خاطرة التراويح / ففهمناها سليمان للشيخ ماهر خضير
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا مُفهم سليمان فهمنا
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد
يقول تعالى ) وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (
قال ابن مسعود وشريح ومقاتل رحمهم الله : أن راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم(بستان من العنب ذات عناقيد) ، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم ، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السلام فقضى له بالغنم ؛ لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت ، فخرجوا ومروا بسليمان فقال لهم : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه به ، فقال غير هذا أرفق بالفريقين ، فأخبر داود عليه السلام بذلك ؛ فدعا سليمان وقال له : بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ، فقال : تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق بمنافعها ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان ، ثم ترد الغنم إلى صاحبها ، فقال داود عليه السلام : إنما القضاء ما قضيت وحكم بذلك .
فهذان نبيان كريمان اجتهدا فى حكم واحد (والاجتهاد جائز للأنبياء فيما ليس فيه نص ووحي ليدركوا ثواب المجتهدين وهم الأسوة والقدوة) ونرى أن الحق سبحانه قد اختص سيدنا سليمان بفهم تلك المسألة ورجع سيدنا داود عليهما السلام عن حكمه ونزل على حكم سيدنا سليمان والاجتهاد والرأي جائز ولكن بعد توفر شروطه وأدواته أولاً فليس لأي احد أن يجتهد رأيه دون أن يكون توافرت لدية أدوات الاجتهاد وأولها العلم بالشيء ومعرفته لذلك قال الله تعالى عن داود وسليمان عليهما السلام (وكلا آتينا حكما وعلما) يقول الإمام الرازي رحمه الله (العلم أفضل الكمالات وأعظمها ، وذلك لأن الله تعالى قدم ذكره هاهنا على سائر النعم الجليلة ، مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن . وإذا كان العلم مقدما على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها )
لذلك أكرم الله أهل العلم ورفع مكانتهم وقدرهم فقد بدأ بنفسه ثم ثنى بملائكته ثم أهل العلم قال تعالى (شهد الله أنه لا اله الا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط …) سورة آل عمران وقال تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) يقول صاحب التحرير والتنوير (إن العقل والعلم مترادفان ، أي : لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم )
أيها الكرام ما أحوج البشرية إلى العلم والعلماء ترشدهم وتأخذ بأيديهم من ظلمة الجهل والتخلف الى نور العلم والرقى والفهم المستنير بعيدا عن الأباطيل وعن التخاريف والخرافات لذلك جاء الدين ليبين نعمة العلم والعلماء حيث قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ” . رواه البيهقي
بل لقد جعل فَقد العلماء علامة من علامات الساعة والتي هى دلالة على قلة الخير وانتشار الجهل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل) رواه البخارى ومسلم وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخارى ومسلم
يقول الإمام مؤرخ الإسلام الذهبي بعد ذكره لطائفة من العلماء: (وما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وأما اليوم فما بقي من العلوم القليلة إلا القليل في أناس قليل ما أقل من يعمل منهم بذلك القليل فحسبنا الله ونعم الوكيل) وإذا كان هذا في عصر الذهبي فما بالك بزمننا هذا؟ فإنه كلما بعد الزمان من عهد النبوة كلما قل العلم وكثر الجهل, فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلم هذه الأمة ثم التابعين, ثم تابعيهم, وهم خير القرون .
والعجب فى زماننا أن هؤلاء الجهال لا ينتظرون حتى يُسألوا وإنما يفتون ويسارعون دون سؤال حتى لبسوا على الناس دينهم وافسدوا أكثر من أعداء الدين ذاتهم ومن أهم أسباب ذلك هو سوء الفهم أو الفهم السقيم كحال المدعو مصطفى رشدي والقمنى والبحيرى وأمثالهم ممن حرفوا وبدلوا وجاءوا بأشياء لم نسمع بها من قبل بحجة تجديد الخطاب الديني وتنقية التراث ويطلون برؤسهم عند كل نائبة وبلية تقع لبث سمومهم وأفكارهم التى قد تجد بعض الرواج ممن لا حظ لهم فى فهم الكثير من امور الشرع وتاريخ العلم والتراث الاسلامى والخطاب الديني الصحيح والتراث من تلك الافتراءات براءٌ كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب ولم نرى احد على الاطلاق من اتباع الديانات والمعتقدات الاخرى يفعل كفعل هؤلاء ابدا فهم يأتون بآيات وأحاديث ويضربون بعضها ببعض بلا فهم وينزلونها على غير مقصدها ويجردونها بعد ان اسقطوا علماء الأمة بحجة (هم رجال ونحن رجال) وما أجمل هذا الكلام الذي يصف هؤلاء
يقول صاحب مدارج السالكين (الواقع حقيقة : أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن . المأفون في عقله ، وذهنه . فالآفة من الذهن العليل . لا في نفس الدليل . وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك ، وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك ، وأن تحته كنزا من كنوز العلم . ولم تؤت مفتاحه بعد . هذا في حق نفسك )
ورحم الله من قال
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم
عمق التفكير, وقوة الملاحظة , والقدرة على الربط بين المؤثرات المتعددة لإدراك المعنى البعيد هذا ما يسمى (الفهم الصحيح ) للأمور والأشياء فالفهم في لغة العرب معناه: العلم بالشيء ومعرفته . قال في لسان العرب: الفهم معرفتك الشيء . وجاء في مختار الصحاح.. فهم الشيء أي علمه. ويأتي في المقابل البلادة في تناول الأشياء . وما جلب الفتن والبلايا على الأمة إلا سوء الفهم وقلة الإدراك لحقائق الأمور والأشياء
لذلك ايها الكرام ليس لأي احد أن يقول في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه ويطلق العنان لنفسه ويقول الكلام واضح ويلقى بكلام علماء الشأن جانباً إذ لو صح ذلك لجاء اى إنسان بكتاب في الطب في الجراحة وقرأ وطبب وقام بعمليات جراحية فى القلب والمخ من تلقاء نفسه قائلا الكلام واضح أو جاء بكتابٍ في الهندسة ثم يذهب فيبنى ناطحة سحاب دون ادراك والمام وعلمٍ….. بالطبع محال هذا الكلام ان يقع مع الأخذ في الاعتبار أن أصحاب هذه الكتب هم بشر أمثالنا وأما أمور الشرع والدين فهي من عند الله تعالى ولها اسرارها يفتح الله بها على من يشاء من عباده ويرضى بما لا يفتح به على غيرهم .
فاللهم يا مُفهم سليمان فهمنا ويا مُعلم داود علمنا
أعده الفقير إلى عفو ربه / ماهر السيد خضير
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف