خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ، للدكتور محروس حفظي
بتاريخ 13 ربيع الأول 1447هـ ، الموافق 5 سبتمبر 2025م

خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م بعنوان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ، للدكتور محروس حفظي بتاريخ 13 ربيع الأول 1447هـ ، الموافق 5 سبتمبر 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
عناصر خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م بعنوان : مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ ، للدكتور محروس حفظي :
(1) النبيُّ ﷺ حازَ الفضائلَ كلَّهَا.
(2) ميلادُهُ ﷺ ميلادٌ جديدٌ للخيرِ في الإنسانيةِ.
(3) اصطفاءُ اللهِ لنبيِّهِ ﷺ، وما صاحبَ مولدَهُ الشريفَ مِن إرهاصاتٍ.
(4) مشروعيةُ الاحتفالِ بالمولدِ النبوِيِّ.
(5) احتفالُ النبيِّ ﷺ بيومِ مولدِهِ، وكذا الصحبِ الكرامِ.
(6) التطبيقُ العمليُّ للسنةِ المشرفةِ.
(7) اجعلْ مِن ذكرَى المولدِ النبويِّ “عِبرةً وعِظةً” لكَ في قابلِ الأيامِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 5 سبتمبر 2025م بعنوان: مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
مولدُ الهادِي البشيرِ ﷺ الإسلامِ
بتاريخ 13 ربيع الأول 1447هـ = الموافق 5 سبتمبر 2025 م
الحمدُ للهِ حمداً يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ، أمَّا بعدُ ،،،
- النبيُّ ﷺ حازَ الفضائلَ كلَّهَا:
قالَ القاضِي عياضٌ: (إذا كانت خصالُ الكمالِ والجلالِ ما ذكرنَاهُ، الواحدُ منَّا يتشرفُ بواحدةٍ منهَا، أو اثنتينِ- إنْ اتفقتْ لهُ في كلِّ عصرٍ-، إمَّا مِن نسبٍ، أو جمالٍ، أو قوةٍ، أو حلمٍ، أو شجاعةٍ، أو سماحةٍ حتى يعظُمَ قدرُهُ، ويُضرَبَ باسمِهِ الأمثالُ، ويتقررَ لهُ بالوصفِ بذلكَ في القلوبِ أثرةٌ عظيمةٌ، فمَا ظنُّكَ بعظيمِ قدرِ مَن اجتمعتْ فيهِ كلُّ هذهِ الخصالِ إلى ما لا يأخذُهُ عدٌّ، ولا يعبرُ عنهُ مقال، ولا ينالُ بكسبٍ، ولا حيلةٍ، إلّا بتخصيصِ الكبيرِ المتعالِ، مِن فضيلةِ النبوةِ، والخلةِ، والمحبةِ، والاصطفاءِ، والرؤيةِ، والقربِ، والدنوِّ، والوحيِ، والشفاعةِ، والوسيلةِ، والفضيلةِ، والدرجةِ الرفيعةِ، والمقامِ المحمودِ، والبراقِ، والمعراجِ، والبعثِ إلى الأحمرِ والأسودِ، والصلاةِ بالأنبياءِ، والشهادةِ بينَ الأنبياءِ، والأممِ، وسيادةِ ولدِ آدم، ولواءِ الحمدِ، والبشارةِ، والنذارةِ، والمكانةِ عندَ ذِي العرشِ، والطاعةِ ثُمَّ الأمانةِ، والهدايةِ، ورحمةٍ للعالمينَ، وإعطاءِ الرضَا والسؤلِ، والكوثرِ، وسماعِ القولِ، وإتمامِ النعمةِ، والعفوِ عمَّا تقدَّمَ وتأخرَ، وشرحِ الصدرِ، ووضعِ الوزرِ، ورفعِ الذكرِ، وعزةِ النصرِ، ونزولِ السكينةِ، والتأييدِ بالملائكةِ، وإيتاءِ الكتابِ والحكمةِ، والسبعِ المثانِي والقرآنِ العظيمِ، وتزكيةِ الأمةِ، والدعاءِ إلى اللهِ، وصلاةِ اللهِ والملائكةِ، والحكمِ بينَ الناسَ بمَا أراهُ اللهُ، ووضعِ الإصرِ والأغلالِ عنهُم، والقسمِ باسمِهِ، وإجابةِ دعوتِهِ، وتكليمِ الجماداتِ والعجمِ، وإحياءِ الموتَى، وإسماعِ الصمِّ، ونبعِ الماءِ مِن بينِ أصابعِهِ، وتكثيرِ القليلِ، وانشقاقِ القمرِ، وردِّ الشمسِ، وقلبِ الأعيانِ، والنصرِ بالرعبِ والاطلاعِ على الغيبِ، وظلِّ الغمامِ، وتسبيحِ الحصَا، وإبراءِ الآلامِ، والعصمةِ مِن الناسِ إلى ما لا يحويهِ محتفلٌ، ولا يحيطُ بعلمِهِ إلَّا ما نحه ذلك، ومفضلهُ بهِ لا إلهَ غيرهُ. إلى ما أعدَّ لهُ في الدارِ الآخرةِ، مِن منازلِ الكرامةِ، ودرجاتِ القُدسِ، ومراتبِ السعادةِ، والحسنَى، والزيادةِ التي تقفُ دونَهَا العقولُ، ويحارُ دونَ إدراكِهَا الوهمُ) أ.ه. (الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/142، 143).
(2) ميلادُهُ ﷺ ميلادٌ جديدٌ للخيرِ في الإنسانيةِ:
– العالمُ قبلَ ميلادِ النَّبِيِّ ﷺ ينقسمُ إلى دولتينِ دولةِ الرومِ في الغربِ والفرسِ في الشرقِ، وكانت كلُّ واحدةٍ منهمَا تملكُ نصفَ العالمِ، وكان البشرُ – ومنهُم العربُ – يعيشونَ حالةً مِن الفوضَى والاضطرابِ واللامبالاةِ في كلِّ شؤونِ حياتِهِم الدينيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ … الخ، فامتنَّ اللهُ تعالى على عبادِهِ ببعثتِهِ، وميلادِ أمتِهِ، قال تعالى: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ﴾، وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ويصورُ سيدُنَا جعفرُ بنُ أبِي طالبٍ حالَ الأمةِ قبلَ بعثتِهِ تصويراً حقيقياً حينمَا وقفَ خطيبًا أمامَ النجاشِي قائلاً: «أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ؛ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيف» (أحمد) .
– ميلادُهُ ﷺ رحمةٌ بالخلائِقِ كلِّهِم، حيثُ عمَّ الوجودَ بالأمنِ والأمانِ، والسلمِ والسلامِ؛ فهذا أبو لهبٍ “لمَّا أعتقَ ثويبةَ حينَ بشرتْهُ بمولدِ ابنِ أخيهِ يُخففُ عنهُ العذابُ يومَ الإثنينِ” (رواه البخاري “معلقاً”) لفرحِهِ بميلادِ سيِّدِ الكونينِ مِن عربٍ وعجمٍ، وقد نظَّمَ الإمامُ “شمسُ الدينِ مُحمدٌ بنُ ناصرِ الدمشقِي” فى هذا المعنَى شعراً، قالَ فيهِ:
إذَا كانَ هذا كافرًا جاءَ ذمُّهُ … وتبتْ يداهُ فى الجحيمِ مُخلدَا
أتَى أنَّهُ فى يومِ الاثنينِ دائمًا … يُخففُ عنهُ للسرورِ بأحمدَا
فمَا الظنُّ بالعبدِ الذي عاشَ عمرَهُ … بأحمدَ مسرورًا وماتَ موحدَا
(الكوكب الأنور على عقد الجوهر في مولد النبي ﷺ الأزهر).
– ضربَ ﷺ أروعَ الأمثلةِ في القيمِ، والمعانِي الإنسانيةِ، وقد شهدَ لهُ الغريبُ قبلَ القريبِ قديماً وحديثاً.
يقولُ المؤرخُ/ “كريستوفر دارسون” في كتابِهِ: “قواعدُ الحركةِ في تاريخِ العالمِ”: «إنَّ الأوضاعَ العالميةَ تغيرتْ تغيراً مفاجئاً، بفعلِ فردٍ واحدٍ، ظهرَ في التاريخِ هو مُحمدٌ) أ.ه.
يقولُ الدكتورُ«مايكل هارث» أستاذُ الرياضياتِ في الجامعاتِ الأمريكيةِ وخبيرُ هيئةِ الفضاءِ الأمريكيةِ: «لقد اخترتُ مُحمداً أولَ هذه القائمةِ، ولا بُدَّ أنْ يندهشَ كثيرونَ لهذا الاختيارِ، ومعهُم حقٌّ في ذلكَ، ولكنَّ مُحمدًا هو الإنسانُ الوحيدُ في التاريخِ الذي نجحَ نجاحاً مطلقاً على المستوى الدينِي والدنيوي» (الخالدون مائة أعظمهم محمد ص١٣).
(٣) اصفاءُ اللهِ لنبيِّهِ ﷺ ، وما صاحبَ مولدَهُ الشريفَ مِن إرهاصاتٍ:
شاءتْ الإرادةُ الإلهيةُ منذُ الأزلِ أنْ يصطفِي نبينَا ﷺ، فهيأَ لهُ الأسبابَ، واختارَ لهُ الوعاءَ الذي جاءَ منهُ، والمكانَ الذي نشأَ فيهِ، فولِدَ مِن أبوينِ كريمينِ، عن ابنِ عباسٍ قالَ: “في قولِهِ تعالَى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ما زالَ النبيُّ ﷺ يتقلبُ في أصلابِ الأنبياءِ حتى ولدتْهُ أمُّهُ”. (دلائل النبوة للأصبهاني).
وعن عليٍّ قَالَ ﷺ:«إنما خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ لَمْ يُصِبْنِي سِفَاحُ الْجَاهِلِيَّةِ» (رواه ابن شيبة في “مصنفه”).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، قَالَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ» (رواه البخاري).
وعن وَاثِلَةَ بْن الْأَسْقَعِ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (رواه مسلم).
*ما صاحبَ مولدَهُ الشريفَ مِن إرهاصاتٍ:
– عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَبِي مُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي آمِنَةَ الَّتِي رَأَتْ وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، وَأَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ لَهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهَا قُصُورُ الشَّامِ» (رواه أحمد)، وللهِ درُّ القائلِ:
لمَّا استهلَّ المصطفَى طالعاً … أضاءَ الفضَا مِن نورِهِ السَّاطعِ
وعطّرَ الكونَ شذَا عطرِهِ الطَّ … يِّبِ مِن دانٍ ومِن شاسعِ
ونادتْ الأكوانُ مِن فرحةٍ … يا مرحباً بالقمرِ الطالعِ
– وعَنْ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ – حينمَا “شُقَّ صدرُهُ فتخوفتْ عليهِ”- فقالتْ أُمُّهُ “آمنةُ”: «كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنًا، أَلَا أُخْبِرُكُمَا عَنْهُ إِنِّي حَمَلْتُ بِهِ، فَلَمْ أَحْمِلْ حَمْلًا قَطُّ، كَانَ أَخَفَّ عَلَيَّ، وَلَا أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ نُورًا كَأَنَّهُ شِهَابٌ خَرَجَ مِنِّي حِينَ وَضَعْتُهُ، أَضَاءَتْ لَهُ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى، ثُمَّ وَضَعْتُهُ، فَمَا وَقَعَ كَمَا يَقَعُ الصِّبْيَانُ، وَقَعَ وَاضِعًا يَدَهُ بِالْأَرْضِ، رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، دَعَاهُ وَالْحَقَا بِشَأْنِكُمَا» (رواه ابن حبان في “صحيحه”).
– وُلِدَ مختوناً ﷺ ، وقد جزمَ بهِ جماعةٌ مِن العلماءِ منهُم: هشامُ بنُ مُحمدٍ بنُ السائبِ في كتابِ “الجامعِ”، وابنُ حبيبٍ في “المحبّرِ”، وابنُ دريدٍ في “الوشاحِ”، وابنُ الجوزِي في “العللِ والتلقيحِ” حتى قالَ الحاكمُ في “المستدركِ”: «تواترت الأخبارُ بأنَّهُ ﷺ وُلِدَ مختوناً»، أرادَ اشتهارهَا، وكثرتهَا في السيرةِ.
– خمودُ نارِ فارس، ولم تَخْمُدْ قبلَ ذلكَ بألفِ عامٍ، وسقوطُ شرفاتِ إيوانِ كسرَى، وغيضُ ماءِ بحيرةِ سَاوَة، ورؤيا الْمُوبَذَان، وانتكاسُ الأصنامِ المعبودةِ وخرورُهَا لوجوههَا مِن غيرِ دافعٍ لهَا عن أمكنتِهَا، وسَائِرُ مَا رَوَى فِي الأخبارِ المشهورةِ مِن ظهورِ العجائبِ في ولادتِهِ وأيامِ حضانتِهِ وبعدهَا إلى أنْ بُعِثَ نبيًّاً (دلائل النبوة للبيهقي).
– رحمَ اللهُ الإمامَ “أبَا عبدِ اللهِ مُحمدَ بنِ أبِي زكريَا يحيَى بنِ عليٍّ الشقراطسِي” [ت: 466 ه] حيثُ قالَ:
ضاءتْ لمولدِهِ الآفاقُ واتصلتْ … بُشرَى الهواتفِ في الإشراقِ والطّفلِ
وصرحُ كسرَى تداعى مِن قواعدِهِ … وانقضَّ منكسرَ الأرجاءِ ذَا ميلِ
ونارُ فارسَ لم توقدْ وما خمدتْ … مِن ألفِ عامٍ ونهرُ القومِ لم يسلِ
خرَّتْ لمولدِهِ الأوثانُ وانبعثتْ … ثواقبُ الشُّهبِ ترمِي الجنَّ بالشّعلِ
– وللهِ درُّ أميرِ الشعراءِ أحمد شوقِي حيثُ يقولُ في “الهمزيةِ النبويةِ”:
وُلدَ الهُدَى فَالكائِناتُ ضياءُ … وَفَمُ الزَّمانِ تبَسُّمٌ وَثَناءُ
الرُّوحُ وَالمَلأ المَلائِكُ حَوْلَهُ … لِلدِّينِ وَالدُّنيا بِهِ بُشَراءُ
وَالعَرْشُ يَزهُو، وَالحَظيرةُ تَزدَهِي … وَالمنتهَى، وَالسِّدْرَةُ العَصْمَاءُ
وَحَديقَة الفُرْقانِ ضاحِكَةُ الرُّبا … بِالتَّرْجُمانِ شَذِيَّةٌ غَنَّاءُ
نُظِمَتْ أسامِي الرُّسْلِ فَهْيَ صَحيفةٌ … في اللَّوْحِ، وَاسْمُ مُحمَّدٍ طُغراءُ
يا خَيْرَ مَنْ جاءَ الوجودَ تَحِيَّةً … مِن مُرسَلينَ إلى الهُدى بِكَ جاؤُوا
يَوْمٌ يَتيهُ عَلى الزَّمانِ صَبَاحُهُ … وَمَساؤُهُ “بِمُحمَّدٍ” وَضَّاءُ
هذا، وقد اختلفَ العلماءُ في تفضيلِ ليلةِ مولدِهِ الشريفِ على ليلةِ القدرِ: قالَ الإمامُ الزرقانِيُّ في “شرحِ المواهبِ”: (ليلةُ مولدِهِ – عليهِ السلامُ – أفضلُ مِن ليلةِ القدرِ مِن وجوهٍ ثلاثةٍ: أحدُهَا: أنَّ ليلةَ المولدِ ليلةُ ظهورِهِ ﷺ، وليلةُ القدرِ معطاةٌ لهُ، وما شرفَ بظهورِ ذاتِ المشرفِ مِن أجلِهِ أشرفُ مِمَّا شرفَ بسببِ ما أُعطيَهُ، ولا نزاعَ في ذلكَ، فكانتْ ليلةُ المولدِ أفضلَ مِن ليلةِ القدرِ. الثانِي: أنَّ ليلةَ القدرِ شرفتْ بنزولِ الملائكةِ فيهَا، وليلةَ المولدِ شرفتْ بظهورِهِ ﷺ، ومَن شرفتْ بهِ ليلةُ المولدِ هو أفضلُ مِمَّن شرفتْ بهِم ليلةُ القدرِ على الأصحِ المرتضَى، فتكونُ ليلةُ المولدِ أفضلَ. الثالثُ: أنَّ ليلةَ القدرِ وقعَ فيهَا التفضيلُ على أمةِ مُحمدٍ ﷺ، وليلةَ المولدِ الشريفِ وقعَ التفضلُ فيهَا على سائرِ الموجوداتِ، فهو الذي بعثَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ رحمةً للعالمينَ، فعمتْ بهِ النعمةُ على جميعِ الخلائقِ، فكانت ليلةُ المولدِ أعمَّ نفعًا، فكانت أفضلَ. ثمَّ قالَ: وإذَا قلنَا بمَا قالَ المصنفُ، وقلنَا: إنَّ الولادةَ نهارًا فهل الأفضلُ يومُ المولدِ أو يومُ البعثِ؟ والأقربُ كما قالَ شيخُنَا: أنَّ يومَ المولدِ أفضلُ لِمَنّ اللهُ بهِ فيهِ على العالمينَ، ووجودُهُ يترتبُ عليهِ بعثهُ، فالوجودُ أصلٌ، والبعثةُ طارئةٌ عليهِ، وذلك قد يقتضِي تفضيلَ المولدِ؛ لأصالتِهِ) أ.ه. (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية).
(4) مشروعيةُ الاحتفالِ بالمولدِ النبويِّ:
قالَ الإمامُ ابنُ الحاجِّ المالكِيِّ: (وَفَضِيلَةُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَتَشَرَّفُ لِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ ﷺ وُلِدَ فِيهِ؛ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ أَنْ يُكَرَّمَ وَيُعَظَّمَ، وَيُحْتَرَمَ الِاحْتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ؛ وَذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ ﷺ فِي كَوْنِهِ ﷺ كَانَ يَخُصُّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ فِيهَا، وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ – رَحِمَهُ اللَّهُ- «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ»، فَنَمْتَثِلُ تَعْظِيمَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ بِمَا امْتَثَلَهُ ﷺ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا) أ.ه. (المدخل، 2/3).
– الاحتفالُ: أمرٌ مقطوعٌ بمشروعيتِهِ؛ وهو مِن أعظمِ القرباتِ؛ لأنّهُ تعبيرٌ عن خالصِ الحبِّ للنبيِّ ﷺ الذي هو أصلٌ مِن أصولِ الإيمانِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (رواه البخاري)، فقد علِمَ اللهُ- سبحانَهُ- قدرَ نبيِّهِ، فعرَّفَ الوجودَ بأسرِهِ باسمِهِ، وبمبعثِهِ، وبمقامِهِ، فالكونُ كلُّهُ في فرحٍ دائمٍ، وطربٍ مطلقٍ بنورِ اللهِ، وفرجِهِ ونعمتِهِ على العالمين.
– القرآنُ الكريمُ يأمرُنَا بالفرحِ وإظهارهِ، قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
ورسولُنَا أعظمُ رحمةً للعالمينَ، وقد وردَ عن حبرِ الأُمةِ وترجمانِ القرآنِ سيدِنَا ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي اللهُ عنهمَا- أنّهُ قالَ: “فَضْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ: رسولُ اللهِ ﷺ ” (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، فالفرحُ بهِ مطلوبٌ في كلِّ وقتٍ وفي كلِّ نعمةٍ، وعندَ كلِّ فضلٍ، ولكنّهُ يتأكدُ كلَّ يومِ اثنينِ وفي كلِّ عامٍ في شهرِ ربيعٍ الأولِ؛ لقوةِ المناسبةِ، وحصولِ تمامِ المنَّةِ والفضلِ.
– {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5]، ومِن أيامِ اللهِ – عزَّ وجلَّ- على أهلِ الأرضِ مولدُهُ ﷺ الذي رفعَ اللهُ بهِ عن البشريةِ الجهلَ، والظلامَ، والضلالةَ {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
– وقد دَرَجَ السلفُ الصالحُ منذُ القرنينِ الرابعِ والخامسِ الهجريينِ على إحياءِ ليلةِ المولدِ بشتَّى أنواعِ القرباتِ مِن إطعامِ الطعامِ، وتلاوةِ القرآنِ، والأذكارِ، وإنشادِ المدائحِ في سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ كما نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ مِن المؤرخين كابنِ الجوزِي، وابنِ كثيرٍ، والحافظِ بنِ دِحيةَ الأندلسِي، والحافظِ العراقِي، والسخاوِي، والمناوِي، والحافظِ بنِ حجرٍ، وجلالِ الدينِ السيوطِي، وابنِ حجرٍ الهيتمِي، والشيخِ بخيتٍ المطيعِي، والشيخِ مُحمدِ الطاهرِ بنِ عاشورٍ التونسِي المالكِي وغيرِهِم – رضي اللهُ عنهُم أجمعين-.
– نَصَّ جماهيرُ العلماءِ سلفًا وخلفًا على مشروعيةِ الاحتفالِ بالمولدِ النبوِيِّ، بل ألَّفَ في استحبابِ ذلكَ جماعةٌ مِن العلماءِ والفقهاءِ، وبَيَّنُوا بالأدلةِ الصحيحةِ استحبابَ هذا الصنيعِ؛ بحيثُ لا يبقَى لِمَن لهُ عقلٌ سليمٌ إنكارُ ما سلكَهُ هؤلاءِ الأخيارُ العدولُ، وهو ما جرى عليهِ عملُ أهلِ الأمصارِ.
– حكَى مفتِي مكةَ المكرمةِ “قطبُ الدينِ النهروالي الحنفي” [ت: 990هـ]، عملَ “أهلِ مكةَ” في زيارِةِ موضعِ ميلادِ النبيِّ ﷺ في ليلةِ المولدِ، فقالَ: [ويُزارُ في الليلةِ الثانيةِ عشرَ مِن شهرِ ربيعٍ الأولِ كلَّ عامٍ، فيجتمعُ الفقهاءُ والأعيانُ على نظامِ المسجدِ الحرامِ، والقضاةُ الأربعةُ بمكةَ المشرفةِ بعدَ صلاةِ المغربِ بالشموعِ الكثيرةِ، والمفرغاتِ، والفوانيسِ، والمشاعلِ، وجميعُ المشايخِ مع طوائفِهِم بالأعلامِ الكثيرةِ، ويخرجونُ مِن المسجدِ إلى سوقِ الليلِ، ويمشونَ فيهِ إلى محلِّ المولدِ الشريفِ بازدحامٍ.. ويأتِي الناسُ مِن البدوِ والحضرِ، وأهلِ جدةَ، وسكانِ الأوديةِ في تلكَ الليلةِ، ويفرحونَ بهَا، وكيفَ لا يفرحُ المؤمنونَ بليلةٍ ظهرَ فيهَا أشرفُ الأنبياءِ والمرسلين ﷺ، وكيفَ لا يجعلونَهُ عيدًا مِن أكبرِ أعيادِهِم]. أ.هـ. (الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، (ص 196).
– ويَدخُل في ذلكَ ما اعتادَهُ المسلمونَ مِن شراءِ الحَلوَى في المولدِ النبوِي، وإهدائهَا إلى الأقاربِ، والأحبابِ، وفعلُ هذا أمرٌ مسنونٌ في ذاتِهِ، و”لأنَّ الأمرَ فيهِ قائمٌ على الإباحةِ والجوازِ” ما لم يقمْ دليلٌ صحيحٌ على المنعِ أو الحظرِ، أضفْ إلى ذلكَ: فيهِ إدخالُ السُّرورِ عليهِم، وصلةُ الرحمِ، وهو مِن أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ، فإذا اجتمعتْ هذه المقاصدُ، كان ذلك مستحبًّا ومندوبًا إليه؛ والقولُ بتحريمِهِ ضربٌ مِن التنطعِ المذمومِ شرعاً وعقلاً وطبعاً وعرفاً.
– قالَ الشيخُ الإمامُ العلامةُ “نصيرُ الدينِ المبارك” الشهيرُ بابنِ الطبَّاخِ في “فتوى بخطِّهِ”: (“إذَا أنفقَ المنفقُ تلكَ الليلة، وجمع جمعاً أطعمَهّم ما يجوزُ إطعامُهُ، وأسمعَهُم ما يجوزُ سماعُهُ، ودفعَ للمسمِّعِ المشوِّقِ للآخرةِ ملبوساً، كلُّ ذلكَ سروراً بمولدِهِ ﷺ، فجميعُ ذلكَ جائزٌ ويُثابُ فاعلُهُ إذ أحسنَ القصدَ، ولا يختصُّ ذلكَ بالفقراءِ دونَ الأغنياءِ، إلَّا أنْ يقصدَ مواساةَ الأحوجِ، فالفقراءُ أكثرُ ثواباً”. أ.ه.
وقال الإمامُ العلامةُ ظهيرُ الدينِ جعفرُ التزمنتِي- رحمَهُ اللهُ-: “هي بدعةٌ حسنةٌ إذَا قصدَ فاعلُهَا جمعَ الصالحينَ، والصلاةَ على النبيِّ ﷺ، وإطعامَ الطعامِ للفقراءِ والمساكين، وهذا القدرُ يُثابُ عليهِ بهذا الشرطِ في كلِّ وقتٍ”) (سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، 1/363، 364).
(5) احتفالُ النبيِّ ﷺ بيومِ مولدِهِ، وكذَا الصحبِ الكرامِ:
سنَّ لنَا رسولُ اللهِ ﷺ بنفسِهِ الشريفةِ جنسَ الشُكرِ للهِ على مِيلادِهِ، فقد صحَّ أنَّهُ كانَ يَصومُ يومَ الإثنينِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ- أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ-» (رواه مسلم).
– قالَ الإمامُ المباركفورِي: (وفي الحديثِ دلالةٌ على أنَّ الزمانَ قد يتشرفُ بمَا يقعُ فيهِ وكذا المكانُ، وعلى أنَّهُ يُستحَبُّ صومُ يومِ الاثنينِ، وأنَّهُ ينبغِي تعظيمُ اليومِ الذي أحدثَ اللهُ فيهِ على عبدِهِ نعمةً بصومِهِ، والتقربِ فيهِ) أ.ه. (مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح).
– وقد نقلَ الصالحِيُّ في كتابِهِ الحافلِ: “سُبُلُ الهُدَى والرشادِ في هَديِ خيرِ العِبادِ” عن بعضِ صالِحِي زمانِهِ: “أنَّهُ رأَى النبيَّ ﷺ في منامِهِ، فَشكَى إليهِ أنَّ بعضَ مَن ينتسبُ إلى العلمِ يقولُ ببدْعِيَّةِ الاحتفالِ بالمولدِ الشريفِ، فعن أبي موسَى الزرهونِي قالَ: رأيتُ النبيَّ ﷺ في النومِ فذكرتُ لهُ ما يقولُهُ البعضُ في عملِ الولائِمِ في المولدِ فقالَ ﷺ: « مَن فرحَ بنَا فرحنَا بهِ» (سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، 1/363).
– وردَ في السنةِ المشرفةِ ما يدلُّ على احتفالِ الصحابةِ الكرامِ بسيدِنَا مُحمدٍ ﷺ مع إقرارِهِ لذلكَ، وإِذْنِهِ فيهِ، فعن بُرَيدةَ الأسلمِي قالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا» (رواه أحمد، والترمذي وحسنه).
إذَا كانَ الضربُ بالدُّفِّ إعلانًا للفرحِ بقدومِ سيدِنَا النبيِّ ﷺ مِن الغزوِ أمرًا أقرُّهُ، وأذنَ فيهِ ﷺ، وأمرَ بالوفاءِ بنذرِهِ، فمِن بابِ أولَى إعلانُ الفرحِ بقدومِ سيِّدِ الكونينِ ﷺ إلى الدنيَا بالدُّفِّ أو غيرِهِ مِن مظاهرِ الفرحِ المباحةِ في نفسِهَا.
(6) التطبيقُ العملِيُّ للسنةِ المشرفةِ:
مَا أحوجنَا في هذهِ المناسبةِ العطرةِ إلى إحياءِ القيمِ النبويةِ في نفوسِ أبنائِنَا، وبناتِنَا، وكيفَ كانَ يتعاملُ ﷺ مع أهلِ بيتِهِ، وأصحابِهِ، وجيرانِهِ، ونطبقُ مواقفَهُ مع الأطفالِ، والشبابِ، والشيوخِ، ومع غيرِ المسلمينَ بل حتَّى مع الجمادِ والحيوانِ، سُئِلَتِ السيدةُ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ، فَقَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً، وَلاَ صَخَّاباً في الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِى بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَة وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» (رواه الترمذي في “سننه”) .
بهذا نَحْيَ حياةً كريمةً في دنيانَا، ونرتقِي ونتقدمُ، ونفوزُ بجنةِ عرضُهَا كعرضِ السماءِ والأرضِ يومَ القيامةِ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وصدقَ “الإمامُ القاضِي عياض”:
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتَيْهَا … وَكِدتُ بِأَخْمَصِي أَطَاُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي … وَأَنْ صَيَّرْتَ لِي أَحْمَدَ نَبِيَّا
قال الإمامُ الصالحِي: (تعظيمُ هذا الشهرِ الشريفِ إنّمَا يكونُ بزيادةِ الأعمالِ الزاكياتِ فيهِ، والصدقاتِ إلى غيرِ ذلكَ مِن القرباتِ، فمَن عجزَ عن ذلكَ فأقلُّ أحوالِهِ أنْ يجتنبَ ما يحرِّمُ عليهِ، ويكرهُ لهُ تعظيماً لهذا الشهرِ الشريفِ، وإنْ كانَ ذلكَ مطلوباً في غيرِهِ إلَّا أنَّهُ في هذا الشهرِ أكثرُ احتراماً، كمَا يتأكّدُ في شهرِ رمضانَ وفي الأشهرِ الحُرمِ فيتركُ ما لا ينبغِي) أ.ه. (سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، 1/372).
ولنتذكرْ في ذكرَى المولدِ أنَّهُ كانَ ﷺ قرآناً يمشِي على الأرضِ، وكانتْ سيرتُهُ تطبيقاً عملياً لِمَا جاءَ في كتابِ اللهِ، قالَ تعالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فهو فاقَ كلَّ الأخلاقِ والفضائلِ حتى صارَ مضربَ الأمثالِ، فأصبحَ ﷺ مستعلياً عليهَا، متصفاً بهَا ظاهراً وباطناً، قائماً وقاعداً، مع أحبابِهِ وأعدائِهِ.
قالَ الشيخُ/ ابنُ عاشورٍ: (فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، جَعَلَ شَرِيعَتَهُ لِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ بِمُنْتَهَى الْاسْتِطَاعَةِ، وَبِهَذَا يَزْدَادُ وُضُوحًا مَعْنَى التَّمَكُّنِ الَّذِي أَفَادَهُ “حَرْفُ الْاسْتِعْلَاءِ” فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ، وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُ فِي دَعْوَتِهِ الدِّينِيَّةِ) أ.ه. (التحرير والتنوير).
عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: “مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ ” قَالَتْ: “قَالَ اللهُ – عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فَخُلُقُهُ الْقُرْآنُ” (رواه أحمد، والبيهقي في “شعب الإيمان”).
قالَ الإمامُ ابنُ جزيِّ الكلبِي: (تعنِي: التأدبَ بآدابِهِ، وامتثالَ أوامرِهِ، وعبَّرَ ابنُ عباسٍ عن “الخُلقِ”: ب”الدينِ والشرعِ”، وذلكَ رأسُ “الخُلقِ”، وتفصيلُ ذلكَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ جمعَ كلَّ فضيلةٍ، وحازَ كلَّ خصلةٍ جميلةٍ، فمِن ذلكَ شرفُ النسبِ، ووفورُ العقلِ، وصحةُ الفهمِ، وكثرةُ العلمِ، وشدةُ الحياءِ، وكثرةُ العبادةِ، والسخاءُ والصدقُ والشجاعةُ والصبرُ والشكرُ والمروءةُ والتوددُ والاقتصادُ والزهدُ والتواضعُ والشفقةُ والعدلُ والعفوُ وكظمُ الغيظِ وصلةُ الرحمِ وحسنُ المعاشرةِ وحسنُ التدبيرِ وفصاحةُ اللسانِ وقوةُ الحواسِّ وحسنُ الصورةِ وغيرُ ذلكَ، حسبمَا وردَ في أخبارِهِ وسيرِهِ ﷺ ولذلكَ قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «بعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ»، وقالَ الجنيدُ: سَمَّى اللهُ خلقَهُ عظيماً، لأنَّهُ لم تكنْ لهُ همةٌ سُوَى الله) أ.ه. (التسهيل لعلوم التنزيل).
(7) اجعلْ مِن ذكرَى المولدِ النبوِيِّ “عِبرةً وعِظةً” لكَ في قابلِ الأيامِ:
عندمَا يمعنُ الإنسانُ النظرَ في يومِ الميلادِ، ويومِ الموتِ ويومِ البعثِ يجدُ أنَّها تتكررُ أبداً، فالإنسانُ لا يولدُ مرتينِ، ولا يموتُ مرتينِ، ولا يُبعثُ مرتينِ، فإذَا سلمَ الإنسانُ في هذه المواطنِ الثلاثةِ، فقد سلّمَهُ اللهُ -جلَّ وعلا- ووصفَ اللهُ سيدَنَا يحيَى-عليهِ السلامُ- فقالَ: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15].
قَال سُفْيَانُ بنُ عيينةَ: «أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْخَلْقُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ» (جامع البيان لابن جرير الطبري).
فإذا أردتَ أنْ تسلمَ، وأنْ تكونَ في محلِّ العنايةِ الإلهيةِ في هذه المواطنِ الثلاث، فتخلقْ بأخلاقِ الحبيبِ ﷺ، وحققْ السلامَ مع نفسِكَ والكونِ بأسرِهِ في تلكَ “الذكرَى العَطِرةِ”، تنلْ مجاورةَ، وشفاعةَ صاحبِهَا {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71].
نحتاجُ إلى ولادةٍ مِن جديدٍ، وأنْ نغيرَ ما علقَ بِنَا مِن المعاصِي والذنوبِ، ونصلحَ ما فسدَ مِن علاقتِنَا {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
نسألُ اللهَ أنْ يرزقَنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنَّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمناً أماناً، سلماً سلاماً وسائرَ بلادِ العالمين، ووفقْ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: الفقير إلى عفو ربه الحنان المنان د / محروس رمضان حفظي عبد العال
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف