فالصحةُ نعمةٌ عظيمةٌ إذا لم تُستغلَّ في الطاعةِ والعملِ، كانت حسرةً على صاحبها.
قال الشعراوي رحمه الله : “كانتِ الخيلُ – في زمنِ الرسالةِ – إحدى الأسلحةِ المهمّةِ، ليركبَها الداعونَ إلى اللهِ، المجاهدونَ في سبيلِه، وحينَ طُلِبَ منّا أن نُعلِّمَ الأبناءَ السباحةَ، فذلكَ بناءٌ للجسمِ والقوّةِ، يُفيدُ الشابَّ ويُعلِّمُهُ مواجهةَ الصِّعابِ. وحينَ طُلِبَ منّا أن نُعلِّمَ الأبناءَ الرمايةَ، فذلكَ لأنَّ تحديدَ الهدفِ مادّيًا أو معنويًّا، ومعرفةَ الوصولِ إليه أمرٌ مطلوبٌ من كلِّ شابٍّ”. تفسير الشعراوي ج6، ص3589.
أيها الأحبّةُ… إن بناءَ الإنسانِ السويِّ لا يكتملُ إلا بجمعِ قوى القلبِ والنفسِ والعقلِ والجسد. فإذا استنارَ العقلُ بنورِ الوحيِ، واشتدّ الجسدُ بالصحةِ والعملِ، صار المسلمُ قويًّا في دينه ودنياه، نافعًا لنفسه وأمّته، شاهدًا على غيره من الأمم.
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: تَسْخِيرُ القُوَّةِ لِعِمَارَةِ الحَيَاةِ وَخِدْمَةِ المُجتَمَعِ
أيُّها الأحبّةُ في الله… إِنَّ القوّةَ التي أودعَها اللهُ في القلوبِ والنفوسِ والعقولِ والأجسادِ ليست ملكًا لصاحبها وحدَه، بل هي أمانةٌ عظيمةٌ ومَسؤوليةٌ جسيمةٌ. فالإنسانُ لا يعيشُ بمعزلٍ عن غيره، وإنّما هو جزءٌ من مجتمعٍ وأمّةٍ، يُسهم في بنائها، ويُشارك في عمارتها. ولذلك فإن الغايةَ من هذه القوى ليست التفاخرَ ولا الاستعلاءَ، بل تسخيرُها في عمارة الأرضِ ونفعِ الناسِ وخدمةِ المجتمعِ.
أيها الإخوةُ… ليست القوّةُ عند اللهِ في البطشِ والجبروتِ، بل في نصرةِ الحقِّ وخدمةِ الخلقِ. قال ﷺ: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ» (رواه مسلم 2664). وهذا الحديثُ يشمل قوّةَ الإيمانِ، وقوّةَ البدنِ، وقوّةَ الإرادةِ، وقوّةَ التأثيرِ في الناسِ. فالقوّةُ التي يريدها اللهُ هي قوّةُ ضبطِ النفسِ، وإتقانِ العملِ، وحسنِ التعاملِ، لا مجرّدُ قوّةِ الجسدِ بلا ضابطٍ.
تسخيرُ القوّةِ في خدمةِ المجتمع
أيها الأحبّةُ… إذا نظرنا في سيرةِ النبي ﷺ وصحابته، وجدناهم قد سخّروا كلَّ قواهم في بناءِ مجتمعٍ متماسكٍ، يخدمُ بعضُه بعضًا:
فقوّةُ العالِم في تعليمِ الناسِ وهدايتهم. وقوّةُ المعلّم في تنشئةِ الجيلِ على القيمِ والفضائل.
وقوّةُ التاجر الأمين في نشر الرزقِ الحلالِ وبناء الاقتصاد. وقوّةُ المزارع في عمارةِ الأرضِ وإحياءِ المزارعِ.
وقوّةُ المجاهد في حمايةِ الدينِ والأوطانِ.
أيها الأحبّةُ… إن القوّةَ أمانةٌ، فإذا سخّرها الإنسانُ في عمارةِ الحياةِ وخدمةِ المجتمعِ، كان قويًّا عند اللهِ، نافعًا بين الناسِ، مُحسنًا في الدنيا، رابحًا في الآخرة. أما إذا استعملها في الظلمِ والفسادِ، كانت نقمةً عليه، وسببًا لهلاكه.
قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19]. فمن سخّر قوّته للهِ عرف نفسَه، وبنى مجتمعه، وفاز برضا مولاه.
أيُّها الإخوةُ الأحبّةُ… بعدَ أن طُفنا في رحابِ عناصرِ القوّةِ الكامنةِ في أعماقِ الإنسانِ، تبيَّن لنا أن بناءَ الإنسانِ السويِّ لا يقومُ على جانبٍ واحدٍ، بل هو تكاملٌ بين القلبِ السليمِ، والنفسِ المطمئنةِ، والعقلِ السديدِ، والجسدِ السليمِ، وأن الغايةَ من كلِّ هذه القوى أن تُسخَّرَ في عمارةِ الأرضِ، وخدمةِ المجتمعِ، ونيلِ مرضاةِ اللهِ عزَّ وجل.
اللَّهُمَّ قوِّنا ولا تُضعفنا، أعزَّنا ولا تُذلّنا، آثرنا ولا تُؤثر علينا، وارضَ عنّا يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهُمَّ احفظْ أوطانَنا وسائرَ بلادِ المسلمين من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطن.
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، وابن ماجه، سنن الترمذي، مسند أحمد.
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري، تفسير ابن كثير، تَفْسِيرُ التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير الشعراوي، فتح الباري لابن حجر، إحياء علوم الدين للغزالي.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة









