أخبار مهمةالخطبة المسموعةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةخطبة الجمعة القادمة ، خطبة الجمعة القادمة لوزارة الأوقاف المصرية مكتوبة word pdfعاجل

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، للدكتور أحمد رمضان

إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 25 ربيع الثاني 1447هـ ، الموافق 17 أكتوبر 2025م

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، حصريا  و انفراد إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 25 ربيع الثاني 1447هـ ، الموافق 17 أكتوبر 2025م.

حصريا ل صوت الدعاة لتحميل خطبة الجمعة القادمة 17 أكتوبر 2025م بصيغة word بعنوان : بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.

 

 انفراد لتحميل خطبة الجمعة القادمة 17 أكتوبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، للدكتور أحمد رمضان.

 

عناصر خطبة الجمعة القادمة 17 أكتوبر 2025م بعنوان : بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.

 

العُنْصُرُ الأَوَّلُ: “بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”صَيْحَةُ الْوَحْيِ لِتَلِينَ الْقُلُوبَ

العُنْصُرُ الثَّانِي: أَدَبُ الِاخْتِلَافِ وَفَنُّ الحِوَارِ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

العُنْصُرُ الثَّالِثُ: مِنْ أَدَبِ السَّلَفِ فِي الِاخْتِلَافِ إِلَى قَوَاعِدَ تَبْنِي الأُمَّةَ

العُنْصُرُ الرَّابِعُ: ثَمَرَاتُ التَّخَلُّقِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

 

ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 17 أكتوبر 2025م : بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:

 

 بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

25 ربيع الثاني 1447هـ – 17 أكتوبر 2025م

إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان

المـــوضــــــــــوع

الحمدُ للهِ الذي هدى من استمسكَ بالعروةِ الوثقى، وجعلَ كلمتَهُ هي العليا، ووعدَ من اتقاهُ بالفوزِ والنجوى. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، صلواتُ ربي وسلامُهُ عليهِ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعينَ.   أمّا بعدُ:

عناصر الخطبة:

العُنْصُرُ الأَوَّلُ: “بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”صَيْحَةُ الْوَحْيِ لِتَلِينَ الْقُلُوبَ

العُنْصُرُ الثَّانِي: أَدَبُ الِاخْتِلَافِ وَفَنُّ الحِوَارِ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

العُنْصُرُ الثَّالِثُ: مِنْ أَدَبِ السَّلَفِ فِي الِاخْتِلَافِ إِلَى قَوَاعِدَ تَبْنِي الأُمَّةَ

العُنْصُرُ الرَّابِعُ: ثَمَرَاتُ التَّخَلُّقِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

فهذا حديثٌ عن قاعدةٍ قرآنيةٍ جامعةٍ، ومِنهاجٍ نبويٍّ مُحكَمٍ، ومفتاحٍ ذهبيٍّ لبناءِ السِّلمِ الأهليِّ وصناعةِ الحياةِ الطيبةِ، عن قولِه تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، مبدأٍ يُحوِّلُ ساحاتِ الخصومةِ إلى مودةٍ، ويقلبُ العداوةَ وِلايةً، ويُهذِّبُ اللسانَ والقلبَ والعملَ. سنقفُ معهُ بيانًا وتفسيرًا وتطبيقًا، حتى نمضيَ به من منبرِ القولِ إلى جادّةِ الفعلِ إن شاءَ اللهُ.

العُنْصُرُ الأَوَّلُ: “بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”… صَيْحَةُ الْوَحْيِ لِتَلِينَ الْقُلُوبَ

أيُّها الأحبّةُ الكرامُ: إنَّ قولَهُ تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] ليسَ جملةً بلاغيّةً تُتلى، ولا موعظةً عابرةً تُسمع، بلْ هو دستورُ حياةٍ، وقانونُ أخلاقٍ، ومنهجُ إصلاحٍ شاملٍ. والسرُّ البليغُ في التعبير أنّه لم يقلْ: “ادفعْ بالحسنة”، بلْ قال: “بالتي هي أحسن”، أي أنَّ المؤمنَ مأمورٌ أنْ يختارَ أرفعَ مراتبِ الخيرِ، وأعلى درجاتِ العفوِ، وأسمى صورِ الحلمِ، فلا يكتفي بالحسنةِ المجرّدةِ، بل يرتقي إلى الأحسنِ والأصفى والأزكى.

قالَ الإمامُ الطبريُّ رحمهُ اللهُ: «ادفعْ بحلمِكَ جهلَ من جهلَ عليكَ، وبعفوكَ عمّن أساءَ إليكَ إساءةَ المسيءِ، وبصبرِكَ عليهم مكروهَ ما تجدُ منهم» (جامع البيان، 20/499). فكأنَّهُ يرسمُ لنا خريطةَ التعاملِ مع الناسِ: الحلمُ أمامَ الجهلِ، والعفوُ أمامَ الإساءةِ، والصبرُ أمامَ الأذى.

وأوجز الحسنُ البصريُّ هذا المعنى بقوله: «ليسَ الإحسانُ أن تُحسنَ إلى من أحسنَ إليكَ، إنما الإحسانُ أن تُحسنَ إلى من أساءَ إليكَ» (الزهد الكبير، ص348).

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَبِالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَبِالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ) يَعْنِي: إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ خَضَعَ لَكَ عَدُوُّكَ، وَصَارَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنه ولي حميم. [تَفْسِيرُ الْبَغَوِيِّ ص165]

عبادَ اللهِ، إنَّ هذا الخُلُقَ ليسَ استسلامًا ولا ضعفًا، بل هو قمّةُ القوةِ. قال النبي ﷺ: «ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ» (البخاري 6114، مسلم 2609). فالشديدُ في ميزانِ السماء هو من يصرعُ نفسَهُ في ميدانِ الغضبِ، لا من يصرعُ الرجالَ في مسرح القتالِ.

ثم انظروا إلى النتيجةِ الموعودةِ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. عدوٌّ لَدودٌ يتحوّلُ إلى أخٍ حميمٍ وصديقٍ وفيٍّ، بفضلِ كلمةٍ طيّبةٍ، أو عفوٍ صادقٍ، أو إحسانٍ صبورٍ.

هذا من أعظمِ الطرق لدفعِ شرِّ الناس، أن تُحسنَ إلى من أساءَ إليك، فإنَّهُ يلينُ قلبُهُ لك، ويزولُ ما في قلبِهِ من عداوةٍ.

ولقد جسّدَ النبيُّ ﷺ هذه القاعدةَ أروعَ تجسيدٍ؛ ففي الطائفِ، حين أدموهُ بالحجارةِ، رفعَ يديه قائلاً: «اللَّهُمَّ إنِّي أشكُو إليكَ ضعفَ قوَّتي، وقلَّةَ حيلتي، وهواني على الناس…» ثم قال: «بلْ أرجو أنْ يُخرجَ اللهُ من أصلابهم من يعبدُ اللهَ وحدهُ لا يشركُ به شيئًا» (البخاري 3231، مسلم 1795). أيُّ رحمةٍ هذه؟ وأيُّ خُلُقٍ أعظمُ من أن يُقابلَ الأذى بالدعاءِ بالهداية؟

هكذا –عبادَ اللهِ– تُفصحُ آيةٌ واحدةٌ عن مَنهجٍ متكاملٍ: أن نكونَ بناةً لا هُدّامِين، مُصلحينَ لا مفسدين، صانعينَ للودِّ لا للعداوةِ، وأن نجعلَ من «بالتي هي أحسن» أسلوبَ حياةٍ يحفظُ الأمةَ، ويزكّي النفوسَ، ويُقيمُ أركانَ المجتمعِ على الصفاءِ والوِئامِ.

العُنْصُرُ الثَّانِي: أَدَبُ الِاخْتِلَافِ وَفَنُّ الحِوَارِ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

أيُّها المُؤْمِنونَ: إنَّ الِاخْتِلَافَ في الرأيِ والفكرِ والاجتهادِ سُنَّةٌ جاريةٌ بينَ البشرِ، حكمةً من اللهِ تعالى، قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119]. لكنَّ هذا الِاخْتِلَافَ لم يُتركْ هملاً، بل ضُبِطَ بمناهجَ ربّانيةٍ ساميةٍ، فقال عزَّ وجلَّ: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]. فصارَ معيارُ التفاضلِ ليس في وُجودِ الاختلافِ، بل في طريقةِ إدارتهِ، وهل هو مُؤَدّبٌ بالحكمةِ والرحمةِ، أم فَظٌّ جافٌّ يُؤدِّي إلى الفرقةِ والشَّحناءِ.

قالَ ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ: «أَيۡ: من أَسَاءَ إِلَيۡكَ فَادۡفَعۡهُ عَنكَ بِالإِحۡسَانِ إِلَيۡهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «مَا عَاقَبتَ مَنۡ عَصَى اللهَ فِيكَ بِمِثلِ أَن تُطِيعَ اللهَ فِيهِ”. وَقَولُهُ: {فَإِذَا الَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُ عَدَاوَةٞ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٞ}، أَيۡ: إِذَا أَحۡسَنتَ إِلَى مَنۡ أَسَاءَ إِلَيۡكَ قَادَتهُ تِلكَ الحَسَنَةُ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَالحُنُوِّ عَلَيكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيّٞ لَكَ حَمِيمٞ، أَيۡ: قَرِيبٞ إِلَيكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيكَ وَالإِحۡسَانِ إِلَيكَ» (تفسير ابن كثير، ج6، ص546). فالمؤمنُ الحقُّ لا يَستسلمُ لغضبِ النفسِ، ولا يُغذِّي نارَ الشحناءِ، بل يُطفئُها بالمروءةِ والكرمِ والرِّفقِ.

وكانَ النبيُّ ﷺ قُدوةً عُظمى في أدبِ الحوارِ، فكانَ يستمعُ إلى خصومِه قبلَ أصحابهِ، ويُحاورُ برفقٍ، ويدعو بالهدايةِ بدلَ الدعاءِ بالهلاكِ، حتى قالَ يومًا بعدَ أن آذَوهُ بكلماتٍ جارحةٍ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (البخاري 3477).

وهكذا أدبَ النبيُّ ﷺ أصحابَهُ على أنَّ الهدفَ من الحوارِ ليسَ الانتصارَ للنفسِ، بل الوصولُ إلى الحقِّ، وإبقاءُ القلوبِ مُجتمعةً على المودّةِ. ففي غزوةِ بني قريظةَ، أمرَهم ﷺ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» (البخاري 4119، مسلم 1770). فاختلفوا: فمنهم مَن صلّى في الطريقِ خشيةَ خروجِ الوقتِ، ومنهم من أخرها حتى بلغَ المكانَ عملًا بظاهرِ النصِّ؛ فلم يُعنِّفْهم ﷺ، بل أقرَّ اجتهادَهم جميعًا، لتبقى الوحدةُ أعظمَ من الخلافِ.

أيها الأحبّةُ: هذا هو فقهُ الحوارِ في الإسلامِ، يُعلِّمنا أنَّ الِاخْتِلَافَ لا ينبغي أنْ يُفسِدَ للوُدِّ قضيّةً، وأنَّ فنَّ الحوارِ ليسَ مِهارةً شكليةً، بل هو عبادةٌ تُزكّي القلبَ، وتبني الجسورَ بينَ المختلفين، وتُطفئُ نيرانَ الشحناءِ قبلَ أنْ تشتعلَ.

العُنْصُرُ الثَّالِثُ: مِنْ أَدَبِ السَّلَفِ فِي الِاخْتِلَافِ إِلَى قَوَاعِدَ تَبْنِي الأُمَّةَ

أيُّها الأحبّةُ الكرامُ: لقد جسّدَ الصحابةُ والتابعونَ معنى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» في حياتِهم ممارسةً واقعيّةً، لا مجرّدَ وعظٍ وشعاراتٍ. فكانوا يختلفونَ في بعضِ الفروعِ، لكنَّ قلوبَهم متآخيةٌ، وأنفاسُهم على قلبٍ رجلٍ واحدٍ.

من أبرزِ الأمثلةِ: ما وقعَ بينَ أبي بكرٍ وعمرَ رضي اللهُ عنهما في أسرى بدرٍ؛ إذ رأى أبو بكرٍ العفوَ والفداءَ، ورأى عمرُ القتلَ والحزمَ، ثم نزل القرآنُ مؤيِّدًا رأيَ عمرَ في شدَّتهِ (مسلم 1763). ومع ذلك لم يُفسدِ الخلافُ للمودَّةِ سبيلًا، وظلَّ كلٌّ منهما يُجلُّ الآخرَ ويُحبُّهُ، لتبقى الأخوّةُ أصلًا، والاختلافُ فرعًا.

وقد قالَ الإمامُ الشافعيُّ كلمتَهُ الخالدةَ: «رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأَ، ورأي غيري خطأٌ يحتملُ الصوابَ» (مناقب الشافعي للبيهقي 1/469). وقالَ الإمامُ مالكٌ: «ما من أحدٍ إلا يُؤخذُ من قولِه ويُردُّ، إلا صاحبَ هذا القبر ﷺ» (الاعتصام للشاطبي 2/201). وهذه قاعدةٌ ذهبيةٌ: ثباتٌ على الدليلِ، وتواضعٌ مع المخالفِ، فلا تعالٍ ولا تعصّب.

وكانوا يُرَسِّخونَ قواعدَ عمليّةً لبناءِ مجتمعٍ متماسكٍ، منها:

حُسنُ الظنِّ وسترُ الزلّةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]. البدايةُ قلبٌ أبيضُ، ونيةٌ سليمةٌ.

نظافةُ اللسانِ وأدبُ الخطابِ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ» (الترمذي 1977، صحيح). الكلمةُ إمّا تبني وإمّا تهدم.

قبولُ التنوّعِ الفقهيِّ والفكريِّ: قال عمرُ بنُ عبد العزيز: «ما سرَّني لو أنَّ أصحابَ محمدٍ ﷺ لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضلالًا، وإذا اختلفوا كان في الأمرِ سعةٌ» (جامع بيان العلم 2/80).

استيعابُ الآخرِ لا إقصاؤهُ: صحيفةُ المدينةِ التي كتبها النبي ﷺ جمعت المسلمينَ مع اليهودِ والمشركينَ على عهدٍ واحدٍ، لتؤسّسَ لمجتمعٍ مدنيٍّ متماسكٍ.

التعاونُ على المشتركاتِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. فالخلافُ لا يمنعُ من التلاقي على الخيرِ والمصلحةِ العامّةِ.

ولقد جعلَ النبي ﷺ الأخلاقَ معيارَ التفاضلِ في الناسِ، فقال: «خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا» (البخاري 3559). وقال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» (الترمذي 1924، صحيح). فالأخلاقُ ليستْ ترفًا ولا كلماتٍ منمّقةً، بل هي استراتيجيّةُ أمنٍ اجتماعيٍّ، تُطفئُ نيرانَ الفتنةِ، وتزرعُ الثقةَ بينَ المختلفين.

أيُّها الأحبّةُ: إذا أردنا أنْ نُحَوِّلَ مبدأ «بالتي هي أحسن» إلى واقعٍ معاشٍ، فلنضعْ لأنفسِنا خطواتٍ عمليةً واضحةً، منها:      تقديمُ المشتركِ على المختلفِ عندَ الحديثِ العامِّ.

جعلُ النيةِ إصلاحًا لا انتصارًا.

الردُّ بالحُجّةِ مع حفظِ الحرمةِ وتركِ بابِ العودةِ مفتوحًا.

تخصيصُ مجالسَ صلحٍ وإطفاءِ خصوماتٍ، عملاً بحديث: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ… الحَالِقَةُ» (الترمذي 2509، صحيح).

تثبيتُ مواثيقَ للخطابِ العامِّ: لا سباب، لا تحقير، لا تشنيع؛ إنما بيانٌ ورحمةٌ وحكمةٌ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على جزيلِ فضلِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانِه، صلّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا. أمّا بعدُ.

العُنْصُرُ الرَّابِعُ: ثَمَرَاتُ التَّخَلُّقِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

أيُّها الأحبّةُ الكرامُ، إنَّ اللهَ جلّ وعلا لمّا أمرَنا بأن ندفعَ بالتي هي أحسن، لم يُرِد أن يُثقِلَ علينا ولا أن يُكلّفنا بما لا طاقةَ لنا به، بل أراد أن يرفعَنا إلى مقاماتِ الشرفِ والكرامةِ، ويُزكّي قلوبَنا، ويجعلَ لنا من هذا الخُلقِ العظيمِ ثمراتٍ عاجلةً في الدنيا، وآجلةً في الآخرة.

أوّلًا: ثَمَرَاتُهَا فِي الدُّنْيَا

  • طُمَأْنِينَةُ القَلْبِ وَرَاحَةُ النَّفْسِ

ما أكثرَ ما يُتعبُ القلبَ الغِلُّ والحقدُ والانتقامُ، وما أكثرَ ما يُشقي الإنسانَ حين يبيتُ يتقلّبُ على نارِ الغضبِ. لكن من دفع بالتي هي أحسن عاش في جنةٍ عاجلةٍ، جنةِ الرضا والطمأنينة. قال بعضُ الحكماءِ: “ما ندمتُ على عفوٍ قط، ولكن ندمتُ على كثيرٍ من انتقامٍ“.

  • مَحَبَّةُ النَّاسِ وَكَسْبُ القُلُوبِ

القلوبُ مفطورةٌ على حبّ مَن أحسن إليها، وبغضِ مَن أساء إليها. فإذا قابلتَ الناسَ بالتي هي أحسن ملكتَ قلوبَهم بلا مالٍ ولا سلطانٍ. وقد جاء أعرابيٌّ إلى النبي ﷺ فغلظَ القولَ، فابتسمَ له رسولُ اللهِ وأعطاه، فانصرفَ وهو يقول: “أشهدُ أنك لا تكافئُ السيّئةَ بالسيّئةِ، وإنما تجزيها بالحسنةِ”، ثم أسلم.

وهذا سرّ عظيم من أسرار الدعوة، فإن القلوبَ تُفتحُ بالمواقفِ لا بالكلامِ وحده.

  • دَفْعُ الشَّرِّ وَإِطْفَاءُ الْفِتَنِ

كثيرٌ من الفتنِ تبدأُ بكلمةٍ جارحةٍ، أو نظرةٍ مستفزّةٍ، ثم تتطورُ إلى قتالٍ ودماءٍ. ولو أنَّ كلَّ مسلمٍ دفع بالتي هي أحسن، لانطفأت نارُ الفتنةِ في مهدِها. وقد قيل: “الحلمُ سيدُ الأخلاقِ، به تُطفأُ نيرانُ العداوةِ، وتُبنى جسورُ المودّةِ”.

  • البَرَكَةُ فِي العُمْرِ وَالرِّزْقِ

الأخلاقُ الحسنةُ سببٌ للبركةِ، وقد صحّ عن النبي ﷺ أنَّه قال: «مَن أحبَّ أن يُبسطَ له في رزقِه ويُنسأَ له في أثرِه فليصلْ رحمَه» [البخاري 5986، مسلم 2557].

وصلةُ الرحمِ صورةٌ من صورِ “بالتي هي أحسن”، إذ كيف يصلُ رحمَه من لم يعفُ عنهم ويصفح عن زلّاتهم؟

  • القُوَّةُ الحَقِيقِيَّةُ

الناسُ يظنون أن القوّةَ في البطشِ وردِّ الإساءةِ بالإساءةِ، لكن النبي ﷺ صحّح المفهوم فقال: «ليسَ الشديدُ بالصُّرَعةِ، إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسَه عندَ الغضب» [البخاري 6114، مسلم 2609].

فالقويُّ حقًا ليس مَن يصرعُ الأجسادَ، بل مَن يصرعُ نفسه ويضبطُها عندَ الغضبِ.

ثَانِيًا: ثَمَرَاتُهَا فِي الآخِرَةِ

  • النَّجَاةُ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ

يومَ القيامة، يدخلون الجنة بعفوهم عن الناس. قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].

  • الْقُرْبُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ

أعظمُ أملٍ للمؤمن أن يكونَ قريبًا من رسول الله ﷺ يوم القيامة. وقد قال ﷺ: «أحبّكم إليّ وأقربُكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنُكم أخلاقًا» [الترمذي 2018، حسن صحيح].

  • الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَرِضْوَانِ اللَّهِ

قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133-134].

  • رَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَتَكَفُّلُ اللَّهِ بِالْأَجْرِ

قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. أي أن اللهَ تكفّلَ بأجره، ولم يبيّن قدره، إشارةً إلى عظمتهِ وسَعتِه.

قِصَصٌ وَأَمْثِلَةٌ تُحَرِّكُ الْقُلُوبَ

يوسف عليه السلام: لمّا تمكّن من إخوتهِ قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92]. فرفع اللهُ قدرهُ، وجعل قصتَهُ آيةً للمؤمنين.

أبو بكر الصدّيق: في حادثةِ الإفكِ، لمّا خاضَ مسطحُ في عرضِ ابنتهِ عائشة، أقسم أن لا يُنفقَ عليه، فأنزل اللهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، فبكى أبو بكر وقال: “بلى، والله إنّا نحبُّ أن يغفرَ اللهُ لنا”.

الحسن البصري: شتمهُ رجلٌ فقال: “إن كان ما قلتَ فيّ حقًا فغفرَ اللهُ لي، وإن كان باطلًا فغفرَ اللهُ لك”. فانقلبَ الشاتمُ باكيًا يقبّلُ رأسَه.

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وتخلَّقوا بالتي هي أحسن، تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.

اللَّهُمَّ اجعلنا من الذين يدفعون بالتي هي أحسن، فيردّون الإساءةَ بالعفوِ، والغلظةَ بالرفقِ، والقسوةَ بالرحمةِ.

اللَّهُمَّ انشر في أوطانِنا الأمنَ والإيمانَ، والسلامَ والإحسانَ، والرخاءَ والاطمئنانَ.

المراجع: القرآن الكريم

كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الترمذي، مسند أحمد، المعجم الكبير للطبراني.

ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي، تفسير ابن كثير، تفسير الوسيط لطنطاوي، تَفْسِيرُ الْبَغَوِيِّ، الزهد للإمامِ أحمدَ، الاعتصام للشاطبي، الزهد الكبير للبيهقي مناقب الشافعي للبيهقي جامع بيان العلم لابن عبد البر.

د. أحمد رمضان

خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان

 

 _______________________________

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة

 

اظهر المزيد

كتب: د.أحمد رمضان

الدكتور أحمد رمضان حاصل علي الماجستير من جامعة الأزهر بتقدير ممتاز سنة 2005م ، وحاصل علي الدكتوراه بتقدير مع مرتبة الشرف الأولي من جامعة الأزهر الشريف سنة 2017م. مؤسس جريدة صوت الدعاة ورئيس التحرير وكاتب الأخبار والمقالات المهمة بالجريدة، ويعمل بالجريدة منذ 2013 إلي اليوم. حاصل علي دورة التميز الصحفي، وقام بتدريب عدد من الصحفيين بالجريدة. للتواصل مع رئيس التحرير على الإيميل التالي: ahmed_dr.ahmed@yahoo.com رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) للمزيد عن الدكتور أحمد رمضان رئيس التحرير أضغط في القائمة علي رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى