خطبة الجمعة الثانية : وَافَى رَبِيعٌ فَمَرْحَبًا بِهِلَالِهِ ، للدكتور أحمد رمضان
بتاريخ 6 ربيع الأول 1447هـ، الموافق 29 أغسطس 2025م. بينما الخطبة الأولي عن : سماحة الإسلام

خطبة الجمعة الثانية : وَافَى رَبِيعٌ فَمَرْحَبًا بِهِلَالِهِ ، إعداد: رئيس التحرير للدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 6 ربيع الأول 1447هـ، الموافق 29 أغسطس 2025م. بينما الخطبة الأولي عن : سماحة الإسلام.
-عناصر خطبة الجمعة الثانية 29 أغسطس 2025م بعنوان : وَافَى رَبِيعٌ فَمَرْحَبًا بِهِلَالِهِ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مِيلَادٌ بَدَّدَ دُجَى الْجَاهِلِيَّةِ
العُنْصُرُ الثاني: فَرَحُ الكَوْنِ بِمِيلَادِ خَيْرِ الأَنَامِ ﷺ
العُنْصُرُ الثالث: مَشْرُوعِيَّةُ الفَرَحِ بِالمَوْلِدِ وَأَقْوَالُ الأَئِمَّةِ
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: كَيْفَ نُحْيِي المَوْلِدَ النَّبَوِيَّ عَمَلِيًّا؟
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 أغسطس 2025م بصيغة word بعنوان : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ ، للدكتور أحمد رمضان.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 أغسطس 2025م بصيغة pdf بعنوان : سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ ، للدكتور أحمد رمضان.
ولقراءة خطبة الجمعة الثانية 29 أغسطس 2025م بعنوان : وَافَى رَبِيعٌ فَمَرْحَبًا بِهِلَالِهِ إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
وَافَى رَبِيعٌ فَمَرْحَبًا بِهِلَالِهِ
6 ربيع الأول 1447هـ – 29 أغسطس 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ نُورَهُ، وَأَتَمَّ دِينَهُ، وَجَعَلَ فِي مَوْلِدِ نَبِيِّهِ البَشِيرِ النَّذِيرِ بَدَايَةَ عَهْدٍ جَدِيدٍ لِلْبَشَرِيَّةِ. أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَوَاتُ رَبِّنَا وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
يَا عِبَادَ اللَّهِ، وَافَى رَبِيعٌ فَمَرْحَبًا بِهِلالِهِ، فَهُوَ مَوْسِمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، لِأَنَّهُ الذِّكْرَى الَّتِي غَيَّرَتْ وَجْهَ التَّارِيخِ، وَنَقَلَتِ الْبَشَرِيَّةَ مِنْ جَوِّ الظُّلْمَاتِ إِلَى أُفُقِ النُّورِ وَالهُدَى. وَمَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ إِلَى أَنْ نَفْهَمَ مَعْنَى الاِحْتِفَالِ الحَقِيقِيِّ بِمِيلَادِ النَّبِيِّ ﷺ، لِنُجَدِّدَ العَهْدَ مَعَهُ، وَنُظْهِرَ المَحَبَّةَ لَهُ، وَنَسِيرَ عَلَى خُطَاهُ.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مِيلَادٌ بَدَّدَ دُجَى الْجَاهِلِيَّةِ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ مِيلَادُهُ ﷺ حَدَثًا عَادِيًّا فِي زَمَنٍ عَادِيٍّ، بَلْ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَ لَيْلٍ طَوِيلٍ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، وَفَجْرٍ مُنِيرٍ بِالتَّوْحِيدِ وَالعَدْلِ. فَقَدْ وُلِدَ ﷺ فِي زَمَنٍ تَسُودُهُ الْعَقَائِدُ الْبَاطِلَةُ، وَالظُّلْمُ الْفَاحِشُ، وَوَأْدُ الْبَنَاتِ، وَأَكْلُ الْأَمْوَالِ بِالبَاطِلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجُمُعَة: 2].
قَالَ الإِمَامُ الفَخْرُ الرَّازِيُّ: «وَكَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَهُوَ الشِّرْكُ، فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا كَانُوا فِيهِ» [مفاتيح الغيب، ج30، ص 538].
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه – وَهُوَ صَبِيٌّ يَوْمَئِذٍ – أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ ابْنُ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَعْقِلُ مَا سَمِعْتُ إِذْ سَمِعْتُ يَهُودِيًّا، وَهُوَ عَلَى أَطَمَةِ يَثْرِبَ يَصْرُخُ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟ فَقَالَ: قَدْ طَلَعَ نَجْمُ الَّذِي يُبْعَثُ اللَّيْلَةَ» [المستدرك علي الصحيحين، ح 6056، ج3، ص 554].
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ ﷺ كَانَ مَوْعِدًا مَعْلُومًا فِي الكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَمُبَشَّرًا بِهِ فِي الأُمَمِ قَبْلَ بَعْثَتِهِ. وَهَكَذَا جَاءَ بِشَارَةً وَرَحْمَةً، فَانْقَلَبَتِ الظُّلُمَاتُ إِلَى نُورٍ، وَالخَوْفُ إِلَى أَمْنٍ، وَالضَّلَالُ إِلَى هِدَايَةٍ.
رَبِيعُ الْبَشَرِيَّةِ وَمِفْتَاحُ نَهْضَتِهَا
يَا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ مِيلَادَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ رَبِيعًا لِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، فَبَعْدَ أَنْ كَانَتِ الأَرْضُ قَاحِلَةً مِنَ العَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَمُثْقَلَةً بِالظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ لِيَغْرِسَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بُذُورَ الإِيمَانِ، وَيَسْقِيَهَا بِمَاءِ الْهُدَى، فَأَخْضَرَّتِ الْقُلُوبُ بَعْدَ يَبْسٍ، وَأَزْهَرَتِ الحَيَاةُ بَعْدَ جُدُوبٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التَّوْبَة: 33].
وَقَالَ القرطبي فِي تَفْسِيرِهَا: «(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) يُرِيدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. (بِالْهُدى) أَيْ بِالْفُرْقَانِ. (وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أَيْ بِالْحُجَّةِ وَالْبَرَاهِينِ. وَقَدْ أَظْهَرَهُ عَلَى شَرَائِعِ الدين حتى لا يخفى عليه شي مِنْهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: “لِيُظْهِرَهُ” أَيْ لِيُظْهِرَ الدِّينَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ دِينٍ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالضَّحَّاكُ: هَذَا عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عليه السلام.» [تفسير القرطبي، ج8، ص 121].
وَهَكَذَا كَانَ مِيلَادُهُ ﷺ مُنْطَلَقًا لِرِسَالَةٍ تُعِيدُ إِلَى الإِنسَانِ كَرَامَتَهُ، وَتَضَعُ عَنْهُ أَصْفَادَ العُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَفِي سِيَرِ الأَوَّلِينَ نَجِدُ أَنَّ الْعَالَمَ أَحَسَّ بِتَغَيُّرٍ عَجِيبٍ عِنْدَ مِيلَادِهِ ﷺ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ ﷺ «ارْتَجَّ إِيوانُ كِسْرَى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشَرَ شُرْفَةً، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ الْمَجُوسِ الَّتِي لَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ سَنَةٍ» [السيرة النبوية لابن هشام، ط. دار المعارف، ج1، ص 158].
إِنَّهُ إِشْرَاقُ الْحَقِّ فِي وَجْهِ البَاطِلِ، وَصَوْتُ التَّوْحِيدِ يَعْلُو فَوْقَ أَصْوَاتِ الشِّرْكِ وَالأَوْثَانِ.
وَفِي هَذَا يَقُولُ الشَّاعِرُ البُوصِيرِيُّ فِي بُرْدَتِهِ:
أَبْلَجُ الصُّبْحِ يَسْطَعُ بَعْدَ دَجًى *** وَوُجُودُ الْهَادِي أَزَالَ الْعَمَى
العُنْصُرُ الثاني: فَرَحُ الكَوْنِ بِمِيلَادِ خَيْرِ الأَنَامِ ﷺ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ مِيلَادُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ مَحْضَ وِلَادَةٍ لِبَشَرٍ فَقَطْ، بَلْ كَانَ وِلَادَةَ أَمَلٍ، وَبُزُوغَ رَحْمَةٍ، وَإِشْرَاقَ نُورٍ بَلَغَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.
عَنْ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ أَوَّلُ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» [المستدرك للحاكم، رقم (4228)، ج2 ص608، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي].
فَكَانَ مِيلَادُهُ ﷺ مُتَوَّجًا بِبُشْرَى الأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَآيَاتٍ بَاهِرَةٍ شَهِدَتْ أَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَإِمَامُ الأَنْبِيَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ ﷺ اضطربَ إيوانُ كِسْرَى وَسَقَطَتْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ المَجُوسِ [السيرة النبوية لابن كثير، ط. دار المعرفة، ج1، ص 219]. وَهِيَ رُمُوزٌ تُشِيرُ إِلَى سُقُوطِ عُرُوشِ الطُّغَاةِ وَانْدِحَارِ عِبَادَةِ النَّارِ أَمَامَ نُورِ التَّوْحِيدِ.
وَإِذَا نَظَرْنَا فِي القُرْآنِ نَجِدُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ جُزَيٍّ: «هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه تشريف عظيم، .. والمعنى على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة، ويحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره: أرسلناك راحمين للعالمين، أو يكون مفعولا من أجله، والمعنى على كل وجه: أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة» [التسهيل لعلوم التنزيل، ج2، ص 31].
فَكَيْفَ لَا يَفْرَحُ الْكَوْنُ بِمَنْ جَاءَ رَحْمَةً وَسَعَةً؟ وَكَيْفَ لَا تُزْهِرُ الحَيَاةُ وَقَدْ جَاءَهَا سَيِّدُ الخَلْقِ ﷺ؟
وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ البُرْدَةِ:
وَبُشِّرْتَ بِالمُصْطَفَى أَنْبِيَاؤُهُ *** وَأَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ وَالْمَجْدُ أَلْقَى
فَافْرَحُوا يَا مَعْشَرَ الإِيمَانِ بِذِكْرَاهُ، فَإِنَّهُ الْفَرَحُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58]. قَالَ البَغَوِيُّ: «فَضْلُ اللَّهِ: الإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: مُحَمَّدٌ ﷺ» [تفسير البغوي، ج2، ص406].
العُنْصُرُ الثالث: مَشْرُوعِيَّةُ الفَرَحِ بِالمَوْلِدِ وَأَقْوَالُ الأَئِمَّةِ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ الفَرَحَ بِمَوْلِدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ مُجَرَّدَ عَاطِفَةٍ عَابِرَةٍ، وَلَا مَظْهَرًا اجْتِمَاعِيًّا خَالِيًا، بَلْ هُوَ تَعْبِيرٌ إِيمَانِيٌّ عَمِيقٌ، يَدُلُّ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ عَلَى أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى البَشَرِيَّةِ، وَهِيَ إِرْسَالُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58].
قَالَ الإِمَامُ البَيْضَاوِيُّ: «فَضْلُ اللَّهِ: الإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: مُحَمَّدٌ ﷺ، فَلْيَكُنْ فَرَحُهُمْ بِذَلِكَ لَا بِغَيْرِهِ» [أنوار التنزيل، ج3، ص 122].
وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الفَرَحَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ عِبَادَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَمَظْهَرُ شُكْرٍ لِمَنْ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
وَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ الإِسْلَامِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ، فَقَالَ الإِمَامُ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ (ت 902هـ): “مَا زَالَ أَهْلُ الإِسْلَامِ فِي سَائِرِ الأَقْطَارِ وَالمُدُنِ العِظَامِ يَحْتَفِلُونَ فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ ﷺ، وَيُظْهِرُونَ السُّرُورَ، وَيَزِيدُونَ فِي المَبَرَّاتِ، وَيَتَصَدَّقُونَ فِي لَيَالِيهِ بِأَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ، وَيَعْتَنُونَ بِقِرَاءَةِ مَوْلِدِهِ الكَرِيمِ، وَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَاتِهِ كُلُّ فَضْلٍ عَمِيمٍ» [الأجوبة المرضية، ص 136].
وَقَالَ الإِمَامُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ (ت 911هـ): “أَصْلُ عَمَلِ المَوْلِدِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ، وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ، وَرِوَايَةُ الأَخْبَارِ الوَارِدَةِ فِي مَوْلِدِهِ ﷺ، ثُمَّ يُمَدُّ لَهُمُ السِّمَاطُ، فَيَأْكُلُونَ، وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ.. يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا» [حسن المقصد، ص 22].
فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَئِمَّةٍ كِبَارٍ فِي الحَدِيثِ وَالفِقْهِ وَالتَّارِيخِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الفَرَحَ بِمَوْلِدِهِ ﷺ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ القُرْبَةِ، شَرْطَ أَنْ يَكُونَ مُنْضَبِطًا بِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ.
وَهُنَا نَسْأَلُ أَنْفُسَنَا: أَفَلا يَكُونُ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْرَحَ بِذِكْرَاهُ؟ وَأَفَلا يَكُونُ الفَرَحُ بِمَوْلِدِهِ ﷺ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِنَ المَسَائِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي يَفْرَحُ بِهَا النَّاسُ؟
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَ فِينَا خَيْرَ الأَنَامِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِنُورِ الإِسْلَامِ، وَفَرَضَ عَلَيْنَا مَحَبَّةَ سَيِّدِ الكَوْنَيْنِ، وَجَعَلَ ذِكْرَاهُ مَوْسِمًا لِلْفَرَحِ وَالطَّاعَةِ وَالإِحْسَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وبعد..
العُنْصُرُ الرَّابِعُ: كَيْفَ نُحْيِي المَوْلِدَ النَّبَوِيَّ عَمَلِيًّا؟
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ الاِحْتِفَالَ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ لَيْسَ شِعَارًا يُرْفَعُ فَقَطْ، وَلَا مَجَالِسَ مُؤَقَّتَةً تُعْقَدُ، بَلْ هُوَ مَنْهَجُ حَيَاةٍ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، لِنُعْلِنَ لِلْعَالَمِ أَنَّنَا أُمَّةٌ تُجَدِّدُ العَهْدَ مَعَ حَبِيبِهَا ﷺ.
فَمِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ إِحْيَاءِ هَذِهِ الذِّكْرَى:
- الإِكْثَارُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ ﷺ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلُهُ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [صحيح مسلم، رقم (384)].
- قِرَاءَةُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالشَّمَائِلِ المُحَمَّدِيَّةِ
لِيَكُونَ فَرَحُنَا عِلْمًا وَعَمَلًا، لَا أَنْشُودَاتٍ وَعَاطِفَةً فَقَطْ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُرَبُّونَ أَبْنَاءَهُمْ عَلَى حِفْظِ سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا يُرَبُّونَهُمْ عَلَى حِفْظِ القُرْآنِ.
- إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَالإِحْسَانُ إِلَى الفُقَرَاءِ
قَالَ ﷺ: «خَيْرُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ» [مسند أحمد، رقم (23408)، ج37، ص475، إسناده حسن].
فَمَنْ أَرَادَ الفَرَحَ بِالمَوْلِدِ فَلْيُطْعِمْ جَائِعًا، وَلْيَكْسُ عَارِيًا، وَلْيَفْرُجْ كَرْبَةً عَنْ مَكْرُوبٍ.
- إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ
فَإِنَّ أَعْظَمَ هَدِيَّةٍ نُقَدِّمُهَا فِي ذِكْرَى مَوْلِدِهِ ﷺ أَنْ نَكُونَ دُعَاةَ وَحْدَةٍ وَرَحْمَةٍ.
قَالَ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ» [سنن الترمذي، رقم (2509)، وقال: حسن صحيح].
- تَرْبِيَةُ الأَبْنَاءِ عَلَى مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ
بِحِكَايَةِ قَصَصِ سِيرَتِهِ، وَتَعْلِيمِهِمْ دُرُوسَ الحُبِّ، وَالتَّضْحِيَةِ، وَالأَمَانَةِ، وَالرَّحْمَةِ. فَمَنْ نَشَأَ وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَنْ يَنْحَرِفَ فِي دَرْبِ الحَيَاةِ،
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، هَكَذَا يَكُونُ الاِحْتِفَالُ: فَرَحًا بِالقُلُوبِ، وَعَمَلًا بِالجَوَارِحِ، وَصِلَةً بِالمُحْتَاجِينَ، وَتَعْلِيمًا لِلأَبْنَاءِ، وَإِصْلَاحًا بَيْنَ المُخْتَلِفِينَ.
فَمَا أَجْمَلَ أَنْ تَكُونَ ذِكْرَى المَوْلِدِ مِيثَاقًا لِلسَّلَامِ وَالوَحْدَةِ وَالمَحَبَّةِ، وَمَا أَحْسَنَ أَنْ نُحَوِّلَهَا مِنْ مُجَرَّدِ أَنَاشِيدَ إِلَى مَشَارِيعَ خَيْرٍ تَبْقَى بَرَكَاتُهَا سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ.
الخَاتِمَةُ:
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللهِ، إِذَا كَانَ المَوْلِدُ النَّبَوِيُّ يُذَكِّرُنَا بِمَجِيءِ الهُدَى، فَإِنَّهُ يُلْزِمُنَا أَنْ نَكُونَ أُمَّةً تَسِيرُ عَلَى هَدْيِهِ ﷺ. فَلْنَجْعَلْ ذِكْرَى المَوْلِدِ مِيثَاقًا جَدِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِنَا ﷺ، نُجَدِّدُ فِيهِ العَهْدَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَنُكْثِرُ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَنُجَسِّدُ فِيهِ رِسَالَتَهُ سَمَاحَةً، وَرَحْمَةً وَعَدْلًا وَإِحْسَانًا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31].
فَمَنْ أَرَادَ مَحَبَّةَ اللهِ وَمَغْفِرَتَهُ فَلْيَتَّبِعِ الحَبِيبَ المُصْطَفَى ﷺ.
اللَّهُمَّ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ، يَا ذَا الجُودِ وَالإِحْسَانِ، اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ نَبِيِّكَ وَمُتَابِعَتِهِ.
اللَّهُمَّ اجْمَعْنَا عَلَى سُنَّتِهِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ، وَاسْقِنَا مِنْ يَدِهِ الكَرِيمَةِ شَرْبَةً لَا نَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ ذِكْرَى مَوْلِدِهِ نُقْطَةَ تَغْيِيرٍ فِي حَيَاتِنَا، وَبَدَايَةَ إِصْلَاحٍ لِقُلُوبِنَا، وَسَبَبًا فِي وَحْدَةِ أُمَّتِنَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِمَوْلِدِهِ سُعَدَاءَ، وَبِشَفَاعَتِهِ فِي الآخِرَةِ فُزْنَا وَنَجَوْنَا، وَبِهَدْيِهِ فِي الدُّنْيَا اهْتَدَيْنَا.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
المراجع: القرآن الكريم، كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، سنن النسائي، مسند أحمد، المعجم الكبير للطبراني.
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تفسير ابن كثير، تَفْسِيرُ الْبَغَوِيِّ، شرح البخاري لابن حجر، شرح البخاري لابن بطال، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي، حلية الأولياء، مَدَارِجُ السَّالِكِينَ لابْنُ القَيِّمِ، الْأَجُوبَةُ الْمَرْضِيَّةُ للسخاوي. تفسير ابن جزي.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
–للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف