سلسلة الدروس الرمضانية، الدرس التاسع عشر: الاجتهاد في العشر الأواخر، للدكتور خالد بدير.
لتحميل الدرس بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الدرس بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الدرس كما يلي:
سلسلة الدروس الرمضانية
الدرس التاسع عشر: الاجتهاد في العشر الأواخر
للعشر الأواخر من رمضان فضلٌ عظيمٌ عند الله تعالى؛ وقد ذكرها الله في قوله:{وَالْفَجْرِ؛ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (الفجر: 1 ؛ 2)؛ وقد ذهب بعض المفسرين أنها العشر الأواخر من رمضان؛ لذلك كان يجتهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالطاعة والعبادة والقيام؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ؛ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ؛ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ”( متفق عليه ) قال الإمام ابن حجر:” أي سهره فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه لأن النوم أخو الموت وأضافه إلى الليل اتساعا لأن القائم إذا حيي باليقظة أحيا ليله بحياته ، وهو نحو قوله ” لا تجعلوا بيوتكم قبورا ” أي لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور .” (فتح الباري).
وشد المئزر كناية عن بلوغ الغاية في اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر؛ يقال: شددت لهذا الأمر مئزري؛ أي: تشمرت له وتفرغت؛ وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات.
وعَن عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِا”( مسلم) يقول الإمام النووي:” يستحب أن يزاد من الطاعات في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب إحياء لياليه بالعبادات .”
ومن أعظم العبادات في هذه العشر عبادة الاعتكاف؛ فهي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسنة أبينا إبراهيم عليه السلام قبله؛ قال تعالى: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125)
وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على سنة الاعتكاف في رمضان كل عام.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ:” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ” (متفق عليه)؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:” كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ؛ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا”(البخاري).
وقد استن بهذه السنة أزواجه والصالحون من بعده صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ؛ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ” (متفق عليه)؛ وفي العام الذي لم يعكتف فيه النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة الاختلاط قضاه في شوال؛ وهذا يدل على أهمية الاعتكاف وفضله؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ؛ إِذَا أَخْبِيَةٌ: خِبَاءُ عَائِشَةَ؛ وَخِبَاءُ حَفْصَةَ؛ وَخِبَاءُ زَيْنَبَ؛ فَقَالَ: آلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ؟! ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ؛ حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ”(متفق عليه) ؛ يقول الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي تعليقاً على سبب تركه صلى الله عليه وسلم الاعتكاف ثم اعتكافه في شوال: ” لأنه صلى الله عليه وسلم رآهن عنده في المسجد وهو في المسجد؛ فصار كأنه في منزله بحضوره مع أزواجه؛ وذهب المهم من مقصود الاعتكاف وهو التخلي عن الأزواج ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك”.
لذلك عندما تؤدي سنة الاعتكاف أخي الصائم فإنك تحي سنة نبوية كريمة مهجورة منذ أزمنة طويلة ؛ فعن الإمام الزهري رضي الله عنه قال:” عجبا للمسلمين! تركوا الاعتكاف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل” .
إن الاعتكاف فيه تسليم المعتكف نفسه بالكلية إلى عبادة الله تعالى طلب الزلفى، وإبعاد النفس من شغل الدنيا التي هي مانعة عما يطلبه العبد من القربى، وفيه استغراق المعتكف أوقاته في الصلاة إما حقيقة أو حكما، لأن المقصد الأصلي من شرعية الاعتكاف انتظار الصلاة في الجماعات، وتشبيه المعتكف نفسه بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون.
والاعتكاف المستحب ليس له وقت محدد، ولك أن تجمع بين عملك واعتكافك؛ فيكون اعتكافك ليلا وعملك نهارا؛ فهو يتحقق بالمكث في المسجد مع نية الاعتكاف طال الوقت أم قصر حتى ولو لحظة؛ ويثاب ما بقي في المسجد، فإذا خرج منه ثم عاد إليه جدد النية إن قصد الاعتكاف، فعن يعلى بن أمية قال: إني لأمكث في المسجد ساعة ما أمكث إلا لأعتكف.(فقه السنة للشيخ سيد سابق).
ويكفي المعتكف أنه ترك الدنيا وشهواتها وأقبل على الله بقلبه وجوارحه؛ واقفا على بابه متعلقا بأعتابه؛ يدعوه ويبتهل إليه راجيا رحمته ورضوانه. قال عطاء – رحمه الله-:” مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم؛ فجلس على بابه ويقول لا أبرح حتى تقضي حاجتي؛ وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يُغفر لي”.
فعليكم بالجد والاجتهاد في هذه العشر بالقيام وقراءة القرآن؛ والذكر والدعاء والصدقات وسائر القربات؛ فهذه فرصة لن تعوض ولن تعود؛ وقبل أن نندم ولا ينفع الندم!! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ؛ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون: 99 ؛ 100)؛ وقد وقف الحسن البصري على جنازة رجلٍ فقال لصاحب له يعظه: تُرى هذا الميت لو رجع إلى الدنيا ماذا يصنع؟! قال: يكثر من الطاعات؛ قال له الحسن: قد فاتته فلا تفتك أنت!!
فأقول لكم أيها الصائمون: قد فاتت من كان قبلكم؛ والفرصة ماثلة أمامكم فماذا أنتم فاعلون؟!!
ولذلك شكى وبكى الصالحون والطالحون ضيقَ العمر، وبكى الأخيارُ والفجارُ انصرامَ الأوقات، فأما الأخيارُ فبكوا وندموا على أنهم ما تزودوا أكثر، وأما الفجارُ فتأسفوا على ما فعلوا في الأيامِ الخالية.
فعن أَبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ. قَالُوا وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَزَعَ” ( الترمذي).
فتزودوا فإن خير الزاد التقوى؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
هدي الرسول والسلف الصالح في هذه العشر
لقد كان الرسول – صلى اله عليه وسلم – وسلفنا الصالح – رضي الله عنهم أجمعين- يشمرون عن سواعدهم عند دخول العشر الأواخر من الشهر الفضيل ؛ فقد سارت قوافل الصالحين المقربين على طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- تقف عند العشر وقفة جد وصرامة تمتص من رحيقها وتنهل من معينها، وترتوي من فيض عطاءاتها، وتعمل فيها ما لا تعمل في غيرها.
قال أبو عثمان النهدي: «كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأول من محرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان». ومن شدة تعظيمهم لهذه الأيام كانوا يتطيبون لها ويتزينون، قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان النخعي يغتسل كل ليلة!
ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فقد روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر.
وكان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبان المسجد بالنضوح في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
قال ثابت: وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر؛ هكذا كانوا تعظيما لهذه العشر، وهكذا كانوا اجتهادا في العبادة وانقطاعا لها في هذه الليالي المباركات. فأين نحن من قوم كانوا أنضاء عبادة وأصحاب سهر؟!!
غدا توفى النفوس ما كسبت……….. ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ……… وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
وقال أحمد بن حرب: “يا عجبًا لِمن يعرف أنَّ الجنَّة تُزَيَّن فوقه، وأنَّ النَّار تسعَّر تحته، كيف ينام بيْنهما؟!”.
أذكر قصة من حياة أسلافنا في حلس البيوت التي اليوم تشكو وتعاني من كثير مما يلهي ويصرف عن طاعة الله، امرأة حبيب العجمي -وهو أحد السلف- تقول له في الليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سرت ومضت، ونحن بقينا.
فانظر: هذه امرأة لم تنشغل بطعام ولا بشراب، ولا بوصفات إعداد الأطعمة، ولا بالموضات وما ينزل خصيصاً في العشر الأواخر من الملابس والموديلات والموضات، لقد شغلتهم المشاغل الإيمانية، وألهتهم عن هذه الأمور الدنيوية.
يا نائم الليل كم ترقدُ ……………. قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ من الليل وأوقاته …………… وِرْداً إذا ما هجع الرُّقَّدُ
من نام حتى ينقضي ليله ………….. لم يبلغ المنزل أو يزهدُ
قل لذوي الألباب أهل التقى …………. قَنطَرَةُ الَعْرض لكم موعِدُ
يقول الشيخ عبدالله الطيار:” لاحِظوا الفرْق بين واقِعنا وواقع سلَفِنا الصالح، كانوا يقضون نهارَهم بالصيام وتلاوة القُرآن وليلهم بالرُّكوع والسُّجود والتسبيح والتهليل، ويقضي الكثيرون منَّا نهارَهم بالنَّوم وليلهم باللهو واللعب الحَرام، وشُرب الدخان ولعب الورق، وغيرها ممَّا يعود على المسلم بضَرَرٍ في عاجِله وآجِله.” (فيض الرحيم الرحمن في أحكام رمضان).
وهكذا الفرق بين حالنا وحال سلفنا الصالح؛ وكفى بالواقع المعاصر على ذلك دليلاً !!!
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي