محمد جودة
منذ أخرج أدم من الجنة وقد كان فيها سعيدا منعما..وقد بين القرآن بعض مظاهر هذه السعادة فقال:( إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) فلا عنت فيها ولا مشقه فرزقه مكفول ….. وأمنه مضمون ولا خوف عليه من غائله غائل او كدا في سعي على معاش وكان هذا وعد ضمنيا من الله له ببقاء تلك السعادة التى لا شقاء فيها..
ولكنه خالف أمر ربه (وذاك بقدر الله عزوجل فعصى آدم ربه فاهبط الى الارض ليعيش فى شقاء ولكن على وعد من الله أن يعود إليها إذا التزم أمر الله وكذلك ذريته من بعده ما التزموا أيضا أوامر ربهم …قال تعالى. …(ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى. قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو فاما يأتينكم منى هدى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.ومن أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا …) طه:19/20
ولكن في خضم تلك الحياة الارضية الذي اهبط اليها آدم وذريته وما اوتوه من اختيار وتكليف في مقابله ضل كثير من بنى ادم طريقهم فى البحث عن السعادة…
السعادة وخيال الفلاسفه:
ظل كل فريق يبحث عن طريق السعادة……وتخيلوا انهم قادرون على صنع جنة الله على الارض وأنى لهم…….
فرسم الفلاسفة من بنات افكارهم مدينة فاضلة وأخلوها من كل نكد ولا كدر …ولكن هل يمكن ان يتحقق هذا الخيال في دنيا الناس وان كان الامر فكيف تعرف الفضيلة إذن؟؟
.ومنهم من بحث عنها فى الجاه والمال والطبيعة…
.فهذا صاحب الديانة البوذيه الذى نشأ ملكا مترفا عنده من اسباب الجاه والملك ما يجعل الناس يظنونه اسعد البشر…. ولكنه تاه هو ايضا في خضم تقلبات ذاته ومات وما روى صدره من السعادة المنشودة….. لان البحث بعيدا عن ارشاد الله للعبد قد ينشئ في النفس نوعا من الرهبانية التي يشعر معها الانسان بنوع من الراحه لانه بانخلاعه عن الدنيا يكون قد انقذ نفسه من نصف هموم الناس ان لم يكن اغلبها وهل يكدر علينا حياتنا الا اننا انغمسنا في الدنيا الى آذاننا…
وافتقدها فرعون
فذهب يتحثثها بالرغم من انه أوتى الملك والجاه والسلطان والقوة(فانطلق يبحث عنها حيث قال ( يا هامان ابنى لى صرحا لعلى ابلغ الاسباب اسباب السماوات فأطلع الى اله موسى ) ضاق صدره وانطلق بجبروته ليبحث عن المفقود من الرضا والتسليم ولكنه لن ولم يصل لانه لم يؤمن ولم يقدر الله له الهدايه.
ومن بعده قارون ظن أن المال يحقق له السعادة فانطلق مستكبرا قائلا.( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)…..
وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فإنه قال في قوله : ( قال إنما أوتيته على علم عندي ) قال : لولا رضا الله عني ، ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال
فهل كن سعيدا بماله…..،
وقرأ ( أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون )
[ وهكذا يقول من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه يقول : لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي ] .
فهل كان سعيدا بماله….ايها الباحث عن طريق السعادة……
هل السعادة منصبا يرفعك على الناس ليكونوا لك خدما وخولا… أم هى مال وفير وقناطير مقنطرة من الذهب والفضه ….ام هى صحة الجسم فلا يمرض …
السعادة الحقيقية:
لكن المؤمن لما علم أن الامر كله بيد الله اطمئنت نفسه وسلم للاقدار فلم تحزن نفسه على ما فاته من امر الدنيا …فشعر بالرضا والطمئنينه وهما مفتاح السعادة….اللتى……وجدها الحسن البصرى وهو نائم على رصيف من أرصفة العراق لا يجد كسرة خبز يأكلها وهو يقول لو يعلم الملوك ما نحن فيه من السعادة لقاتلونا عليها بالسيوف…) ووجدها يونس حين سلم لامر ربه وهو فى ظلمات ثلاث ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت فسلم امره الى بارئه وعلم ان الخلاص بيديه (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)…..
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، ، عن عبد الله بن رافع – مولى أم سلمة – سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حسا ، فقال في نفسه : ما هذا؟ فأوحى الله إليه ، وهو في بطن الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر . قال : فسبح وهو في بطن الحوت ، فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا نسمع صوتا ضعيفا [ بأرض غريبة ] قال : ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ . قال : نعم ” . قال : ” فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال الله عز وجل : ( وهو سقيم ) [ الصافات : 145 ] ..والجواب عندابن عبد البر…فى رائعته الشعريه ..
حيث يقول..
… من ذا الذي قد نال راحة فكره في عمره من عسره أو يسره ؟
يلقى الغني لحفظه ماقد حوى أضعاف مايلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قله ويظل هذا ثاعباً في كثره
والجن مثل الإنس يجري فيهمُ حكم القضاء بحلوه وبمره
فإذا المريد أتى ليخطف خطفة جاء الشهاب بحرقه وبزجره
ونبي صدق لا يزال مكذَّبًا يرمى بباطل قولهم وبسحره
والعالم المفتي يظل منازعاً بالمشكلات لدى مجالس ذكره
فالويل إن زل اللسان فلا يُرى أحد يُساعد في إقامة عذره
أوَمَا ترى الملك العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
فيسره خبر وفي أعقابه خبر تضيق به جوانب قصره
ومؤازر السلطان أهل مخاوف وإن استبد بعزه وبقهره
فلربما زلت به قدم فلم يرجع يساوي في قلامة ظفره
وأخو العبادة دهره متنغصٌ يبغي التخلص من مخاوف قبره
وأخو التجارة حائر متفكرٌ مما يلاقي من خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الـ رجل العقيم كمينةٌ في صدره
وكل قرين مضمر لقرينه حسداً وحقداً في غناه وفقره
ولرب طالب راحة في نومه جاءته أحلامٌ فهام بأمره\
والطفل من بطن أمه يخرجُ غُصص الفطام تروعه في صغره
والوحش يأتيه الردى في بره والحوت يلقى حتفه في بحره
ولربما تأتي السباع لميتٍ فاستخرجته من قرارة قبره
ولقد حسدتُ الطير في أوكارها فوجدتُ منها ما يُصاد بوكره
كيف التلذذ في الحياة بعيشة ما زال وهو مروع في أسره ؟
تالله لو عاش الفتى في أهله ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً معهم بكل لذيذة متنعماً بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله مما يفي بنزول أول ليلة في قبره
كيف التخلص يا أخي مما ترى؟ صبراً على حلو القضاء ومره !
اذا لم تكن السعاده فى ملك ولا مال ولا خدم ولا حشم فأين تكون …..
تتلخص السعادة فى ايات من سورة الشعراء تحمل كل معانى الرضا والتسليم حيث يقول الله عز وجل …
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)والذي يميتني ثم يحيين81)
سبب تكرار (هو) في الهداية والطعام والشفاء هو ان هذه الاشياء قديدعيها بعض الناس انه هو سببها او ينسبها لغير الله …
(فهنا اكدها الله تعالى ب(هو) رفعا للالتباس)
واما الخلق والاحياء والاماتة فلا تحتاج لتاكيد اختصاصها بالله تعالى فلم يؤكدها..اذا سلمت بذالك وامنت عشت سعيدا
وفي الحديث القدسي: ”
عبدي.. خلقتك لعبادتي فلا تلعب. وقسمت
لك رزقك فلا تتعب إن قل فلا تحزن. وإن كثر فلا تفرح. إن أنت رضيت
بما قسمته لك، أرحت بدنك وعقلك، وكنت عندي محموداً. وإن لم ترض بما قسمته لك،
أتعبت بدنك وعقلك وكنت عندي مذموماً. وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش في الفلاة،
فلا يصيبك منها إلا ما كتبته لك..
وقال الله تعالى(” مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ” ..الحج 15
والمعنى(ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها الذي يظن بجهله، أن سعيه سيفيده شيئا، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب،
وسعيت في التحصيل وحزنت على ما فاتك ولم توكل الامر الى الله وقضائه، فإن ذلك لا يذهب غيظك، ولا يشفي كمدك،
فليس لك قدرة في ذلك، ولكن سنشير عليك برأي، تتمكن به من شفاء غيظك، وإن كان ممكنا- ائت الأمر مع بابه،
وارتق إليه بأسبابه، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علقه في السماء،
ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر، فسدها وأغلقها واقطعها، فبهذه الحال تشفي غيظك،
فهذا هو الرأي: والمكيدة، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق. …
وهذه الآية الكريمة، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لعباده المؤمنين بالراحة فى الدنيا بالرضا والتسليم .
قال الله تعالى:
“فمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ”
﴿125﴾ سورة الأنعام
فالسعادة فى الرضا والتسليم….