أخبار مهمةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةخطبة الجمعة خطبة الأسبوع ، خطبة الجمعة القادمة، خطبة الاسبوع، خطبة الجمعة وزارة الأوقافعاجل

خطبة بعنوان: “أمانة الصانع والتاجر وأثرها في صلاح الفرد والمجتمع”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 27 من جمادي الأولى 1438هـ – 24 فبراير 2017م

خطبة بعنوان: “أمانة الصانع والتاجر وأثرها في صلاح الفرد والمجتمع“، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 27 من جمادي الأولى 1438هـ – 24 فبراير 2017م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

 

 

ولقراءة الخطبة كما يلي:  

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: منزلة الأمانة وأنواعها

العنصر الثاني: أمانة الصانع والتاجر قصص وعبر

العنصر الثالث: أمانة الصانع والتاجر وأثرها في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول

المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: منزلة الأمانة وأنواعها

عباد الله: الأمانة من أبرز أخلاق الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب يخبرنا الله عز وجل في سورة الشعراء أن كل واحد منهم قد قال لقومه : {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}( الشُّعراء: 107)، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أمين الله في الأرض على الرسالة، فهو الذي يبلغ عن ربه هذا الدين العظيم، وقد كانوا يتركون ودائعهم عنده صلى الله عليه وسلم ليحفظها لهم؛ فقد عُرِفَ الرسول بصدقه وأمانته بين أهل مكة، فكانوا يلقبونه قبل البعثة ( بالصادق الأمين ) ؛ وحينما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة، ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ليعطي المشركين الودائع والأمانات التي تركوها عنده، وجبريل عليه السلام أمين وحي السماء، فقد وصفه الله بذلك في قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }( الشُّعراء: 192 ؛ 193)، وأمانة موسى وقوته هي التي دفعت إحدى ابنتي شعيب إلى استئجاره لرعي أغنامهم,{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}( القصص: 26)، ويوسف الصديق- عليه السلام -لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعلمه وأمانته أيضاً، قال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(يوسف:55)، وامتدح عباده المؤمنين بقوله:{وَالَّذِينَ هُم لأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ}(المعارج:32).

أحبتي في الله: إن تحمل الأمانة أمر ليس بالهين اللين كما يعتقده الكثيرون، ولخطورة التفريط في الأمانة أبت السماوات والأرض والجبال حملها، ” فعن الحسن -يعني: البصري -أنه تلا هذه الآية:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ}(الأحزاب:72)، قال: عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جُزِيت، وإن أسأت عوقبت. قالت: لا. ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد، التي شدت بالأوتاد، وذللت بالمهاد، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. قالت: لا. ثم عرضها على الجبال الشوامخ الصعاب الصلاب، قيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت: لا. فقال لآدم: إني قد عرضتُ الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحمَّلها، فذلك قوله: { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا }أي: ظلم نفسه بحمله إياها، جاهلاً حق الله فيها”.( تفسير ابن كثير).

أيها الإخوة المؤمنون: لقد أمرنا الله بأداء الأمانات فقال:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ( النساء: 58)

جاء في سبب نزول الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، ليأخذ منه المفتاح فاختبأ عثمان فوق الكعبة، فتبعه علىٌّ وأخذ منه المفتاح عنوة، وفتح الباب، فدخل رسول الله البيت وصلى فيه ركعتين، فقام إليه العباس، ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أين عثمان بن طلحة؟” فدعي له، فأمر رسول الله عليًّا أن يرد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ويعتذر إليه، ففعل ذلك عليٌّ، فقال له: “هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء ” فقال له عثمان: يا عليّ أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال: لقد أنزل الله في شأنك قرآناً، وقرأ عليه هذه الآية.( تفسير ابن كثير)، وتكريماً لشأن عثمان والمفتاح والأمانة، خصه صلى الله عليه وسلم وذريته من بعده بسدانة البيت والمفتاح فقال: ” خُذُوهَا يَا بني طَلْحَةَ خَالِدَةً تالدةً لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ، يَعْنِي حِجَابَةَ الْكَعْبَةِ.”( مجمع الزوائد) ولما مات عثمان سلمه لابنه شيبه ومازال المفتاح حتى يومنا هذا في بني شيبة !!

بل إن النبي أخبر عثمان بن طلحة أن المفتاح يؤل إليه يضعه حيث شاء، وذلك لما منعه عثمان بن طلحة من دخول البيت  قبل الهجرة. فقد ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطّبَقَاتِ ” عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: كُنّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النّاسِ فَأَغْلَظْتُ لَهُ وَنِلْتُ مِنْهُ فَحَلُمَ عَنّي ثُمّ قَالَ:” يَا عُثْمَانُ لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت” فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلّتْ. فَقَالَ: “بَلْ عَمَرَتْ وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ”، وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَى مَا قَالَ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ :”يَا عُثْمَانُ ائْتِنِي بِالْمِفْتَاحِ” فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَأَخَذَهُ مِنّي ثُمّ دَفَعَهُ إلَيّ وَقَالَ :”خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلّا ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ إنّ اللّهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ فَكُلُوا مِمّا يَصِلُ إلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ” قَالَ فَلَمّا وَلّيْت نَادَانِي فَرَجَعْتُ إلَيْهِ فَقَالَ :” أَلَمْ يَكُنْ الّذِي قُلْتُ لَكَ؟” قَالَ فَذَكَرْت قَوْلَهُ لِي بِمَكّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ: لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت، فَقُلْتُ: بَلَى أَشْهَدُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ.”

أيها الإخوة الأحباب: لو سألنا كل الحاضرين ما هي الأمانة؟ لأجاب الجميع أنها رد الودائع والأمانات إلى أصحابها، وهذا فهم قاصر لمعنى الأمانة، فالأمانة ليست كما يعتقده كثير من الناس أنها تتعلق بالودائع وحفظ الأمتعة والأموال لحين عودة صاحبها ثم يردها له أو ينكرها، لكن الأمانة أشمل من ذلك وأعظم منه بكثير، فالدين الذي منَّ الله به عليكم أمانة في أعناقكم، جسدك أمانة، أبناؤك أمانة، زوجتك أمانة، مالك أمانة، وظيفتك وعملك أمانة، وطنك أمانة،كل ما يتعلق بك أمانة.

الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من شعائر الدين أمانة، من فرط في شيء منها أو أخل به فهو مفرط فيما ائتمنه عليه ربه تبارك وتعالى، البصر أمانة، والسمع أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، واللسان أمانة، والعقل أمانة؛ والفرج والبطن وغير ذلك أمانة عندك، فلا تأتي الحرام من قبل ذلك، وإلا أصبحت مفرطاً فيما ائتمنت عليه، واحذر أن تكون هذه الجوارح شاهدة عليك يوم القيامة إن فرطت فيها، يقول الحق تبارك وتعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النور: 24).

ومن معاني الأمانة -أيضاً- وضع كل شيء في مكانه اللائق به، قال أبو ذر رضي الله عنه: رسول الله: ألا تستعملني؟ يعني ألا تجعلني والياً أو أميراً أو رئيساً لك على إحدى المدن. قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال:”يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها “(مسلم).

وتبليغ هذا الدين أمانة أيضاً، فالرسل أمناء الله على وحيه، قال صلى الله عليه وسلم :” أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً )(متفق عليه). وكذلك كل من جاء بعدهم من العلماء والدعاة، فهم أمناء في تبليغ هذا الدين.

 والعرض أمانة، فيجب عليك أن تحفظ عرضك ولا تضيعه، فتحفظ نفسك من الفاحشة، وكذلك كل من تحت يدك، وتحفظهم عن الوقوع فيها، قال أبي كعب رضي الله عنه: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على حفظ فرجها.

والولد أمانة ، فحفظه أمانة ، ورعايته أمانة ، وتربيته أمانة . والسر أمانة، وإفشاؤه خيانة، والكلمة أمانة. والبيع والشراء أمانة، فالمسلم لا يغِشُّ أحدًا، ولا يغدر به ولا يخونه. والأمة في أيدي المسئولين والحاكمين أمانة، فإن قاموا بما يجب عليهم نحوها من نصح ورعاية وصيانة لكرامتها وحريتها أو أقاموها على شريعة الله كانوا أمناء أوفياء.

والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف به والقيام عليه وأداء الحقوق الاجتماعية فيه كانوا أمناء أوفياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وإلا  كانوا خونة ظالمين وسفهاء مبذرين.

أحبتي في الله: نجد الأمانة تنظم شؤون الحياة كلها: من عقيدة وعبادة وأدب ومعاملة وتكافل اجتماعي وسياسة حكيمة رشيدة وخلق حسن كريم؛ وإذا كانت الأمانة تشمل جميع مجالات الحياة القولية والفعلية والدينية والدنيوية؛ فإننا نقتصر في هذا اللقاء على أمانة الصانع والتاجر لما لها من أهمية بالغة في استقامة وصلاح وبناء الفرد والمجتمع – ولا سيما في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد- وهذا ما سنعرفه من خلال العنصرين التاليين إن شاء الله تعالى.

العنصر الثاني: أمانة الصانع والتاجر قصص وعبر

عباد الله: هناك صور مشرقة لسلفنا الصالح في أمانة التجارة والصناعة والبيع والشراء؛ نذكرها أهما لنأخذ منها العظة والعبرة ومن ذلك:

الأمانة في البيع والشراء: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا”( متفق عليه ).

فانظر إلى ورع كل من البائع والمشتري!! كلاهما يتورع عن جرة الذهب!! البائع يقول: بعتك الأرض بما فيها !! والمشتري يقول: اشتريت الأرض دون ما فيها!! تخيل لو حدثت هذه الواقعة في زماننا هذا لقامت من أجل هذا الذهب حروب وقتال؛ وراح ضحيته أروح عديدة!!

ومن صور الأمانة في البيع والشراء: ما روي ” أن أحد التجار الأمناء خرج في سفر له، وترك أحد العاملين عنده ليبيع في متجره، فجاء رجل يهودي واشتري ثوبًا كان به عيب. فلما حضر صاحب المتجر لم يجد ذلك الثوب، فسأل عنه، فقال له العامل: بعته لرجل يهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم يطلع علي عيبه. فغضب التاجر وقال له: وأين ذلك الرجل؟ فقال: لقد سافر.  فأخذ التاجر المسلم المال، وخرج ليلحق بالقافلة التي سافر معها اليهودي، فلحقها بعد ثلاثة أيام، فسأل عن اليهودي، فلما وجده قال له: أيها الرجل! لقد اشتريت من متجري ثوبًا به عيب، فخذ دراهمك، وأعطني الثوب. فتعجب اليهودي وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال التاجر: إن ديني يأمرني بالأمانة، وينهاني عن الخيانة، فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا” (مسلم)،  فاندهش اليهودي وأخبر التاجر بأن الدراهم التي دفعها للعامل كانت مزيفة، وأعطاه بدلاً منها، ثم قال: لقد أسلمت لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.” هذه رسالة للتجار والبائعين والغشاشين أن يتقوا الله ويكونوا أمناء في تجارتهم وبيعهم وشرائهم!!

ومنها: الأمانة في التجارة: وذلك بالنصح للمشتري وتبيين العيوب التي بالسلعة المباعة؛ وهذا دأب الصالحين الورعين الناصحين الأمناء.

وقد ذكر الإمام الغزالي في الإحياء عدة صور مشرقة للأمانة في التجارة :” فَيُروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت!! أما اتقيت الله!!! تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين!! فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها!! قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك؟!!

وباع ابن سيرين شاة فقال للمشتري: أبرأ إليك من عيب فيها إنها تقلب العلف برجلها .

وباع الحسن بن صالح جارية فقال للمشتري: إنها تنخمت عندنا دماً.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع جريراً على الإسلام ذهب لينصرف فجذب ثوبه واشترط عليه النصح لكل مسلم، فكان جرير إذا قام إلى السلعة يبيعها بصر عيوبها ثم خيره وقال: إن شئت فخذ وإن شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.

وكان واثلة بن الأسقع واقفاً فباع رجل ناقةً له بثلثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقباً قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقضها البائع مائة درهم وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.!! ……يقول الإمام أبو حامد الغزالي بعد سرده لهذه الصور: فهكذا كانت سيرة أهل الدين، فمن لا يقدر عليه فليترك المعاملة أو ليوطن نفسه على عذاب الآخرة”.  ( إحياء علوم الدين)

ومنها الأمانة في الصناعة: فقد كان السلف الصالح – رضي الله عنهم – يهتمون بإتقان الصنائع وتجويدها!! يقول الإمام الغزالي – رحمه الله -: ” والغش حرام في البيوع والصنائع جميعاً، ولا ينبغي أن يتهاون الصانع بعمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه، بل ينبغي أن يحسن الصنعة ويحكمها، ثم يبين عيبها إن كان فيها عيب، فبذلك يتخلص. وسأل رجل حذاء بن سالم فقال: كيف لي أن أسلم في بيع النعال؟ فقال : اجعل الوجهين سواء، ولا تفضل اليمنى على الأخرى وجوِّد الحشو، وليكن شيئاً واحداً تاماً، وقارب بين الخرز، ولا تطبق إحدى النعلين على الأخرى.

ومن هذا الفن ما سئل عنه أحمد بن حنبل رحمه الله من الرفو بحيث لا يتبين؟!! فقال: لا يجوز لمن يبيعه أن يخفيه، وإنما يحل للرفا إذا علم أنه يظهره أو أنه لا يريده للبيع!!”. ( إحياء علوم الدين)

ومنها: الأمانة في الحراسة والعمل: فقد روي أنه ” في أحد الأيام كان هناك حارس بستان، دخل عليه صاحب البستان وطلب منه أن يحضر له رمانة حلوة الطعم فذهب الحارس وأحضر حبة رمان وقدمها لسيد البستان، وحين تذوقها الرجل وجدها حامضة، فقال صاحب البستان: قلت لك أريد حبة حلوة الطعم، أحضر لي رمانة أخرى، فذهب الحارس مرتين متتاليتين وفي كل مرة يكون طعم الرمان الذي يحضره حامضاً، فقال صاحب البستان للحارس مستعجباً: إن لك سنة كاملة تحرس هذا البستان، ألا تعلم مكان الرمان الحلو ؟!! فقال حارس البستان: إنك يا سيدي طلبت مني أن أحرس البستان لا أن أتذوق الرمان،كيف لي أن اعرف مكان الرمان الحلو؟!! فتعجب صاحب البستان من أمانة هذا الرجل، وأخلاقه، فعرض عليه أن يزوجه ابنته، وتزوج هذا الرجل من تلك الزوجة الصالحة، وكان ثمرة هذا الزواج هو: عبد الله ابن المبارك الزاهد العابد”

وروي أن المبارك كان يعمل في بستان لمولاه وأقام فيه زماناً، ثم إن مولاه جاءه يوما وقال له: أريد رماناً حلواً، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً فكسره فوجده حامضاً، فحرد عليه ( أي غضب) فقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟!! هات حلواً، فمضى وقطع من شجرة أخرى، فلما كسره وجده أيضاً حامضاً فاشتد حرده عليه، وفعل كذلك دفعة ثالثة، فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟! فقال: لا، فقال: كيف ذلك؟! فقال: لأنني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه، فقال: ولم لم تأكل؟! قال: لأنك ما أذنت لي، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه وزوّجه ابنته، ورزقه الله منها عبد الله بن المبارك الذي امتلأت الكتب والمؤلفات بذكره إلى يومنا هذا !!( وفيات الأعيان لابن خلكان)

انظر إلى ورع هؤلاء الصالحين الأمناء!! وانظر في واقعنا المعاصر إلى حال الحراس والعمال الذين استعملتهم الدولة على الأموال والخزائن؛ وانظر إلى الشركات الخاصة والعامة وما يجري فيها من سلب ونهب وسرقة وخيانة !! فهذه رسالة قوية لحراس المزارع والمصانع والشركات والمؤسسات الحكومية!!

ومنها: الأمانة في القرض والمداينة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟! قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا”(البخاري)، هذا حالهم، أما حالنا فيقول: ” السلف تلف والرد خسارة “، انظر لو أسلفت رجلاً مبلغاً من المال، يماطلك ثم يخاصمك ويتجنبك إن طالبته، وتصير قطيعة بينكما بسبب معروفٍ قدمته له!!!

ومنها: الأمانة في تحري أكل الحلال: فروى أنه : “بينما كان رجل يسير بجانب بستان وجد تفاحة ملقاة على الأرض، فتناول التفاحة وأكلها، ثم حدثته نفسه بأنه أتى على شيء ليس من حقه، فأخذ يلوم نفسه، وقرر أن يرى صاحب هذا البستان، فإما أن يسامحه في هذه التفاحة أو أن يدفع له ثمنها، وذهب الرجل لصاحب البستان وحدثه بالأمر، فاندهش صاحب البستان لأمانة الرجل وقال له: لن أسامحك في هذه التفاحة إلا بشرط أن تتزوج ابنتي، واعلم أنها خرساء عمياء صماء مشلولة، إما أن تتزوجها وإما لن أسامحك في هذه التفاحة، فوجد الرجل نفسه مضطراً يوازي بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فوجد نفسه يوافق على هذه الصفقة، وحين حانت اللحظة التقى الرجل بتلك العروس، وإذ بها آية في الجمال والعلم والتقى، فاستغرب كثيراً، لماذا وصفها أبوها بأنها صماء مشلولة خرساء عمياء؟! فقال أبوها: إنها عمياء عن رؤية الحرام، خرساء صماء عن قول وسماع ما يغضب الله، وقدماها مشلولة عن السير في طريق الحرام، وتزوج هذا الرجل بتلك المرأة وكان ثمرة هذا الزواج: الإمام أبو حنيفة.”

هكذا كان سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – حريصين على تحري الحلال؛ وكانت المرأة توصي زوجها وتقول له إذا خرج إلى سوق العمل للتجارة أو الصناعة: اتق الله ولا تطعمنا حراماً فإننا نصبر على نار الجوع ولا نصبر على نار جهنم!!

أما نحن فنجمع المال من التجارة والصناعة ولا نبالي أمن حلال أم من حرام؟!! المهم جمع المال !! وهذا من علامات الساعة كما أخبر بذلك المصطفى – صلى الله عليه وسلم- . فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ؟!!”(البخاري)؛ وهذا ما سنعرفه بالتفصيل في عنصرنا التالي إن شاء الله تعالى.

العنصر الثالث: أمانة الصانع والتاجر وأثرها في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول

عباد الله: إن من ينظر إلى واقعنا المعاصر يجد أن الأمناء من الصُنَّاع والتجار قلة؛ فكثيرٌ منا معه أموال فائضة عن حاجاته ومع ذلك لا يقدم على التعامل مع الآخرين كشركة أو استثمار ماله أو إعطائه لمن يتجر به لانعدام الثقة بين أفراد المجتمع؛ لذلك تجد صفات التاجر المسلم تكاد تكون منعدمة في أسواقنا إلا من رحم الله؛ وقليل ما هم !!!

أحبتي في الله: لقد ضعفت الأمانة، وقل التعامل بين الناس بها، حتى لا تكاد ترى رجلاً أميناً تأمنه على مالك أو سرك أو غير ذلك، قال عبد الله بن مسعود: أتى على الناس زمان كان الرجل يدخل السوق ويقول: من ترون لي أن أعامل من الناس؟ فيقال له: عامل من شئت. ثم أتى زمان آخر كانوا يقولون: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً، ثم أتى زمان آخر فكان يقال: لا تعامل أحداً إلا فلاناً وفلاناً، وأخشى أن يأتي زمان يذهب هذا أيضاً. وكأنه قد كان الذي كان يحذر أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.” (إحياء علوم الدين).

إن الواحد منا إذا أراد أن يصنع شيئاً لنفسه خاصة؛ فإنه يتقنه ويجوده ويخرجه في أبهى صورة وأجملها وأكملها؛ أما إذا كان يعمل لغيره أو أجيراً أو في شركه فإنه يعمل بلا ضمير ولا أمانة ولا إتقان؛ وإليكم قصة رائعة تعبر عن هذا الواقع المرير !!

يروى أن هناك رجلا بناء يعمل في إحدى الشركات لسنوات طويلة؛ فبلغ به العمر أن أراد أن يقدم استقالته ليتفرغ لعائلته؛ فقال له رئيسه: سوف أقبل استقالتك بشرط, أن تبني منزلا أخيراً ..؛ فقبل رجل البناء العرض؛ وأسرع في تخليص المنزل دون (( تركيز وإتقان)) ؛ ثم سلم مفاتيحه لرئيسه ..فابتسم رئيسه وقال له: هذا المنزل هدية منِّي لك بمناسبة نهاية خدمتك للشركة طوال السنوات الماضية؛ فَصُدِمَ رجل البناء؛ وندم بشدة أنه لم يتقن بناء منزل العمر!!

أقول: لماذا تَرضَى للآخرين ما لا ترضاه لنفسك؟!! لماذا تهتم بعملك الخاص ونفعه خاص غير متعدٍّ، ولا تهتم بأعمال الآخرين والوظائف العامة ونفعها يعم الآخرين؟!! لماذا لا تكون أميناً على كل ما تقوم به من أعمال؟!! ألا ما أحوجنا إلى الأمانة والمراقبة ويقظة الضمير !!!

وما أجمل قول الإمام الغزالي – رحمه الله -:” الغش حرام في البيوع والصنائع جميعاً، ولا ينبغي أن يتهاون الصانع بعمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه، بل ينبغي أن يحسن الصنعة ويحكمها، ثم يبين عيبها إن كان فيها عيب، فبذلك يتخلص”. (إحياء علوم الدين)

أحبتي في الله: إن ضياع الأمانة في أسواق التجارة والصناعة من علامات الساعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يُحدِّثُ القومَ، جاءَهُ أعرابيٌّ فقال: مَتَى السَّاعَةُ ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فقال بعض القوم: سَمِعَ ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يَسمع، حتَّى إذا قَضَى حديثَه، قال:” أين السائل عن الساعة؟ ” قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ” إذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظر الساعة” قال: كيف إضاعتُها يا رسول الله؟ قال:” إذا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غير أهله فانتظر السَّاعة”( البخاري)، إنه مؤشر خطير ودقيق على ضياع أساس الصلاح في النفوس، فماذا يبقى للناس إذا فقدوا الأمانة بينهم؟! فخانوا الله في دينهم، وخانوه في أعمالهم، وخانوه في حوائج الناس الذين استأمنوهم على قضائها، لقد أصبح فئام من مجتمعنا بعد أن استرعاهم الله على بعض أمورنا يتفننون في التهرب من أداء أمانتهم الملقاة على عواتقهم، ويتباهون بأخذ رواتبهم من غير تعب ولا نصب، بل ويجاهرون بتحصيل الأموال الطائلة في تجارتهم بالغش والتحايل.

لقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بضياع الأمانة تدريجياً حتى يمحى أثرها من قلوب الرجال، فعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ :” إِنَّ الأَمانَةَ نزلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ نزلَ القرآنُ ، فَعَلِمُوا مِنَ القرآنِ ، وعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ . ثُمَّ حَدَّثَنا عن رَفْعِ الأَمانَةِ ؛ فقال : يَنامُ الرجلُ النَّوْمَةَ ، فَتُقْبَضُ الأَمانَةُ من قلبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُها مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ ثُمَّ ينامُ الرجلُ النَّوْمَةَ ، فَتُقْبَضُ الأَمانَةُ من قلبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُها مِثْلَ أَثَرِ المَجْلِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ على رِجْلِكَ فَنَفِطَ ، فتراهُ مُنتبرًا وليسَ فيهِ شيءٌ ، ثُمَّ أَخَذَ حَصاةً فَدَحْرَجَهُ على رِجْلِه؛ فَيُصْبِحُ الناسُ يَتَبايَعُونَ لا يَكَادُ أحدٌ يُؤَدِّي الأَمانَةَ ، حتى يقالَ : إِنَّ في بَنِي فُلانٍ رجلًا أَمِينًا ، حتى يقالَ لِلرَّجُلِ : ما أَظْرَفَهُ ! ما أَعْقَلهُ ! وما في قلبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ من إِيمانٍ”. (متفق عليه). وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فأين الأمانة اليوم؟!  يقول الإمام النووي: ” إِنَّ الْأَمَانَة تَزُول عَنْ الْقُلُوب شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا زَالَ أَوَّل جُزْء مِنْهَا زَالَ نُورهَا وَخَلَفَتْهُ ظُلْمَة كَالْوَكْتِ وَهُوَ اِعْتِرَاض لَوْن مُخَالِف لِلَّوْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا زَالَ شَيْء آخَر صَارَ كَالْمَجْلِ وَهُوَ أَثَر مُحْكَم لَا يَكَاد يَزُول إِلَّا بَعْدَ مُدَّة، وَهَذِهِ الظُّلْمَة فَوْقَ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ شَبَّهَ زَوَال ذَلِكَ النُّور بَعْدَ وُقُوعه فِي الْقَلْب وَخُرُوجه بَعْدَ اِسْتِقْرَاره فِيهِ وَاعْتِقَاب الظُّلْمَة إِيَّاهُ بِجَمْرٍ يُدَحْرِجهُ عَلَى رِجْله حَتَّى يُؤَثِّر فِيهَا ثُمَّ يَزُول الْجَمْر وَيَبْقَى التَّنَفُّط، وَأَخْذه الْحَصَاة وَدَحْرَجَتِهِ إِيَّاهَا أَرَادَ بِهَا زِيَادَة الْبَيَان وَإِيضَاح الْمَذْكُور.”( صحيح مسلم بشرح النووي).

أخي المسلم: إنك لو جئت وغربلتَ الناس لتخرج الصالح من الطالح والأمين من الخائن لما وجدت في الغربال شيئاً إلا حثالة، وهذا ما أنبأنا به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ، قَالَ: كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ، يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، فَاخْتَلَفُوا، وَكَانُوا هَكَذَا؟ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالُوا: كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَوَامِّكُمْ” (صحيح سنن أبي داود – الألباني)، والحثالة هم سفلة الناس وغوغاؤهم، وقوله عليه الصلاة والسلام: (مرجت عهودهم) أي اختلطت عهودهم وفسدت، وضيّعها أصحابها، وقد دلّت الآثار على أن رفع الأمانة من قلوب الرّجال يُعدّ من أوائل مظاهر الخلل في بنيان المجتمعات، وبداية الانحراف والتغيير في قيمها وأخلاقها، وشاهد ذلك من بطون السنّة ما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما يبقى الصلاة” ( مجمع الزوائد)

أيها المسلمون : أمر الأمانة عظيم، وخطرها كبير، فلقد استهان كثير من الناس اليوم بأمر الأمانة حتى أضحوا لا يلقون لها بالاً، ولا يقيمون لها وزناً، وذلك ناتج عن سوء فهم لمعنى الأمانة وما يترتب على تضييعها والتفريط فيها من العذاب والعقاب.

فبادر يا عبد الله بالأمانة في التجارة إذا كنت تاجرا؛ وبادر بالأمانة في الصناعة إذا كنت صانعا؛ حتى لا تقع في زمرة الخائنين وتحمل الأمانة على عاتقك في الآخرة حتى تؤديها لصاحبها، فعن ابنِ مسعودٍ قال : القتلُ في سبيلِ اللهِ يكفِّرُ الذُّنوبَ كلَّها إلَّا الأمانةَ ، قال : يؤتَى بالعبدِ يومَ القيامةِ وإنْ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ ، فيقالُ : أدِّ أمانتَكَ ، فيقولُ : أي ربِّ ! كيف وقد ذهبتِ الدُّنيا ؟ قال : فيقالُ : انطلقوا به إلى الهاويةِ ، فيُنطلَقُ به إلى الهاويةِ ، وتمثلُ له أمانتُهُ كهيئتِها يومَ دُفِعَتْ إليه ، فيراها فيعرفَها ، فيهوِي في أثَرِها حتَّى يدركَها فيحملَها على منكبيهِ ، حتَّى إذا نظر ظنَّ أنَّه خارجٌ زلَّتْ عن منكبيهِ ، فهو يهوي في أثرِها أبدَ الآبدينَ ، ثمَّ قال : الصَّلاةُ أمانةٌ ، والوضوءُ أمانةٌ ، والوزنُ أمانةٌ ، والكيلُ أمانةٌ وأشياءٌ عدَّدها ، وأشدُّ ذلك الودائعُ . قال يعني زاذانُ : فأتيتُ البراءَ بنَ عازبٍ فقلتُ : ألا ترَى إلى ما قال ابنُ مسعودٍ ؟ قال : كذا . قال : كذا . قال : صدقَ ، أما سمعتَ اللهَ يقولُ : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}”!! (شعب الإيمان للبيهقي بسند حسن)، فالشهادة أعلى المراتب ومع ذلك لم تشفع ولم تغن عن الأمانة. وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَيقالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ(متفق عليه)، فراجع نفسك وأد الأمانة قبل أن يرفع لواء غدرك، فتفضح على الملأ أمام الخلائق يوم القيامة.

لذلك يبعث الخائنون من التجار يوم القيامة فجاراً؛ فعن رِفَاعَةَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ:” يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ:” إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ”؛( الطبراني وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح).

عباد الله: إن ضعف الأمانة له أثره السيء على الفرد والمجتمع؛ فكم من بيوت وعمارات وأبراج هدمت بسبب خيانة المقاولين والبنائين؛ وكم من أرواح ماتت في تصادم قطارات السكك الحديدية بسبب عدم جودة الصناعة والخدمة؛ وكم من طرق وكباري هبطت وسقطت بسبب خراب الذمم وخيانة وسرقة المقاولين!! وكم من أرواح غرقت في البحار بسبب سوء صنع العبارات والسفن والبواخر !! وكم من مساجد ومعاهد ومستشفيات ومؤسسات انهار بنيانها بسبب قلة الضمير وسرقة مواد البناء وتسليم المباني دون المواصفات المطلوبة!! وهلم جراً في جميع مجالات الحياة!!!

أيها المسلمون: علينا أن نعود إلى الأمانة؛ فالأمانة سر سعادة الأمم، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس.

الدعاء،،،،                                                            وأقم الصلاة،،،،                              

    كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

                                                                                                                                  د / خالد بدير بدوي  

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »