أخبار مهمةالخطبة المسموعةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةخطبة الجمعة القادمة ، خطبة الجمعة القادمة لوزارة الأوقاف المصرية مكتوبة word pdfعاجل

 خطبة الجمعة للدكتور أحمد رمضان : بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة (إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها)

إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها

 خطبة الجمعة : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)، إعداد: رئيس التحرير للدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 28 صفر 1447هـ، الموافق 22 أغسطس 2025م.

 

لتحميل خطبة الجمعة القادمة 22 أغسطس 2025م بصيغة word بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.

 

وكذلك : لتحميل خطبة الجمعة القادمة 22 أغسطس 2025م بصيغة pdf بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)، لـ صوت الدعاة.

-عناصر خطبة الجمعة القادمة 22 أغسطس 2025م بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.

 

العُنْصُرُ الأَوَّلُ: دَرْسُ النَّبِيِّ ﷺ وَالتَّرْبِيَةُ عَلَى التَّفَكُّرِ

العُنْصُرُ الثَّانِي: إِتْقَانُ الْعَمَلِ سِرٌّ لِنَهْضَةِ الْأُمَّةِ وَرَمْزٌ لِعِزَّتِهَا

العُنْصُرُ الثالث: قِصَصٌ أَرْسَتْ دَعَائِمَ الْفِكْرِ وَالإِيمَانِ

الخطبة الثانية: العنصر الرابع: حفظ النفس

 

ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 22 أغسطس 2025م بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة) إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:

 

  إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)

21 صفر 1447هـ – 15 أغسطس 2025م

إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان

المـــوضــــــــــوع

الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْكَوْنِ آيَاتٍ نَاطِقَاتٍ، تُحَرِّكُ الْعُقُولَ مِنْ سُبَاتِهَا، وَتُوقِظُ الْقُلُوبَ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَنَثَرَ فِي الْوُجُودِ بَرَاهِينًا شَامِخَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ فِي الْأَنْفُسِ أَدِلَّةً بَاهِرَاتٍ تُنِيرُ الطَّرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ.

نَحْمَدُهُ حَمْدَ الْعَارِفِينَ بِجَلَالِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِهِ لِتَنْشِيطِ الْعُقُولِ وَإِحْيَاءِ الْإِيمَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْمُعَلِّمُ الْأَكْبَرُ، وَمُرَبِّي الْعُقُولِ وَمُوَقِّظُ الْقُلُوبِ، صَلَوَاتُ رَبِّنَا وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أُولِي الْبَصَائِرِ وَالْأَفْكَارِ النَّيِّرَةِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ، خُطْبَتُنَا الْيَوْمَ دَعْوَةٌ لِإِيقَاظِ الْفِكْرِ، وَتَجْدِيدِ الْعُقُولِ، وَغَرْسِ مَلَكَةِ التَّدَبُّرِ الَّتِي أَحْيَاهَا الْقُرْآنُ وَرَبَّاهَا النَّبِيُّ ﷺ.

وَنَسْتَفْتِحُ كَلَامَنَا بِذَلِكَ الْمَشْهَدِ النَّبَوِيِّ الْبَاهِرِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ ﷺ فَقَالَ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا، وهي مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي ما هي؟ فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ البَادِيَةِ، ووَقَعَ في نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنَا بهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هي النَّخْلَةُ قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أبِي بما وقَعَ في نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَكونَ لي كَذَا وكَذَا» (رواه البخاري كتاب العلم، باب الفهم في العلم ح 131).

فَأَثَارَ الْعُقُولَ، وَحَرَّكَ الْأَذْهَانَ، وَصَنَعَ مِنْ سُؤَالٍ وَاحِدٍ مِفْتَاحًا لِبِنَاءِ عَقْلِيَّةٍ مُفَكِّرَةٍ رَاسِخَةِ الْإِيمَانِ.

العُنْصُرُ الأَوَّلُ: دَرْسُ النَّبِيِّ ﷺ وَالتَّرْبِيَةُ عَلَى التَّفَكُّرِ

عِبَادَ اللَّهِ، اقْتَرِبُوا بِقُلُوبِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ لِهَذَا الْمَشْهَدِ النَّبَوِيِّ، الَّذِي يَرْسُمُ مَعَالِمَ طَرِيقٍ جَدِيدٍ لِإِثَارَةِ الْفِكْرِ وَإِشْعَالِ بَوَارِقِ الْعُقُولِ. جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي مَجْلِسٍ مُشْرِقٍ بِنُورِ الْوَحْيِ، يَتَدَفَّقُ فِيهِ سُكُونُ الْإِيمَانِ مَعَ حَرَارَةِ التَّرْبِيَةِ النَّبَوِيَّةِ، لِيُحَوِّلَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ إِلَى مَعْهَدٍ يَصْنَعُ الْعُقُولَ وَيُهَذِّبُ الْأَفْهَامَ.

وَبِسُؤَالٍ بَسِيطِ اللَّفْظِ، عَظِيمِ الْمَبْنَى، يَبْدَأُ الرَّسُولُ ﷺ دَرْسَهُ الْبَلِيغَ: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَأَخْبِرُونِي مَا هِيَ؟» (رواه البخاري، ح131).

فَيَسْكُنُ الْمَجْلِسُ لَحْظَاتٍ، ثُمَّ تَنْطَلِقُ الْعُقُولُ تَجُوبُ الصَّحَارَى وَالْبَوَادِي، تَتَذَاكَرُ أَنْوَاعَ الشَّجَرِ: السِّدْرُ، الطَّلْحُ، الْأَرَاكُ… كُلٌّ يُحَدِّثُ بِمَا أَلِفَتْهُ بِيئَتُهُ وَعَرَفَهُ بَصَرُهُ. وَفِي طَرَفِ الْمَجْلِسِ، يَجْلِسُ غُلَامٌ فَتِيٌّ لَمْ يَزَلْ فِي سِنِّ الزُّهُورِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – يُدْرِكُ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ “النَّخْلَةُ”، وَلَكِنَّهُ يَتَوَرَّعُ عَنِ الْكَلَامِ أَمَامَ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ مِنْ كِبَارِ السِّنِّ وَالْقَدْرِ.

حَتَّى جَاءَتْ بَسْمَةُ الْوَحْيِ عَلَى شَفَتَيْ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ». فَبَعْدَ الْمَجْلِسِ، حَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ–: «لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا فِي الْمَجْلِسِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا» (فتح الباري، ج1، ص146).

دَلَالَاتٌ بَلَاغِيَّةٌ وَتَرْبَوِيَّةٌ:

أَوَّلًا: مَنْهَجُ النَّبِيِّ فِي إِثَارَةِ الْفِكْرِ: لَمْ يُقَدِّمِ الْجَوَابَ مَجَّانًا، وَلَمْ يَسْرِدِ الْحِكْمَةَ سَرْدًا جَامِدًا، بَلْ أَثَارَ فِي عُقُولِهِمْ بَحْرَ التَّأَمُّلِ، فَجَعَلَهُمْ يُفَكِّرُونَ وَيَسْتَحْضِرُونَ. هَذِهِ هِيَ عِبَادَةُ التَّفْكِيرِ الَّتِي تَسْتَنْطِقُ الْعَقْلَ وَتُحَرِّرُهُ مِنْ جُمُودِ التَّقْلِيدِ.

ثَانِيًا: كَلِمَةُ عُمَرَ لِابْنِهِ “لَوْ قُلْتَهَا”: دَرْسٌ بَلِيغٌ فِي تَرْبِيَةِ الثِّقَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَحَثٍّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْفِكْرِ وَالْإِبْدَاعِ.

ثَالِثًا: التَّشْبِيهُ النَّبَوِيُّ الْعَجِيبُ: شَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بِالنَّخْلَةِ؛ شَجَرَةٍ ثَابِتَةِ الْجُذُورِ، عَالِيَةِ الْفُرُوعِ، نافعةٌ فِي كُلِّ فَصْلٍ، لَا يَنْقَطِعُ خَيْرُهَا، وَلَا يَذْبُلُ عَطَاؤُهَا.

واسمع إلي قَولهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: 24-25]. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: “هَذِهِ هِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، ثَابِتَةٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَثَمَرَتُهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مُتَّصِلَةٌ تَصْعَدُ إِلَى رَبِّ الْعِزَّةِ” (تفسير ابن كثير، ج4، ص567).

وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» فَقَالُوا: “الْمُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ”. فَقَالَ ﷺ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ… ثُمَّ يُطْرَحُ فِي النَّارِ» (مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم ح2581).

 خطبة الجمعة للدكتور أحمد رمضان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)

تَأَمَّلُوا! بَدَأَ بِسُؤَالٍ بَسِيطٍ، ثُمَّ نَقَلَ الْعُقُولَ مِنْ “مَفْهُومٍ مَالِيٍّ” إِلَى “حَقِيقَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ”، فَأَعَادَ بِنَاءَ الْفِكْرِ وَقَلَبَ الْمَقَايِيسَ.

فإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَبْنِيَ فِكْرًا دِينِيًّا حَيًّا، فَعَلَيْنَا أَنْ نَسِيرَ عَلَى خُطَى النَّبِيِّ ﷺ فِي إِثَارَةِ السُّؤَالِ وَإِشْرَاكِ الْعُقُولِ.

الْإِيمَانُ الصَّادِقُ هُوَ الَّذِي يَشْحَذُ الْفِكْرَ وَيُحَرِّكُ الْقَلْبَ وَيُثْمِرُ فِي السُّلُوكِ.

تَنْشِيطُ الْفِكْرِ الدِّينِيِّ وَتَجْدِيدُهُ بِالْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ وَالنَّبَوِيِّ

عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الْفِكْرَ الدِّينِيَّ فِي الإِسْلَامِ هُوَ نَبْضٌ حَيٌّ يَجْمَعُ بَيْنَ ثَبَاتِ الْوَحْيِ وَحَيَوِيَّةِ الْعَقْلِ، وَيَسْتَمِدُّ أَصَالَتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَيَسْتَنِيرُ بِنُورِ التَّدَبُّرِ وَالْحِكْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ مِفْتَاحُ الْعَقْلِ، وَأَنَّ غَفْلَتَهُ تُورِثُ عَمَى الْبَصِيرَةِ.

وَإِذَا أَرَدْنَا إِيقَاظَ الْفِكْرِ وَتَجْدِيدَهُ، فَإِنَّ الْمَنْهَجَ الْقُرْآنِيَّ وَالتَّرْبِيَةَ النَّبَوِيَّةَ يُقَدِّمَانِ طَرِيقًا وَاضِحًا: تَدَبُّرٌ، وَعِلْمٌ، وَحِوَارٌ، وَتَزْكِيَةٌ.

فَالتَّدَبُّرُ الْيَوْمِيُّ لِلْقُرْآنِ يُحْدِثُ انْقِلَابًا فِي الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – يَبْكِي عِنْدَ القراءةِ تَأْمُلًا وَخُشُوعًا.

وَفِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ تَنْبُتُ الْعُقُولُ؛ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: “إِنَّ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ تُحْيِي الْقُلُوبَ كَمَا يُحْيِي الْمَطَرُ الْأَرْضَ الْجَرْزَ”. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُثِيرُ الْأَفْكَارَ بِالسُّؤَالِ، فَيَقُولُ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» (مسلم، ح2581)، فَيَنْقُلُهُمْ مِنْ مِقْيَاسِ الدُّنْيَا إِلَى مِيزَانِ الْآخِرَةِ.

وَيُحْيِي الْفِكْرَ النَّظَرُ فِي الْكَوْنِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس: 101]. قَدْ كَانَ ابْنُ الْقَيِّمِ يَقُولُ: “التَّفَكُّرُ فِي خَلْقِ اللَّهِ يُعَمِّقُ الْإِيمَانَ وَيُجَدِّدُ الْعَقْلَ”.

وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ عَلَى هَذَا؛ فَفِي بَيْتِ الْحِكْمَةِ بِبَغْدَادَ وَقُرْطُبَةَ الْأَنْدَلُسِيَّةِ اجْتَمَعَ الْفَقِيهُ وَالطَّبِيبُ وَالْمُهَنْدِسُ تَحْتَ نُورِ الْوَحْيِ، فَأَنْجَبُوا الْخَوَارِزْمِيَّ وَابْنَ الْهَيْثَمِ، وَمَزَجُوا الْإِيمَانَ بِالْعِلْمِ.

وَيَبْقَى السِّرُّ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمْكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282]؛ فَالنَّقَاءُ الْقَلْبِيُّ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْحِكْمَةِ وَيُنِيرُ الْعَقْلَ.

إِذَنْ – يَا عِبَادَ اللَّهِ – فَتَنْشِيطُ الْفِكْرِ الدِّينِيِّ يَبْدَأُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَنْضُجُ فِي رِحَابِ الْعِلْمِ وَالْحِوَارِ، وَيَزْدَهِرُ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْكَوْنِ، وَيَتَأَلَّقُ بِتَزْكِيَةِ الْقَلْبِ. وَهَكَذَا صَنَعَ جِيلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ نُورِ الْإِيمَانِ وَرِقَّةِ الْعَقْلِ، فَبَنَوْا حَضَارَةً أَشْرَقَتْ بِهِمَا مَعًا.

يَا عِبَادَ اللَّهِ، انْظُرُوا كَيْفَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ جَعَلَا الْفِكْرَ الدِّينِيَّ جِسْرًا بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ؛ فَمَنْ أَحْيَى قَلْبَهُ بِالتَّقْوَى، وَغَذَّى عَقْلَهُ بِالْعِلْمِ، وَأَطْلَقَ بَصِيرَتَهُ فِي آيَاتِ اللَّهِ، بَاتَ كَالْمِصْبَاحِ الَّذِي يُضِيءُ لِنَفْسِهِ وَيَهْدِي غَيْرَهُ.

أَفَلَا نَقِفُ – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – عِنْدَ هَذِهِ الْمَنَاهِجِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَنُرَبِّي أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَنَبْنِي جِيلًا يُمْسِكُ بِيَمِينِهِ مِصْبَاحَ الْعِلْمِ، وَبِشِمَالِهِ رَايَةَ الْإِيمَانِ؟

إِنَّهُ النِّدَاءُ الَّذِي يُوقِظُ الْقُلُوبَ: جَدِّدُوا عُقُولَكُمْ بِنُورِ الْقُرْآنِ، وَاغْرِسُوا أُصُولَ الْفِكْرِ فِي تِلْكَ التِّلَاوَاتِ الَّتِي تُحَرِّكُ الْقُلُوبَ، فَمَنْ أَحْيَا الْفِكْرَ أَحْيَا الْأُمَّةَ، وَمَنْ أَمَاتَهُ أَطْفَأَ نُورَهَا.

العُنْصُرُ الثَّانِي: التَّفَكُّرُ مِفْتَاحُ تَنْمِيَةِ الْفِكْرِ وَإِيقَاظِ الْعُقُولِ

عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي مِيزَانِ الإِسْلَامِ لَيْسَ تَرَفًا ذِهْنِيًّا وَلَا إِشْغَالًا لِلْعَقْلِ بِمَا لَا يُجْدِي، بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ رُوحِيَّةٌ جَلِيلَةٌ، وَرِحْلَةٌ عَقْلِيَّةٌ تُقَرِّبُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ، وَتُحْيِي قَلْبَهُ، وَتُنِيرُ بَصِيرَتَهُ. إِنَّهُ الْمِفْتَاحُ الَّذِي تَفْتَحُ بِهِ أَبْوَابُ الْمَعْرِفَةِ، وَالْمِرْآةُ الَّتِي يَرَى الْمُؤْمِنُ فِيهَا حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ وَالْخَلْقِ وَالْخَالِقِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 190-191].

التَّفْسِيرُ الْمَوْضُوعِيُّ: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: “هَذِهِ دَعْوَةٌ صَرِيحَةٌ لِأُولِي الْعُقُولِ الْحَيَّةِ؛ أَنْ يَتَأَمَّلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ، فَيَرَوْا فِيهَا بَصَمَاتِ الْقُدْرَةِ، وَيَسْتَدِلُّوا مِنْهَا عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ، فَيَكُونَ التَّفَكُّرُ سَبِيلًا لِتَجْدِيدِ الْإِيمَانِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ” (تفسير ابن كثير، ج2، ص26).

هُنَا يَجْمَعُ الْقُرْآنُ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّفَكُّرِ، لِيُرَبِّيَ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لَيْسَ حَرَكَةَ لِسَانٍ فَحَسْبْ، بَلْ مَعَهُ عَقْلٌ يَتَدَبَّرُ وَقَلْبٌ يَعِي.

قِصَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ: بُكَاءُ النَّبِيِّ ﷺ

رَوَى ابْنُ حِبَّانَ (ح 620، ج2، ص386 – صحيح) أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…﴾، قَامَ النَّبِيُّ ﷺ لَيْلًا يُصَلِّي وَيَبْكِي، حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: “وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا”.

هَذَا الْمَشْهَدُ النَّبَوِيُّ يَغْرِسُ فِي الْقُلُوبِ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْحَقَّةَ لَا تُفْصَلُ عَنِ التَّدَبُّرِ وَإِعْمَالِ الْعَقْلِ

 التَّفَكُّرُ يَجْمَعُ بَيْنَ الإِيمَانِ وَالْعِلْمِ

الإِسْلَامُ دِينٌ يَجْمَعُ بَيْنَ نُورِ الْوَحْيِ وَضِيَاءِ الْعَقْلِ؛ فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْكَوْنِ وَيُدْرِكُ نِظَامَهُ الْمُحْكَمَ، يَرَى بَعْضَ آيَاتِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].

فَالتَّفَكُّرُ لَيْسَ خُرُوجًا عَنِ الدِّينِ، بَلْ هُوَ جِسْرٌ يُوَصِّلُ الْعِلْمَ بِالْإِيمَانِ.

أَقْوَالُ السَّلَفِ فِي التَّفَكُّرِ

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: “التَّفَكُّرُ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ” (كتاب الزهد لأبي داود، ص191).

 خطبة الجمعة للدكتور أحمد رمضان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)

وَقِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: “مَا كَانَ أَفْضَلَ عِبَادَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟” فَقَالَتْ: “التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ” (كتاب الزهد لأبي داود، ص196).

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: “أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ التَّفَكُّرُ وَالْوَرَعُ” (كتاب الورع لابن أبي الدنيا ص53، رقم المسلسل 46 وكتاب الزهد والرقائق لابن المبارك ص96 بصيغة: “إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ الْعَمَلِ الْوَرَعَ وَالتَّفَكُّرَ”).

وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: “الْفِكْرَةُ نُورٌ يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ” (حلية الأولياء، ج7، ص306 و البحور الزاخرة في علوم الآخرة ج 3، ص 1549).

التَّفَكُّرُ وَالنَّهْضَةُ الْعِلْمِيَّةُ فِي الإِسْلَام

كُنَّا – عِبَادَ اللَّهِ – أُمَّةً إِذَا تَفَكَّرَتْ، قَادَتْ الْعَالَمَ:

فِي بَغْدَادَ: أُسِّسَ بَيْتُ الْحِكْمَةِ، مَرْكَزُ الْبَحْثِ وَالتَّرْجَمَةِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ يَرْبِطُونَ الْعَقْلَ بِالْوَحْيِ.

فِي قُرْطُبَةَ: أَصْبَحَتْ جَامِعَتُهَا مَنْبَعَ النُّورِ، تَتَدَافَعُ إِلَيْهَا الْعُقُولُ، وَتُقْتَبَسُ مِنْهَا الْحَضَارَةُ.

فِي فَاسٍ: قَامَتْ جَامِعَةُ الْقَرْوِيِّينَ –عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ– تُجَسِّدُ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ جَنَاحَانِ يُحَلِّقُ بِهِمَا الْإِسْلَامُ.

وَفِي مِصْرَ، جَاءَ الأَزْهَرُ الشَّرِيفُ لِيُجَدِّدَ هَذَا الْمِيرَاثَ. قَامَ عَلَى أَكْتَافِ عُلَمَائِهِ أَجْيَالٌ تُزَاوِجُ بَيْنَ الْوَحْيِ وَالْعَقْلِ، كَمَا فَعَلَ شَيْخُهُ الْمُجَدِّدُ الإِمَامُ مُصْطَفَى الْمَرَاغِي، وقد شدَّدَ الإمامُ محمد مصطفى المراغي –  شيخُ الأزهرِ الأسبقُ –  على أنَّ الإسلامَ دينٌ ينهضُ بالعقولِ ويُنمِّيها، ويأمرُ أتباعَه بالبحثِ والنظرِ الصحيح، وأنه لا يمكن أن يقومَ دينُ اللهِ على الجمودِ أو تعطيلِ الفكر.

 التَّفَكُّرُ – يَا عِبَادَ اللَّهِ – لَيْسَ خَيَالًا هَائِمًا، بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَمِفْتَاحُ نُهُوضٍ، وَوَصْفَةُ حَيَاةٍ لِلْعُقُولِ وَالأُمَمِ. بِالتَّفَكُّرِ، تَتَّحِدُ مَعَانِي الإِيمَانِ وَتَتَجَدَّدُ، وَبِهِ تَسْتَيْقِظُ الْقُلُوبُ وَتَنْطَلِقُ الْعُقُولُ إِلَى آفَاقٍ أَرْحَبَ.

العُنْصُرُ الثالث: قِصَصٌ أَرْسَتْ دَعَائِمَ الْفِكْرِ وَالإِيمَانِ

إِخْوَةَ الإِيمَانِ، إِنَّ مَنْهَجَ الإِسْلَامِ فِي تَنْشِيطِ الْفِكْرِ لَمْ يَكُنْ نَظَرِيًّا فَقَطْ، بَلْ كَانَ مَشْهَدًا عَامِلًا تَجَلَّى فِي قَصَصٍ حَيَّةٍ رَسَمَتْ مَعَالِمَ الْهُدَى وَأَرْسَتْ دَعَائِمَ الْإِيمَانِ، فَهَلُمُّوا نُقَلِّبُ أَوْرَاقَهَا:

قِصَّةُ عُمَرَ وَآيَةُ “طَه” الَّتِي هَدَمَتْ جِبَالَ الْكُفْرِ

روى أهل السِّيَرِ أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – خَرَجَ يَوْمًا مُتَوَثِّبًا لِيَقْتُلَ مُحَمَّدًا ﷺ، فَسَمِعَ فِي طَرِيقِهِ أَخْتَهُ فَاطِمَةَ تَقْرَأُ: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه:1-2].

فَوَقَفَ مَذْهُولًا، وَكَأَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ تَدُقُّ جِدَارَ قَلْبِهِ، وَتَهُزُّ عَمُودَ فِكْرِهِ، فَصَاحَ: “دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ!”. فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ بَذْرَةَ إِيمَانٍ انْفَتَحَتْ بِهَا عَقْلِيَّتُهُ وَتَفَكُّرُهُ.

كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَفِيلَةٌ بِأَنْ تُحَوِّلَ مَسَارَ فِكْرٍ وَتُقِيمَ بِنَاءَ إِيمَانٍ.

قِصَّةُ الشَّافِعِيِّ وَوَرَقَةُ التُّوتِ: إِعْجَازُ الْخَالِقِ فِي أَبْسَطِ الْأَشْيَاءِ

سُئِلَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: “مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ؟” فَقَالَ: “وَرَقَةُ التُّوتِ، طَعْمُهَا وَاحِدٌ، تَأْكُلُهَا الدُّودَةُ فَتُخْرِجُ حَرِيرًا، وَتَأْكُلُهَا النَّحْلَةُ فَتُخْرِجُ عَسَلًا، وَتَأْكُلُهَا الشَّاةُ فَتُخْرِجُ بَعْرًا، وَتَأْكُلُهَا الظِّبَاءُ فَيَنْعَقِدُ فِي نَوَافِجِهَا الْمِسْكُ؛ فَمَنْ جَعَلَهَا كَذَلِكَ؟” تفسير ابن كثير ج1، ص312. التَّفَكُّرُ فِي سُنَنِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْعَقْلِ وَيُؤَدِّي إِلَى إِيمَانٍ رَاسِخٍ.

التفكُّرُ وحُجَّةُ السَّفينة: بُرهانُ أبي حنيفةَ على وُجودِ اللهِ

وعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلُوهُ عَنْ وُجُودِ الْبارِي تَعَالَى، فَقَالَ لَهُمْ: دَعُونِي فَإِنِّي مُفَكِّرٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أُخْبِرْتُ عَنْهُ، ذَكَرُوا لِي أَنَّ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ مُوقَرَةً، فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَتَاجِرِ، وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ يَحْرُسُهَا وَلَا يَسُوقُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا، وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاجَ الْعِظَامَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنْهَا، وَتَسِيرُ حَيْثُ شَاءَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسُوقَهَا أَحَدٌ. فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ، أَلَيْسَ لَهَا صَانِعٌ؟ فَبُهِتَ الْقَوْمُ، وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ، وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ. تفسير ابن كثير ج1، ص312.

قصة بكاء النبي ﷺ عند نزول آية التفكر في الكون

قَالَتْ عَائِشَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْفِرَاشِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُهُ فَوَجَدْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ، رَافِعًا يَدَيْهِ، وَهُوَ يَبْكِي حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ صَدْرَهُ، ثُمَّ بَلَّتْ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ بَلَّتِ الْأَرْضَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُبْكِيكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ وَلَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» (صحيح ابن حبان، ج2، ص386، ح620).

 خطبة الجمعة للدكتور أحمد رمضان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)

اُنْظُرُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – إِلَى هَذَا الْمَشْهَدِ الْمَهِيبِ! سَيِّدُ الْخَلْقِ ﷺ، الَّذِي غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ بَاكِيًا حَتَّى تَبْتَلَّ الْأَرْضُ مِنْ دُمُوعِهِ، كُلُّ ذَلِكَ حِينَ اسْتَشْعَرَ عَظَمَةَ آيَةٍ تَدْعُو لِلتَّفَكُّرِ فِي الْكَوْنِ وَآيَاتِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ.

يَا عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُتْلَى، بَلْ كَانَتْ مِفْتَاحًا لِإِشْعَالِ جَذْوَةِ الْفِكْرِ الإِيمَانِيِّ، وَنَافِذَةً تَفْتَحُ عَلَى الْعَقْلِ آفَاقَ التَّدَبُّرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

فَالتَّفَكُّرُ هُنَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إِدْرَاكِ الْبَصَرِ، بَلْ تَجَاوَزَهُ إِلَى إِبْصَارِ الْقَلْبِ الَّذِي يُعِيدُ تَشْكِيلَ الْفِكْرِ، وَيُحْيِي الضَّمِيرَ، وَيَرْبِطُ الْعَقْلَ بِرَبِّهِ فِي خُشُوعٍ وَانْقِيَادٍ.

وَهُنَا يُعَلِّمُنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ التَّفَكُّرَ الْحَقَّ يُوَلِّدُ الْبُكَاءَ وَالْخَشْيَةَ، وَالْخَشْيَةَ الْحَقَّةَ تُوَلِّدُ فِكْرًا أَعْمَقَ وَبَصِيرَةً أَصْفَى.

أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ الْمَعْصُومُ يَبْكِي عِنْدَ التَّفَكُّرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَيْفَ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ غَفَلَتْ قُلُوبُنَا وَجَمُدَتْ عُقُولُنَا؟!

إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تَرْسُمُ أَمَامَنَا مَعْلَمًا وَاضِحًا: أَنَّ تَنْميةَ الْفِكْرِ تَبْدَأُ مِنْ إِيقَاظِ الْقَلْبِ بِآيَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ تَحْوِيلِ النَّظَرِ فِي الْكَوْنِ إِلَى عِبَادَةٍ فِكْرِيَّةٍ تُعِيدُ صِيَاغَةَ عُقُولِنَا، وَتُوقِظُ الْبَصَائِرَ مِنْ سُبَاتِهَا.

وننتقل من سيد الخلق إلي فاروق هذه الأمة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسورة “الطور”.

وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْرُجُ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَعِسُّ فِي الْمَدِينَةِ، فَيَمُرُّ بِدَارِ رَجُلٍ يَقْرَأُ: ﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور: 1-8]، فَوَقَفَ عُمَرُ يَقُولُ: “قَسَمٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ حَقٌّ”، فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ، وَاسْتَنَدَ إِلَى حَائِطٍ، وَمَرِضَ شَهْرًا يَعُودُهُ النَّاسُ، لَا يَدْرُونَ مَا بِهِ (تفسير ابن كثير ج7، ص430).

كِلَا المَشْهَدَيْنِ يُؤَكِّدَانِ أَنَّ آيَةً تُتْلَى بِتَدَبُّرٍ أَقْوَى فِي بِنَاءِ الفِكْرِ وَتَحْوِيلِ المَسَارِ مِنْ مِئَاتِ الخُطَبِ وَالدُّرُوسِ؛ فَكَلِمَةٌ قُرْآنِيَّةٌ أَذَابَتْ جُمُودَ الفِكْرِ، وَصَوْتُ وَحْيٍ أَطَاحَ بِأَغْلَافِ الغَفْلَةِ، فَأَعَادَ العَقْلَ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَرَبَطَهُ بِرَبِّهِ.

أيها الأحبة، هكذا يبني الوحي العقول: آيةٌ توقظ قلبًا، فتفتح باب الفكر، وخشيةٌ تروي العقل، فتُنبتُ الحكمة، وهكذا وُلدت في مدرسة القرآن عقولٌ غيّرت مجرى التاريخ.

 جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَآيَةُ “أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ

يَقُولُ جُبَيْرٌ رضي الله عنه وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ:

سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:35]، فَكَادَ قَلْبِي أَنْ ينخلع، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي” (رواه البخاري (4854) واللفظ له، “وكاد قلبي يطير” للترمذي (3154)، وابن ماجه (1330)).

حُجَّةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَاحِدَةٌ كَفِيلَةٌ بِإِسْقَاطِ صُنَمِ الْجُحُودِ وَتَفْتِيقِ أَغْلِفَةِ الْقُلُوبِ.

حِوَارُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ حُصَيْنٍ وَإِثَارَةُ الْوِجْدَانِ بِالسُّؤَالِ

قال ﷺ: يا حُصينُ كم تعبدُ اليومَ إلهًا؟ قال: سبعةً؛ سِتًّا في الأرضِ وواحدًا في السَّماءِ، قال: فأيُّهم تعُدُّ لرغبتِك ورهبتِك؟ قال: الَّذي في السَّماءِ، قال: يا حُصينُ أما إنَّك لو أسلمتَ علَّمتُك كلِمتَيْن تنفعانك، قال: فلمَّا أسلم حُصينٌ قال: يا رسولَ اللهِ علِّمْني الكلمتَيْن اللَّتَيْن وعدتَني فقال: قُلِ اللَّهمَّ ألهِمْني رُشدي وأعِذْني من شرِّ نفسي” (رواه الترمذي: 3483)، وقال: حديث حسن

السُّؤَالُ النَّبَوِيُّ لَمْ يُلْزِمْهُ جِدَالًا، بَلْ أَثَارَ فِيهِ الْوِجْدَانَ وَوَجَّهَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَخْشَاهُ فِي السَّمَاءِ.

هَذِهِ الْقِصَصُ تَشْكُلُ مَنهَجًا بَلَاغِيًّا عَمِيقًا:

كَلِمَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ تُوقِظُ الْقَلْبَ.

سُؤَالٌ مُفَاجِئٌ يُحَرِّكُ الْعَقْلَ.

مَشْهَدٌ كَوْنِيٌّ يُثِيرُ الْإِدْرَاكَ.

وَهَذَا هُوَ دَرْبُ تَجْدِيدِ الْفِكْرِ الَّذِي يَبْنِي إِيمَانًا رَاسِخًا وَعُقُولًا نَيِّرَةً، فَيُقِيمُ الأُمَّةَ عَلَى أُسُسِ الْوَحْيِ وَالْحِكْمَةِ.

هَا نَحْنُ نَخْتِمُ خُطْبَتَنَا بِنِدَاءٍ يَسْتَنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُوقِظُ الْقُلُوبَ، وَيُحَرِّكُ الْعُقُولَ: إِنَّ الْفِكْرَ فِي الإِسْلَامِ لَيْسَ زِينَةً لِلْمَعْرِفَةِ فَقَطْ، بَلْ هُوَ جِسْرُ الْعُبُورِ إِلَى الإِيمَانِ الْعَمِيقِ، وَمِفْتَاحُ النُّهُوضِ وَبِنَاءِ الْحَضَارَةِ.

تَأَمَّلُوا –رَحِمَكُمُ اللَّهُ– كَيْفَ أَثَارَ الْقُرْآنُ الْعُقُولَ بِالسُّؤَالِ: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17]، وَكَيْفَ رَبَّى النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ عَلَى التَّفْكِيرِ بِالْحِوَارِ فِي قَوْلِهِ: “أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» (مسلم، ح2581)؛ فَشَحَذَ أَذْهَانَهُمْ، وَنَقَلَهُمْ مِنْ مَقَايِيسِ الدُّنْيَا إِلَى مِيزَانِ الآخِرَةِ.

إِنَّ الْإِسْلَامَ يَصْنَعُ مِنَ السُّؤَالِ جِسْرًا، وَمِنَ التَّفَكُّرِ مِصْبَاحًا، وَمِنَ الإِيمَانِ قُوَّةً دَافِعَةً، تَبْنِي الْأُمَّةَ وَتُحْيِي الْعُقُولَ وَتُصْلِحُ الْقُلُوبَ.

فَلَا يَكْفِي أَنْ نَكُونَ أُمَّةً تُكَرِّرُ مَحْفُوظَاتِهَا، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ أُمَّةً تَفْهَمُ وَتُجَدِّدُ وَتَبْنِي، عَلَى أُصُولِ الدِّينِ الْخَالِدَةِ فِكْرًا يُنِيرُ الْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ.

 أُمَّةٌ حَيَّةٌ بِعُقُولٍ نَيِّرَةٍ وَقُلُوبٍ مُوَقَّدَةٍ

 خطبة الجمعة للدكتور أحمد رمضان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها (بالتفكّر والإتقان تُبنى الأمّة)

تَذَكَّرُوا –عِبَادَ اللَّهِ– أَنَّ الْأُمَمَ لَا تَنْهَضُ بِالأَجْسَادِ الْقَوِيَّةِ وَحَسْبْ، بَلْ بِالْعُقُولِ الْمُتَفَكِّرَةِ، وَالْقُلُوبِ الْحَيَّةِ.

هَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قُوَّةِ الإِيمَانِ وَنُورِ الْعَقْلِ؛ فَالإِيمَانُ بِلَا تَدَبُّرٍ يَصِيرُ جُمُودًا، وَالْعَقْلُ بِلَا إِيمَانٍ يَصِيرُ شُرُودًا وَضَلَالًا.

اللَّهُمَّ أَحْيِ قُلُوبَنَا بِنُورِ ذِكْرِكَ، وَأَنْرِ عُقُولَنَا بِنُورِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ.

اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِالْحِكْمَةِ وَالْبَصِيرَةِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ يَتَدَبَّرُونَ آيَاتِكَ فَيَهْتَدُونَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْفِكْرِ الْمُسْتَنِيرِ وَالْعِلْمِ الرَّاسِخِ وَالْقَلْبِ الطَّاهِرِ.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ الذي جعلَ حِفظَ النَّفسِ من أعظمِ مقاصدِ الشريعةِ، وحرَّم الاعتداءَ عليها بأيِّ صورةٍ كانت، وجعلَها أمانةً عند صاحبِها، لا يملكُ التصرّفَ فيها إلا بما شرع الله.

نحمدُه سبحانه وتعالى ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيّئاتِ أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

العنصر الرابع: حِفْظُ النَّفْسِ

إيْهَا الأَحِبَّةُ، حِفْظُ النَّفْسِ، هذِهِ النَّفْسِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، وَالَّتِي هِيَ سِرُّ حَيَاتِكَ، وَالَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشَّمْس:7: 10].

حِفْظُ النَّفْسِ مَقْصِدٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ

أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لَقَدْ عَظَّمَ الإِسْلَامُ شَأْنَ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، فَجَعَلَهَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الخَمْسِ الَّتِي لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا بِهَا. قَالَ الشَّاطِبِيُّ: «الضَّرُورِيَّاتُ الَّتِي لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا بِهَا خَمْسَةٌ: حِفْظُ الدِّينِ، وَحِفْظُ النَّفْسِ، وَحِفْظُ العَقْلِ، وَحِفْظُ النَّسْلِ، وَحِفْظُ المَالِ» (المُوَافَقَاتُ 2/20).

قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المَائِدَة: 32].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ». وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «إِزْهَاقُ رُوحِ المُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَهَابِ المُلكِ وَزَوَالِ الدُّنْيَا» (فَتْحُ البَارِي 12/200).

أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِذَا كَانَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الغَيْرِ جَرِيمَةً عَظِيمَةً، فَمَا بَالُ مَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ أَوْ يَسْتَهِينُ بِهَا بِالتَّهَوُّرِ؟! أَلَيْسَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّحْذِيرِ وَالزَّجْرِ؟!

الاِنْتِحَارُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، لَقَدْ جَاءَ الإِسْلَامُ بِتَحْرِيمِ الاِنْتِحَارِ تَحْرِيمًا قَاطِعًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ [النِّسَاء: 29: 30].

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (109): قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا”.

وَفِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي جَرَحَ نَفْسَهُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَمَاتَ مُنْتَحِرًا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هُوَ فِي النَّارِ» (مُسْلِمٌ 111). فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شِدَّةَ البَلَاءِ لَا تُبَرِّرُ قَتْلَ النَّفْسِ.

التَّهَوُّرُ فِي القِيَادَةِ صُورَةٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ

مَعَاشِرَ الأَحِبَّةِ، وَمِنْ صُوَرِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ اليَوْمَ مَا نَرَاهُ مِنَ التَّهَوُّرِ فِي القِيَادَةِ: سُرْعَةٍ مُفْرِطَةٍ، وَاسْتِهْتَارٍ بِالإِشَارَاتِ، وَتَجَاوُزٍ عَلَى الآخَرِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البَقَرَة: 195].

وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ (2465) وَمُسْلِمٌ (2121): أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ»، أَيْ بِالِانْضِبَاطِ وَالِالْتِزَامِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يُحَوِّلُ الطَّرِيقَ إِلَى سَاحَةِ هَلَاكٍ لِلأَنْفُسِ وَالأَرْوَاحِ؟!

وَكَمْ مِنْ حَوَادِثَ أَلِيمَةٍ أَزْهَقَتْ أَرْوَاحًا بَرِيئَةً، وَكَمْ مِنْ طِفْلٍ تَيَتَّمَ، وَأُمٍّ تَرَمَّلَتْ بِسَبَبِ سُرْعَةٍ زَائِدَةٍ! فَلَيْتَ شِعْرِي، أَيُّ جَهْلٍ بَعْدَ هَذَا؟!

وَسَائِلُ حِفْظِ النَّفْسِ وَمَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ

بِالقِصَاصِ: قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البَقَرَة: 179].

وَبِالوِقَايَةِ الصِّحِّيَّةِ: قَالَ ﷺ: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ» (البُخَارِيُّ 5707).

وَبِالوَصِيَّةِ بِالسَّلَامَةِ وَالأَخْذِ بِالأَسْبَابِ: قَالَ ﷺ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (التِّرْمِذِيُّ 2517).

فَكُلُّ ذَلِكَ وَسَائِلُ لِحِمَايَةِ النَّفْسِ، وَتَحْقِيقِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ الأَعْظَمِ.

فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَاحْفَظُوا هَذِهِ النُّفُوسَ الَّتِي أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهَا، وَلَا تُعَرِّضُوهَا لِلتَّهْلُكَةِ لَا بِالاِنْتِحَارِ وَلَا بِالتَّهَوُّرِ، وَلَا بِالتَّعَدِّي عَلَى الغَيْرِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الإِسْرَاء: 33].

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا زَلَّاتِنَا، وَاجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.

المراجع: القرآن الكريم

كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، سنن النسائي، مسند أحمد، شعب الإيمان للبيهقي، المعجم الكبير للطبراني.

ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تفسير ابن كثير، جامع البيان للطبري، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي، شعب الإيمان للبيهقي، الزهد أحمد بن حنبل، سير أعلام النبلاء للذهبي، الدر المنثور للسيوطي، إحياء علوم الدين للغزالي، التوكل على الله ابن أبي الدنيا.

د. أحمد رمضان

 

خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان

 

 _______________________________

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة

 

وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة

 

تابعنا علي الفيس بوك

 

الخطبة المسموعة علي اليوتيوب

 

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات

 

وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة

 

للمزيد عن أخبار الأوقاف

 

-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف

 

وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف

 

اظهر المزيد

كتب: د.أحمد رمضان

الدكتور أحمد رمضان حاصل علي الماجستير من جامعة الأزهر بتقدير ممتاز سنة 2005م ، وحاصل علي الدكتوراه بتقدير مع مرتبة الشرف الأولي من جامعة الأزهر الشريف سنة 2017م. مؤسس جريدة صوت الدعاة ورئيس التحرير وكاتب الأخبار والمقالات المهمة بالجريدة، ويعمل بالجريدة منذ 2013 إلي اليوم. حاصل علي دورة التميز الصحفي، وقام بتدريب عدد من الصحفيين بالجريدة. للتواصل مع رئيس التحرير على الإيميل التالي: ahmed_dr.ahmed@yahoo.com رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) للمزيد عن الدكتور أحمد رمضان رئيس التحرير أضغط في القائمة علي رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى