خطبة الجمعة : وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ *** يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر، للدكتور أحمد رمضان
بتاريخ 20 ربيع الأول 1447هـ، الموافق 12 سبتمبر 2025م

خطبة الجمعة : وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ *** يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر، إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 20 ربيع الأول 1447هـ، الموافق 12 سبتمبر 2025م.
-عناصر خطبة الجمعة القادمة 12 سبتمبر 2025م بعنوان :وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ *** يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَعْنَى الأَثَرِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ
العُنْصُرُ الثَّاني: صُوَرُ الأَثَرِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ الْمُعَاصِرِ
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ عَمَلِيَّةٌ لِتَرْكِ أَثَرٍ نَافِعٍ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 12 سبتمبر 2025م بعنوان : وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ *** يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
وَكُنْ رَجُلاً إِنْ أَتَوا بَعْدَهُ *** يَقُولُونَ مَرَّ وَهَذَا الأَثَرُ
20 ربيع الأول 1447هـ – 12 سبتمبر 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الذي كتبَ البقاءَ لعبادِه بما يزرعونَه من آثارٍ طيّبة، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تُنجِّي قائلَها يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلّا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم. وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه، البشيرُ النذير، والسراجُ المنير، صلّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين، وسلَّم تسليماً كثيراً. أمّا بعدُ:
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَعْنَى الأَثَرِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ
أيُّها المسلمون، إنَّ الإنسانَ يُخلِّفُ وراءَهُ أثراً، إمّا محموداً يُذكَرُ به في حياتِه وبعدَ وفاتِه، وإمّا مذموماً يُعابُ به ويُثبَتُ عليه وِزرُه إلى يومِ الدّين. ولأجلِ هذا قالَ ربُّنا جلَّ وعلا: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12].
قالَ الإمامُ السعديّ رحمه الله في تفسيرِه: المرادُ بالآثارِ ما ترتّبَ على أعمالِهم من خيرٍ أو شرّ، ممّا سنّوهُ فاقتدى بهِ غيرُهم، فيكونُ لهم مثلُ أجرِ من عملَ به، أو عليهم مثلُ وِزرِ من اقتدى بهم في الشرّ (تيسير الكريم الرحمن، ص 689).
عبادَ الله، لَيسَ الأثرُ أن تملكَ مالاً وفيراً، أو تبنيَ قصوراً شاهقةً، ثم تتركَها فانيةً لا تنفعُك عندَ لقاءِ الله؛ بل الأثرُ الحقُّ أن تبقى أعمالُك شاهدةً لك، ودُعاءُ الناسِ متواصلاً لك. يقولُ النبيّ ﷺ: «إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (رواه مسلم 1631).
فالأثرُ الصالحُ هو ما يبقى بعدَ رحيلِك: كلمةٌ علَّمتَها، أو صدقةٌ أجريتَها، أو ولدٌ صالحٌ دعوتَ له وربَّيتَه، أو علمٌ نشرتَه. ولهذا كانَ دعاءُ خليلِ اللهِ إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84]، أي ذِكراً جميلاً وثناءً حسناً وأثراً باقياً بينَ عبادِ اللهِ المؤمنين:
وقد قال الشاعر:
وَكُنْ رَجُلاً إِنْ أَتَوا بَعْدَهُ *** يَقُولُونَ مَرَّ وَهَذَا الأَثَرُ
فيا عبادَ الله، ما أجملَ أن يكونَ أثرُك في أهلِ بيتِك وأُسرتِك تربيةً على الطاعةِ والخُلقِ الكريم، وفي مجتمعِك نفعاً وخيراً، وفي أُمّتِك نصرةً للحقِّ ودفاعاً عن القيمِ والمبادئ.
نَمَاذِجُ مِنْ أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابَةِ
أيُّها الأحبّة، أعظمُ مَن تركَ أثراً في تاريخِ البشريّة نبيُّنا محمّد ﷺ، فقد كانَ وجودُه رحمةً وهدايةً وميراثاً باقياً إلى يومِ القيامة؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
لقد ربّى النبيُّ ﷺ جيلاً من الصحابةِ الكرام، صاروا مشاعلَ هدايةٍ وأئمّةَ هُدى. فكلُّ واحدٍ منهم صار أثراً حيّاً يذكُرهُ التاريخُ بالإيمانِ والبطولةِ والبلاغِ عن الله ورسولِه.
فهذا أبو بكرٍ الصدّيقُ رضي الله عنه، كان أثرُه العظيمُ ثباتَه يومَ ارتدّت العربُ بعد وفاةِ النبي ﷺ، فقام خطيباً فقال كلمتَه الخالدة: مَن كان يعبدُ محمداً فإنَّ محمداً قد مات، ومَن كان يعبدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموت (رواه البخاري 1242، ومسلم 931). فثبتَت القلوبُ بكلمتِه، واستقرّت الدعوةُ بعد اضطراب.
وهذا عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه، ترك أثراً في العدلِ لم تزلِ الأُممُ تضربُ به المثل؛ كان يسيرُ في الليل يتفقّد أحوالَ الناسِ، حتى وجَدَ امرأةً تُسكتُ صبيانَها بالماءِ، فأسرعَ وأحضرَ الطعامَ على ظهرِه، وقال: ويحكَ يا عمر، مَن يُحاسبُ عن هؤلاء إن لم تُحاسِب أنتَ؟! (سير أعلام النبلاء للذهبي 2/513).
وهذا عثمانُ بن عفّان رضي الله عنه، أنفق مالَه في سبيلِ الله، فاشترى بئرَ رومةَ وجعلها صدقةً للمسلمين (رواه الترمذي 3702 صحيح)، فما زال أثرُه يُروى في كلّ قطرةِ ماءٍ شربَها مسلم.
وهذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ترك أثراً في الشجاعةِ والبلاغةِ والعِلم، فكان مناراً للأمّة، حتى قال فيه النبيّ ﷺ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» (رواه البخاري 4210، ومسلم 2406).
أيُّها المؤمنون، إنّ هذه النماذجَ ليست حكاياتٍ للتسلية، بل دروسٌ للأسرِ المسلمة لتفهمَ أنّ الأثرَ يبدأ من البيت: من صدقِ التربيةِ، ومن دعوةِ الأبوين، ومن عنايةِ الأسرةِ بصناعةِ جيلٍ يُذكَر بخيرٍ بعد رحيلِه.
فكم من أمٍّ صالحةٍ ربّت ولدَها على الطاعةِ فصارَ إماماً للهدى، وكم من أبٍ صادقٍ حفِظَ بيتَه فكان أثرُه دعاءً صالحاً لا ينقطعُ عنه إلى يوم القيامة. قال النبي ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» (رواه ابن ماجه 3660، صحيح).
فالأثرُ يبدأُ من البيت، ثم يمتدُّ إلى المجتمع، ثم يُدوِّنه التاريخُ للأمّة جمعاء.
العُنْصُرُ الثَّاني: صُوَرُ الأَثَرِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ الْمُعَاصِرِ
أيُّها الأحبّة، لَيسَ الأثرُ الطيّبُ قصصاً في الكتبِ أو أخباراً في التاريخِ، بل هو حقيقةٌ تُعاشُ في حياتِنا اليوميّةِ. فالمسلمُ المعاصرُ يستطيعُ أن يتركَ بصمتَه في العلمِ، والعملِ، والأخلاقِ، والصدقةِ الجاريةِ، بل وفي أسرتهِ قبلَ كلّ شيءٍ.
فأمّا العلمُ: فهو من أعظمِ الآثارِ الباقيةِ، قال النبي ﷺ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» (رواه البخاري 3461). فمعلّمُ القرآنِ، ووالدٌ يحفّظُ أبناءَه سورةً، وأمٌّ تعلّمُ ولدَها الوضوءَ والصلاةَ، كلّهم شركاءُ في أثرٍ خالدٍ يكتبُه الله في صحائفهم.
وأمّا العملُ: فالمسلمُ الصادقُ في وظيفتِه أو تجارتِه يتركُ أثراً لا يُمحى. فإذا عدلَ صاحبُ العملِ مع عمّاله، أو أتقنَ الموظّفُ مهمّتَه، كان له بذلك أثرٌ طيّبٌ في القلوبِ وفي المجتمعِ، وقد قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» (المعجم الأوسط للطبراني 8987، حسن).
وأمّا الأخلاقُ: فهي تاجُ الآثارِ الباقيةِ، فما من خُلقٍ كريمٍ يُقدِّمه الإنسانُ إلّا أورثه اللهُ به ذكراً حسناً في الناسِ. قال ﷺ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» (رواه الترمذي 2018 صحيح). فبالأخلاقِ تُبنى المودّةُ في البيوتِ، وتُحفظُ الروابطُ في المجتمع.
وأمّا الصدقةُ الجاريةُ: فهي الأثرُ الذي لا ينقطعُ بعدَ الموت، قال ﷺ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (رواه مسلم 1631). فمَن بنى مسجداً، أو حفر بئراً، أو أوقفَ كتاباً نافعاً، بقي أثرُه بعد رحيلِه نوراً في قبرِه.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ مِفْتَاحَ الْخَيْرِ وَسَبِيلَ بَقَاءِ الْأَثَرِ بَعْدَ الْمَمَاتِ هُوَ الإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَالمَالُ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَى الدُّنْيَا يَفْنَى، وَالَّذِي يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَبْقَى وَيُخَلِّفُ أَثَرًا لَا يَزُولُ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245]. فَكُلُّ مَا تُنْفِقُهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، يَرْجِعُ إِلَيْكَ أَضْعَافًا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ.
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]. هَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ لِأَثَرِ الصَّدَقَةِ؛ فَالحَبَّةُ تَنْبُتُ سَبْعَ سَنَابِلَ، فَكَيْفَ بِالْمَالِ الَّذِي تُقَدِّمُهُ لِوَجْهِ اللهِ؟
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» (البخاري 2444، مسلم 2588). بَلْ هِيَ مَفْتَاحُ الْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ، وَسَبِيلُ دَفْعِ الْبَلَاءِ.
وَفِي “مُسْنَدِ أَحْمَد” (ح 23408، ج37 ص475) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ». فَإِطْعَامُ جَائِعٍ، أَوْ كَفَالَةُ يَتِيمٍ، أَوْ بِنَاءُ مَسْجِدٍ، أَوْ تَجْهِيزُ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، كُلُّهَا أَعْمَالٌ تُخَلِّفُ أَثَرًا يَبْقَى مَا بَقِيَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ.
وَانْظُرُوا – رَحِمَكُمُ اللهُ – إِلَى أَثَرِ الصَّدَقَةِ فِي دُعَاءِ الْمَلَكَيْنِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (البخاري 1442، مسلم 1010). فَالمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَضْمُونٌ لَهُ الْخَلَفُ، وَالْمُمْسِكُ مَوْعُودٌ بِالتَّلَفِ.
إِخْوَتِي الأَفَاضِلَ، لَيْسَتِ الصَّدَقَةُ أَنْ تُعْطِيَ فُضُولَ مَالِكَ فَقَط، بَلْ أَنْ تَبْذُلَ وَأَنْتَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ وَأَبْلَغُ فِي تَرْكِ الأَثَرِ. قَالَ ﷺ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ» (رواه البخاري 1419، مسلم 1032).
فَالَّذِي يَبْنِي مَسْجِدًا، أَوْ يَحْفِرُ بِئْرًا، أَوْ يَكْفُلُ يَتِيمًا، أَوْ يُنْفِقُ عَلَى تَعْلِيمِ طَالِبٍ، يَكْتُبُ اللهُ لَهُ أَثَرًا يَجْرِي مَدَى الدُّهُورِ. وَسَيَجِدُ يَوْمَ القِيَامَةِ جِبَالًا مِنَ الحَسَنَاتِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنْ صَدَقَاتِهِ وَإِنْفَاقِهِ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ عَمَلِيَّةٌ لِتَرْكِ أَثَرٍ نَافِعٍ
أيُّها الأحبّة، إنَّ الأثرَ الطيّبَ لا يُصنعُ بالأمانيِّ ولا بالأحلامِ، وإنّما يُبنى بخطواتٍ عمليةٍ واضحةٍ، يسلكُها المسلمُ في حياته، لتبقى له بعد رحيله بصمةٌ ناصعةٌ في صحائفه.
الوَسِيلَةُ الأُولَى: التَّرْبِيَةُ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ الكِرَام، إِنَّ أَعْظَمَ أَثَرٍ يَتْرُكُهُ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ رَحِيلِهِ هُوَ تَرْبِيَتُهُ لِذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِهِ عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَالْبَيْتُ هُوَ الْمَصْنَعُ الأَوَّلُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْأُسْرَةُ هِيَ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي تَتَخَرَّجُ مِنْهَا الْأُمَمُ صَلَاحًا أَوْ فَسَادًا. وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْوَلَدَ الصَّالِحَ أَعْظَمَ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ لِلْوَالِدَيْنِ، فَقَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (رواه مسلم، كتاب الوصية، ح 1631).
ويَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، قَالَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ» (تفسير الطبري، ج 23 ص 535). فَإِذَنْ لَا يَكْفِي أَنْ تُطْعِمَ وَلَدَكَ وَتَكْسُوَهُ، بَلِ الْأَعْظَمُ أَنْ تُرَبِّيهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَثَرًا يَبْقَى مَعَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَإِذَا نَظَرْنَا فِي التَّارِيخِ رَأَيْنَا أَنَّ أَعْظَمَ الْأُمَّةِ كَانُوا ثَمَرَةَ بُيُوتٍ صَالِحَةٍ. فَهَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجَةُ أَبِي طَلْحَةَ، قَدْ رَبَّتْ ابْنَهَا أَنَسًا عَلَى الْحُبِّ وَالْخِدْمَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانَ أَنَسٌ خَادِمَ النَّبِيِّ ﷺ لِعَشْرِ سِنِينَ، فَصَارَ رَاوِيًا لِلْآلَافِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ الْأَثَرُ الْبَاقِي لِأُمِّ سُلَيْمٍ فِي كُلِّ مَنْ يَرْوِي عَنْ أَنَسٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
أَيُّهَا الْأَفَاضِلُ، إِنَّ التَّرْبِيَةَ لَيْسَتْ أَمْرًا هَيِّنًا، فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «خَيْرُ مَا وَرَّثَ الْآبَاءُ الْأَبْنَاءَ: الْأَدَبُ وَالْعِلْمُ» (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ج 1 ص 57). فَأَيُّ مِيرَاثٍ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ تَتْرُكَ لِوَلَدِكَ قَلْبًا مُؤْمِنًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَنَفْسًا زَكِيَّةً؟
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُرَكِّزُونَ عَلَى التَّرْبِيَةِ فِي الْبُيُوتِ قَبْلَ أَنْ يُرَكِّزُوا عَلَى غَيْرِهَا، فَإِذَا صَلَحَ الْبَيْتُ صَلَحَ الْمُجْتَمَعُ. وَتَقُولُ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَحِمَهَا اللهُ لِبَنَاتِهَا: «تَعَلَّمْنَ الْعِلْمَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَكُنَّ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُنَّ لَكُنَّ فَضِيلَةٌ» (حلية الأولياء لأبي نعيم، ج 1 ص 270).
الوَسِيلَةُ الثَّانِيَةُ: الدَّعْوَةُ
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فِي حَيَاتِهِ دَاعِيَةٌ إِلَى دِينِ اللهِ سَوَاءً بِلِسَانِهِ أَوْ بِسُلُوكِهِ وَأَخْلَاقِهِ. قَدْ يَكُونُ كَلَامُكَ قَلِيلًا، وَلَكِنَّ سُلُوكَكَ وَأَخْلَاقَكَ أَعْظَمُ دَعْوَةٍ وَأَبْلَغُ أَثَرًا. قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» (رواه مسلم، كتاب الإمارة، ح 1893).
وَالدَّعْوَةُ – أَيُّهَا الْكِرَامُ – لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي الْخُطَبِ وَالدُّرُوسِ، بَلْ كُلُّ مُعَامَلَةٍ حَسَنَةٍ دَعْوَةٌ، وَكُلُّ بَسْمَةٍ فِي وَجْهِ أَخِيكَ دَعْوَةٌ، وَكُلُّ صِدْقٍ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ دَعْوَةٌ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو إِلَى اللهِ بِكُلِّ سُلُوكِهِ وَمَوَاقِفِهِ، حَتَّى قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125].
وَإِذَا تَأَمَّلْنَا سِيَرَ الصَّحَابَةِ، رَأَيْنَا أَنَّ دَعْوَتَهُمْ وَأَثَرَهُمْ انْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ بِلَا كَثْرَةِ كَلَامٍ، بَلْ بِصِدْقِ الْقُلُوبِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. فَخَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ كَانَ سَبَبًا فِي إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ سَبَبًا فِي إِسْلَامِ أُمِّهِ. فَكَمْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ بَذْرَةَ خَيْرٍ تُنْبِتُ لَهُ أَجْرًا يَبْقَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الوَسِيلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّعْلِيمُ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ الْكِرَامُ، إِنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ لِتَرْكِ أَثَرٍ بَاقٍ، فَالعِلْمُ هُوَ الْمِيرَاثُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَبْقَى وَيَسْتَمِرُّ، لَا يَفْنَى بِفَنَاءِ الْجَسَدِ وَلَا يَضِيعُ بِذَهَابِ الْمَالِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، ح 5027).
فَالتَّعْلِيمُ – أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ – نَوْعَانِ: تَعْلِيمٌ دِينِيٌّ وَ تَعْلِيمٌ دُنْيَوِيٌّ، وَكِلَاهُمَا يَتَكَمَّلُ بِالآخَرِ، وَيُثْمِرُ أَثَرًا نَافِعًا لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ.
فَأَمَّا التَّعْلِيمُ الدِّينِيُّ: فَهُوَ نَشْرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، لِتَثْبُتَ الْعَقِيدَةُ فِي الْقُلُوبِ، وَتُصَحَّحَ الْعِبَادَاتُ، وَتَسْلَمَ الْمُعَامَلَاتُ. وَكَمْ خَلَّدَ التَّارِيخُ أَسْمَاءَ عُلَمَاءَ أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي التَّعْلِيمِ، فَبَقِيَ أَثَرُهُمْ مَاضِيًا إِلَى الْيَوْمِ؛ فَهَذَا الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا وَلَا بَنِينَ، وَلَكِنْ تَرَكَ «الصَّحِيحَ» الَّذِي تَتَلَقَّفُهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَجَرَى لَهُ أَجْرُ كُلِّ حَدِيثٍ يُتَدَاوَلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا التَّعْلِيمُ الدُّنْيَوِيُّ: فَهُوَ نَقْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْخِبْرَةِ فِي شُؤُونِ الْحَيَاةِ: كَالطِّبِّ، وَالْهَنْدَسَةِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَالصِّنَاعَةِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ. فَكُلُّ مُعَلِّمٍ أَوْ مُرْشِدٍ أَوْ مُدَرِّبٍ يُسْهِمُ فِي بِنَاءِ الْعَقُولِ وَتَشْكِيلِ الْأُمَمِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]، فَكَانَ التَّعْلِيمُ هُوَ الْمِيزَةُ الْعُظْمَى الَّتِي فَضَّلَ اللهُ بِهَا بَنِي آدَمَ عَلَى غَيْرِهِمْ.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، لَا نَنْسَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ هُوَ صَانِعُ الْأَجْيَالِ وَمُشَكِّلُ الْعُقُولِ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلَا *** كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولَا
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» (رواه الترمذي، كتاب العلم، ح 2685، حسن). فَيَا لَهَا مِنْ بَرَكَةٍ عَظِيمَةٍ، أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَذْكُورًا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ بِسَبَبِ عِلْمٍ نَفَعَ بِهِ عِبَادَ اللهِ.
إِذَنْ – أَيُّهَا الْكِرَامُ – فَالتَّعْلِيمُ بِكِلَا جَانِبَيْهِ: الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ، هُوَ أَعْظَمُ سَبِيلٍ لِتَرْكِ أَثَرٍ بَاقٍ، وَهُوَ أَحَبُّ مَا يَسْتَمِرُّ بِهِ أَجْرُ الْمَرْءِ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
الوَسِيلَةُ الرَّابِعَةُ: خِدْمَةُ النَّاسِ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ فِي اللهِ، إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَبْوَابِ لِتَرْكِ أَثَرٍ نَافِعٍ وَبَاقٍ، بَابَ خِدْمَةِ النَّاسِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَعَى فِي تَفْرِيجِ كُرْبَةٍ، أَوْ سَدِّ دَيْنٍ، أَوْ إِطْعَامِ جَائِعٍ، أَوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ، فَقَدْ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَجَعَلَ لَهُ أَثَرًا لَا يَضِيعُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا» (المعجم الكبير للطبراني، ح 13646، حسن). فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ أَحَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ هُمْ الأَنْفَعُ لِخَلْقِهِ.
وَلَا يَغِيبُ عَنَّا أَنَّ خِدْمَةَ النَّاسِ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْمَالِ وَالطَّعَامِ، بَلْ تَكُونُ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالِابْتِسَامَةِ الصَّادِقَةِ، وَالرَّحْمَةِ بِالضُّعَفَاءِ، وَتَفْرِيجِ كُرَبِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. قَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم، كتاب البر والصلة، ح 2699).
وَكَمْ رَأَيْنَا – أَيُّهَا الأَحِبَّةُ – أُنَاسًا بَقِيَتْ آثَارُهُمْ فِي الْقُلُوبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَفَاتِيحَ خَيْرٍ، يُسَاعِدُونَ فِي زَوَاجِ يَتِيمٍ، أَوْ بِنَاءِ مَنْزِلٍ لِفَقِيرٍ، أَوْ عِلَاجِ مَرِيضٍ، فَأَحَبَّهُمُ النَّاسُ وَدَعَوْا لَهُمْ، وَذَكَرُوهُمْ بِالْخَيْرِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ.
إِنَّ الْمُسْلِمَ بِخِدْمَتِهِ لِلنَّاسِ يُحَقِّقُ أَثَرًا عَظِيمًا يَبْقَى بَعْدَهُ، وَيُجَسِّدُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ”.
الوَسِيلَةُ الخَامِسَةُ: أَثَرُ الأُسْرَةِ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، لَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنِ الأَثَرِ وَنَغْفَلَ دَوْرَ الأُسْرَةِ، فَالأُسْرَةُ هِيَ المَصْنَعُ الأَوَّلُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهِيَ الَّتِي تَغْرِسُ فِي النُّفُوسِ بُذُورَ الإِيمَانِ، وَتُهَيِّئُ لِلأَبْنَاءِ طَرِيقَ الصَّلَاحِ. فَالأَبُ وَالأُمُّ لَيْسَا مَسْؤُولَيْنِ عَنْ رِعَايَةِ أَجْسَادِ أَوْلَادِهِمَا فَقَط، بَلْ عَنْ صِيَاغَةِ شَخْصِيَّاتِهِمْ وَمَسَارِ حَيَاتِهِمْ.
قَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نُحْلًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ» (رواه الترمذي، ح 1952، حسن). فَالأَبُ وَالأُمُّ الّلَذَانِ يُحْسِنَانِ التَّرْبِيَةَ، وَيُقِيمَانِ بَيْتًا عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، إِنَّمَا يَتْرُكُونَ أَثَرًا أَبْقَى مِنَ الأَمْوَالِ وَالمُتَاعِ.
وَكَمْ خَلَّدَ التَّارِيخُ أَسَرًا صَالِحَةً كَانَتْ سَبَبًا فِي صِنَاعَةِ الْعُظَمَاءِ. فَإِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ كَانَتْ أُمُّهُ تُلَبِّسُهُ عِمَامَتَهُ وَتَقُولُ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى رَبِيعَةَ فَتَعَلَّمْ مِنْ أَدَبِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ»، فَصَارَ مَالِكًا إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ إِلَى يَوْمِنَا.
فَالْأُسْرَةُ إِذًا هِيَ المَعْمَلُ الحَقِيقِيُّ لِصِنَاعَةِ الأَثَرِ، فَإِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْمُجْتَمَعُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ مَا سِوَاهَا.
أيُّها الكرام، بهذه الوسائلِ الخمس: التربيةِ، الدعوةِ، التعليمِ، خدمةِ الناسِ، بناءِ الأسرةِ الصالحةِ، يصنعُ المسلمُ أثرَه العظيمَ، فيكونُ كالغارسِ لغرسٍ مباركٍ، يراهُ الناسُ في حياته، ويجني ثمارَه بعد مماته.
الخاتمة والدعاء
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، واعملوا لآثارٍ صالحةٍ تبقى بعدَكم، واجعلوا حياتَكم مشاعلَ نورٍ لأهلكم وأمتِكم.
اللهم اجعلنا من الَّذين يتركونَ بعدهم أثراً طيباً، وذكراً جميلاً، وذريةً صالحةً تدعو لهم. اللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. اللهم أصلح بيوتَنا، وبارك في أولادِنا، وألِّف بين قلوبنا، واجعلنا مفاتيحَ للخيرِ مغاليقَ للشر.
وصلّوا وسلّموا على نبيكم كما أمركم ربكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، سنن النسائي، مسند أحمد، المعجم الكبير للطبراني، المعجم الأوسط للطبراني.
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تفسير ابن كثير، جامع البيان للطبري، تيسير الكريم الرحمن للسعدي، التوكل على الله ابن أبي الدنيا. حلية الأولياء لأبي نعيم، سير أعلام النبلاء للذهبي، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
–للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف