وزارة الأوقاف : خطبة الجمعة في مساجد مصر اليوم : توقير كبار السن وإكرامهم
وزارة الأوقاف : خطبة الجمعة في مساجد مصر اليوم : توقير كبار السن وإكرامهم ، بتاريخ 7 جمادي الثاني 1447هـ ، الموافق 28 نوفمبر 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 28 نوفمبر 2025م بصيغة word بعنوان : توقير كبار السن وإكرامهم ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.
انفراد لتحميل خطبة الجمعة القادمة 28 نوفمبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : توقير كبار السن وإكرامهم ، للدكتور أحمد رمضان.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 28 نوفمبر 2025م بعنوان : توقير كبار السن وإكرامهم، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العنصر الأوّل: مَعْنَى تَوْقِيرِ كِبَارِ السِّنِّ وَأَصْحَابِ الْفَضْلِ فِي ضَوْءِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
العنصرُ الثّاني: فَضَائِلُ تَوْقِيرِ الكِبَارِ وَأَهْلِ الفَضْلِ فِي السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ
العنصرُ الثّالث: ثَمَرَاتُ تَوْقِيرِ الكِبَارِ وَأَهْلِ الفَضْلِ فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 28 نوفمبر 2025م : توقير كبار السن وإكرامهم ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ
7 جمادي الآخرة 1447هـ – 28 نوفمبر 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الَّذي أمَرَ بالإِحسانِ، ونَهى عنِ الجفاءِ والعُقوقِ ونَبَّهَ إلى حُسنِ الخُلقِ مع الأهلِ والناسِ أجمعينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ إلهًا كريمًا رحيمًا، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلهُ ربُّهُ رحمةً للعالمينَ، دالًّا على مكارمِ الأخلاقِ، وآمرًا بكلِّ برٍّ وإحسانٍ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
عناصر الخطبة:
العنصر الأوّل: مَعْنَى تَوْقِيرِ كِبَارِ السِّنِّ وَأَصْحَابِ الْفَضْلِ فِي ضَوْءِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
العنصرُ الثّاني: فَضَائِلُ تَوْقِيرِ الكِبَارِ وَأَهْلِ الفَضْلِ فِي السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ
العنصرُ الثّالث: ثَمَرَاتُ تَوْقِيرِ الكِبَارِ وَأَهْلِ الفَضْلِ فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ… إنَّ دينَ الإسلامِ دينٌ تُرفَعُ فيه المقاماتُ، وتُحفَظُ فيه الحقوقُ، ويُنزَّلُ فيه الناسُ منازلَهم، فهو دينُ الوفاءِ لأهلِ الفضلِ، والرَّحمةِ بالكبارِ، واللُّطفِ بالضُّعفاءِ، والتقديرِ لِمَن شابتْ لحاهُم في سبيلِ اللهِ، فشرعُنا الحنيفُ لم يجعلْ توقيرَ الكبيرِ خُلُقًا اجتماعيًّا عابرًا، ولا عادةً تُؤخَذُ وتُترَكُ، بل جعلهُ عبادةً تُظهِرُ صدقَ الإيمانِ، وتُربّي في القلبِ معاني الهيبةِ والخشيةِ والتواضعِ.
العنصر الأوّل: مَعْنَى تَوْقِيرِ كِبَارِ السِّنِّ وَأَصْحَابِ الْفَضْلِ فِي ضَوْءِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ… إنَّ مَعنى التوقيرِ في لغةِ العربِ هو التعظيمُ المصحوبُ بالإجلالِ والاحترامِ، وهو في ميزانِ الشرعِ مقامٌ رفيعٌ لا يكتملُ إيمانُ العبدِ حتى يستقرَّ في قلبِه؛ لأنَّه شاهدٌ على صفاءِ النفسِ وخُلُوِّها من الكِبْرِ واستعلاءِ القلوبِ.
وقد جاء القرآنُ العظيمُ ليجعلَ هذا البابَ أصلًا من أصولِ الإيمانِ، فربط بين التوحيدِ وبين البرِّ والإحسانِ لكبارِ السنِّ، وأصَّلَ علاقةً جليلةً بين تعظيمِ الخالقِ وتعظيمِ من شابتْ لحاهُم في الإسلامِ، فقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾ [الإسراء:23]، وهما أصلُ كبارِ السنِّ وقدوتُهم في المجتمع. وقد قال القرطبيّ في تفسيرِه (ج10، ص241): “خَصَّ حالةَ الكِبَرِ لأنَّها الحالةُ التي يحتاجانِ فيها إلى برِّه لتغيّرِ الحالِ عليهما بالضعفِ والكِبَرِ، فأُلزِم في هذه الحالةِ من مراعاةِ أحوالِهما أكثرَ ممّا أُلزِمَهُ من قبلُ، لأنهما في هذه الحالةِ قد صارا كلًّا عليه، فيحتاجانِ أن يليَ منهما في الكِبَرِ ما كان يحتاجُ في صغرِه أن يَلِيَا منه”.
وقد جاءت السنةُ المطهّرةُ مُوافِقةً لروحِ القرآنِ في هذا البابِ الجليلِ، فبيّن النبيُّ ﷺ أنَّ توقيرَ الكبيرِ شعيرةٌ من شعائرِ الإيمانِ، ومظهرٌ من مظاهرِ تعظيمِ اللهِ تعالى؛ إذ قال ﷺ: «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكرامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ» [أبو داود (4843)، وابن خزيمة (3316)، والبيهقي (16736). صحيح]، وهو حديثٌ يدلُّ على أنَّ الشيبَ الذي يراه الناسُ علامةَ ضعفٍ هو في ميزانِ الشرعِ نورٌ وإجلالٌ وبركةٌ.
وفي هذا المعنى قال الصنعانيّ (التحبير لإيضاح معاني التيسير، ج6، ص561): إنَّ اللهَ أكرمَ المسلمَ بالشيبِ، وأخرجَ سوادَ شعرِه إلى البياضِ، وقد ورد أنَّ الشيبَ نورٌ من اللهِ، وأنَّ أوّلَ من شابَ إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام، فلمّا رأى شيبتَه قال: ما هذا يا ربُّ؟ قال: هذا نورٌ. قال: ربِّ زِدني من نورِك.
ولهذا جاء التأكيدُ النبويُّ في أحاديثَ عظيمةٍ تبني في قلبِ المؤمنِ توقيرَ الكبيرِ وتربّي فيه معاني الهيبةِ والوفاءِ؛ فقال ﷺ: “لا تنتِفوا الشَّيبَ؛ فإنَّهُ نورٌ يومَ القيامةِ، من شابَ شيبةً؛ كتبَ اللهُ له بها حسنةً، وحطَّ عنه بها خطيئةً، ورفعَ له بها درجةً“. [ابن حبان (2985) باختلاف يسير، والطبراني في مسند الشاميين (3601). حديث حسن صحيح]. وقال ﷺ: “لا تنتِفوا الشَّيبَ؛ ما من مسلمٍ يشيبُ شيبةً في الإسلامِ إلا كانت له نورًا يوم القيامةِ، إلا كتب الله له بها حسنةً، وحطَّ عنه بها خطيئةً”. [أبو داود (4202)، والترمذي (2821)، والنسائي (5068). حديث حسن صحيح].
فتأمّلوا – رعاكم الله – كيف جعلت السنةُ الشيبَ نورًا، وجعلتْه شاهدًا على عُمْرٍ طُوِي في طاعةِ اللهِ وابتلاءاتِ الحياةِ، حتى كأنَّ كلَّ شعرةٍ بيضاءَ تُكتبُ بها حسنةٌ وتُرفعُ بها درجةٌ.
وإذا نظرنا إلى الآيةِ العظيمةِ التي لخّصتْ مسيرةَ الإنسانِ وأطوارَ عمرِه، علمنا سرَّ مكانةِ الكبيرِ في الإسلامِ، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾ [الروم:54]. وقد قال الرازيّ (ج25/ ص111): “خَلَقَكُم من ضعفٍ أي مبْناكُم على الضعفِ كما قال تعالى: خُلِقَ الإنسانُ من عجلٍ… والشَّيبَةُ هي تمامُ الضعفِ”.
ففي هذه الآيةِ تذكيرٌ بأنَّ الإنسانَ يبدأ ضعيفًا وينتهي ضعيفًا، وأنَّ هذه المراحلَ الثلاثَ تجعلُ الكبيرَ في مقامٍ يجتمعُ فيه علمُ السنينِ، وخبرةُ التجاربِ، ووقارُ العمرِ، فلا يجوزُ أن يُنظر إليه بعينِ النقصِ، بل بعينِ التعظيمِ والإجلال.
ولم تغفلِ الشريعةُ شأنَ الضعفاءِ، بل جعلتْ لهم بابًا من الرحمةِ لا يُغلق، وجعلتْ الرزقَ والنصرَ مرتبطَيْنِ بهم؛ فقال ﷺ: «هَلْ تُنْصَرونَ وتُرزَقونَ إلا بضُعَفائِكم» [مسلم 2699]، قال ابنُ بَطّالٍ (فتح الباري لابن حجر، ج6، ص89): “إنَّ الضُّعفاءَ أشدُّ إخلاصًا في الدعاءِ وأكثرُ خشوعًا في العبادةِ لخلاءِ قلوبِهم عن التعلّقِ بزخارفِ الدنيا”. وهذا يجعلُ توقيرَ الكبيرِ والضعيفِ ليس إكرامًا لشخصِه فقط، بل إكرامًا للأمةِ ذاتِها؛ لأنَّها تُحسنُ إلى من كان سببًا لنصرِها ورزقِها.
وفي هذا السياقِ أشار النوويّ إلى استحبابِ الاستسقاءِ بالشيوخِ والضعفاءِ والصبيانِ والعجائزِ، فقال (المجموع 5/70): “يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِالْخِيَارِ مِنْ أَقَارِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَهْلِ الصَّلَاحِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَبِالشُّيُوخِ وَالضُّعَفَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَجَائِزِ”.
أيُّها المؤمنون… إنَّ توقيرَ الكبيرِ، وتعظيمَ أصحابِ الفضلِ، ورعايةَ الضعفاءِ؛ ليست أخلاقًا ثانويةً تُؤخَذُ وتُترَكُ، بل هي شعائرُ إيمانيةٌ، وعباداتٌ قلبيةٌ تُظهرُ خُلوصَ الإيمانِ وصفاءَ السريرةِ، وتُقيمُ ميزانَ المجتمعِ على الرحمةِ والعدلِ والوفاءِ. فمن عظَّمَ أهلَ الفضلِ عظَّمَهُ اللهُ، ومن صانَ حقَّ الكبيرِ صانَهُ اللهُ، ومن رحمَ ضعيفًا رحمهُ اللهُ يومَ الضعفِ والفقرِ والوقوفِ بين يدَيْه.
العنصرُ الثّاني: فَضَائِلُ تَوْقِيرِ الكِبَارِ وَأَهْلِ الفَضْلِ فِي السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ… إنَّ التوقيرَ ليس خُلقًا يُمارَسُ في لحظةٍ وينطفئ، ولا سلوكًا اجتماعيًّا يُفعَلُ إذا حضرَ الكبيرُ ويُنسى إذا غاب، بل هو بابٌ واسعٌ من أبوابِ الإيمانِ، يجمعُ تعظيمَ اللهِ واحترامَ خَلقِهِ، ويرفعُ شأنَ الأممِ والشعوبِ. وقد بَيَّنتِ السُّنَّةُ المطهَّرةُ هذا المعنى بأدلةٍ كثيرةٍ تُظهرُ مكانةَ الكبيرِ وأهلِ الفضلِ، وجاءتْ سيرتُهُ ﷺ لتُجَسِّدَ هذه القيمَ بأوضحِ صورةٍ.
أوّلًا: قاعدةُ «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ»… الأصلُ الجامعُ للتوقيرِ
جاءَ في السُّنَّةِ ما يضعُ قاعدةً ذهبيةً تُصلِحُ بها الأممُ مجتمعَها وتستقيمُ بها علاقاتُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» [أبو داود (4842)، وابن أبي عاصم في ((الزهد)) (90)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (10489) صحيح]. وهذه الكلمةُ النبويةُ القصيرةُ منهجٌ تربويٌّ عظيمٌ، تُبنى عليه الأخلاقُ، وتُوزَنُ به الحقوقُ، ويُعرَفُ به قدرُ كلِّ إنسانٍ بحسبِ علمِه وفضلِه وسنِّه وتقواه.
وفي قصةِ عائشةَ رضي اللهُ عنها أنها أَقعدتْ رجُلًا عليه هيئةٌ وثيابٌ وأطعمتْه، فلما سُئلتْ عن ذلك قالت: «أَمرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ نُنزِّلَ الناسَ مَنازلَهُمْ». وفي هذا تعليمٌ أنَّ أهلَ الفضلِ يُعامَلونَ بما يليقُ بهم، وأنَّ توقيرَهم ليس مجاملةً، بل هو من صميمِ الإيمانِ، وبه تُحفَظُ هيبةُ العلمِ والخبرةِ والسنِّ.
ثانيًا: تقديمُ الكبارِ في الإمامةِ والكلامِ والمجالسِ… أدبٌ نبويٌّ راسخٌ
ومن فضائلِ التوقيرِ ما جاءت به السُّنَّةُ من تقديمِ الكبيرِ في كلِّ موطنٍ يليقُ فيه التقديمُ؛ فقد قالَ النبيُّ ﷺ لِمَالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ وصحبه: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ولْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» [البخاري 631، ومسلم 674]؛ فجعلَ إمامةَ الصلاةِ مرتبطةً بالسنِّ إذا استوتْ بقيَّةُ الشروطِ، وهذا من أعظمِ أبوابِ التوقيرِ.
وفي آدابِ السلامِ قال ﷺ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ علَى الكَبِيرِ، والمارُّ علَى القاعِدِ، والقَلِيلُ علَى الكَثِيرِ» [البخاري 6231، ومسلم 2160].
وجاء في رؤياهِ ﷺ: “أَرانِي في المَنامِ أتَسَوَّكُ بسِواكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلانِ، أحَدُهُما أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَناوَلْتُ السِّواكَ الأصْغَرَ منهما، فقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إلى الأكْبَرِ“. [البخاري 246، ومسلم2271]. وهذا أصلٌ عظيمٌ في تقديمِ الكبيرِ في الكلامِ والضيافةِ والمجالسِ والمشي والحقوقِ، وهو أدبٌ راقٍ يقتلُ الكِبْرَ في النفسِ، ويُربّي عليها التواضعَ والعدلَ.
ثالثًا: البشاشةُ للكبارِ وحُسنُ استقبالِهم… من الإيمانِ وحسنِ العهدِ
ومن فضائلِ التوقيرِ أن يكونَ استقبالُ الكبيرِ استقبالَ احترامٍ وبِشرٍ وإكرامٍ. ففي قصةِ جثّامةَ المُزنيّةِ، قالت عائشةُ: “جاءت عجوزٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو عندي فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: من أنتِ؟ قالت: أنا جثَّامةُ المُزنيَّةُ فقال: بل أنتِ حسَّانةُ المُزنيَّةُ كيف أنتُم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتُم بعدنا؟ قالت بخيرٍ بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ فلما خرجتُ قلتُ: يا رسولَ اللهِ تُقبِلْ على هذه العجوزِ هذا الإقبالَ فقال: إنها كانت تأتينا زمنَ خديجةَ وإنَّ حسنَ العهدِ من الإيمانِ“. [الحاكم (40)، شعب الإيمان للبيهقي (9122) صحيح].
ويدخلُ في هذا البابِ البِشرُ والبسمةُ وتركُ التضييقِ على الكبيرِ؛ فقد جاءت العجوزُ الأنصاريةُ تطلبُ من النبيِّ ﷺ أن يدعوَ لها بالجنة، فقال لها ﷺ ممازحًا لما قالت: «يا رسولَ اللهِ ادع اللهَ لي أنْ يدْخِلَني الجنةَ فقال لَها : يا أمَّ فلانٍ إِنَّ الجنَّةَ لا يدخلُها عجوزٌ وانزعجَتِ المرأةُ وبكَتْ ظنًّا منها أنها لن تدخلَ الجنةَ فلما رأى ذلِكَ منها بيَّنَ لها غرضَهُ أنَّ العجوزَ لَنْ تدخُلَ الجنَّةَ عجوزًا بل يُنشِئُها اللهُ خلقًا آخرَ فتدخلُها شابَّةً بكرًا وتَلَا عليها قولَ اللهِ تعالى : إِنَّا أَنشَأْناهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أبْكًارًا عُرُبًا أُتْرَابًا» [الترمذي في ((الشمائل)) (240)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (346)، حسن].
فهذا المزاحُ الراقي، والبشاشةُ، وتطييبُ الخاطرِ، من أعظم صور التوقير التي تبني المودةَ وتُسكنُ نفوسَ الكبارِ.
رابعًا: الاقتداءُ بالنبيِّ ﷺ في تكريمِ الكبيرِ… أخلاقٌ لا يبلغُها إلا الكبارُ
ومن عظمةِ هذا الدينِ أنَّ سيرةَ النبيِّ ﷺ جاءت مملوءةً بمواقفَ عمليةٍ ترسمُ للأمةِ طريقَ التوقيرِ؛ فعندما جاءَ أبو بكرٍ بأبيه أبي قُحافةَ يوم فتحِ مكةَ، قال له النبيُّ ﷺ: «لَوْ أَقْرَرْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ تَكْرُمَةً لِأَبِي بَكْرٍ» [ابن حبان (5472) واللفظ له، وأحمد (12635)، وأبو يعلى (2831)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3686)صحيح]؛ فالنبيُّ ﷺ أراد أن يُريحَ الشيخَ الكبيرَ، وأن يكرّمَ أبا بكرٍ بإكرامِ أبيه.
خامسًا: النماذجُ الراقيةُ من القرآنِ والسلفِ… مدرسةُ التوقيرِ العمليةُ
ويكتملُ مشهدُ الفضائلِ بالنماذجِ القرآنيةِ والسلفيةِ التي تُجسِّدُ التوقيرَ أبلغَ تجسيدٍ؛ ففي قصةِ موسى عليه السلام حينما قالَتِ الفتاتان: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] فهمَ موسى طبيعةَ الضعفِ المُسنِّ فسقى لهما، فتحمَّلَ مشقةَ السقي بلا أجرٍ ولا طلبٍ، مراعاةً لحالِ الشيخِ الكبيرِ.
وفي سيرةِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ رضي اللهُ عنه أنه كان يخرجُ في ظلمةِ الليلِ يقضي حوائجَ امرأةٍ عجوزٍ عمياءَ، فيأتيها بما يُصلِحُها ويخدمُها بنفسِه، فلما رآه طلحةُ قال للعجوزِ: ما بالُ هذا الرجلِ يأتيكِ؟ فقالت: «إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا». فقال طلحةُ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ، أَتَتَّبِعُ عَثَرَاتِ عُمَرَ؟!» [حلية الأولياءج1ـ ص48].
فأين هذا من زمنٍ يُهملُ الكثيرُ فيه كبارَ السنِّ، ويُضيّعُ قدرَ أهلِ الفضلِ، وينسى الضعفاءَ والمساكينَ؟
إنها دروسٌ من القرآنِ والسيرةِ والخلافةِ الراشدةِ، تُذكّرُ الأمةَ بأنَّ توقيرَ الكبيرِ وبِرَّ الضعيفِ وإجلالَ أصحابِ الفضلِ… ليست مكارمَ أخلاقٍ فحسب، بل هي ركائزُ حضارةٍ تُقاسُ بها قوةُ المجتمعِ ورشدُه.
الخُطْبَةُ الثّانِيَة
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ… حمدًا يليقُ بجلالِ وجههِ وعظيمِ سلطانِهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تنجّي قائلَها يومَ الدينِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ تسليمًا كثيرًا.
العنصرُ الثّالث: ثَمَرَاتُ تَوْقِيرِ الكِبَارِ وَأَهْلِ الفَضْلِ فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ… إنَّ للتوقيرِ آثارًا كبرى في تزكيةِ الفردِ، وتماسكِ المجتمعِ، وصناعةِ الحضارةِ؛ فهو خُلقٌ لا يقفُ عند حدودِ المعاملةِ، بل يمتدُّ ليُنشِئَ أجيالًا تعرفُ قدرَ الناسِ وتُقيمُ العدلَ وتؤسِّسُ للخيرِ والنورِ. ومن أهمِّ ثمارِه ما يلي:
أوّلًا: بناءُ جيلٍ مهذَّبٍ يعرفُ قدرَ أهلِ العلمِ والخبرةِ
فالتوقيرُ يُنشِّئُ الأبناءَ على احترامِ القيمِ، ويمنعُهم من التمرّدِ وسوءِ الأدبِ؛ ومن لا يوقّرُ كبيرًا لا يوقّرُ معلّمًا، ولا قائداً، ولا عالمًا. قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83]؛ فشملتْ الآيةُ الكبيرَ والضعيفَ وأهلَ الفضلِ؛ لأنَّ حسنَ القولِ مفتاحُ حسنِ المعاملةِ، ولا يُحسنُ القولَ إلا قلبٌ مُوقَّرٌ لأهلِ الحقِّ والسابقةِ. وقال تعالى في وصفِ عبادِ الرحمنِ: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان:63]، وهذا أدبٌ يُربّي النفسَ على التواضعِ وتركِ مقابلةِ الجهلِ بالجهلِ، وهي من أعظمِ ثمارِ التوقيرِ.
وجاء عنه ﷺ أيضًا قوله: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» [البخاري 6024، ومسلم 2165].
والرفقُ بابُ التوقيرِ الأعظمُ؛ لأنَّه لا يكونُ إلا في قلبٍ مُنزَّهٍ عن الغِلظةِ والجفاءِ. وإنَّ من أعظمِ آثارِ التوقيرِ أنهُ يُشيّدُ المجتمعَ على سُلَّمٍ من الاحترامِ وتبادلِ الخبرةِ؛ فيأخذُ الصغيرُ من الكبيرِ تجربةَ الحياةِ، ويأخذُ الكبيرُ من الصغيرِ قوّةَ العزمِ ونشاطَ الروحِ، فيلتقي الطرفانِ في بناءٍ واحدٍ لا يتصدّع.
ثانيًا: تقويةُ الروابطِ الاجتماعيةِ وإطفاءُ نارِ الخصوماتِ
إنَّ توقيرَ الكبيرِ يحفظُ مكانتَهُ في المجتمعِ، ويُشيعُ جوًّا من المحبةِ والمروءةِ، ويمنعُ التنازعَ الذي ينشأ من التقدّمِ على أهلِ الفضلِ بغير حقٍّ؛ قال ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» [الترمذي 1921 صحيح]. فهذه القاعدةُ النبويةُ تُطفئُ جذوةَ التكبرِ، وتُذيبُ الأنانيةَ، وتجعلُ المجتمعَ أسرةً واحدةً تُجِلُّ الكبيرَ وترحمُ الصغيرَ.
ثالثًا: حفظُ الخبرةِ والتجربةِ ونقلُ الحكمةِ عبرَ الأجيالِ
الكبارُ خزائنُ التجاربِ، وأهلُ الفضلِ مفاتيحُ الحكمةِ، وبفقدِ مكانتِهم يضيعُ ميراثٌ ضخمٌ من الفهمِ والبصيرةِ. قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران:159]؛ والمشورةُ لا تكونُ إلا لأهلِ الرأي والتجربةِ، وهم كبارُ الأمةِ ووجهاؤها. وما بُنيَت حضارةٌ قطُّ إلا وكانت تُحسنُ الإصغاءَ لحكماءِها وأهلِ فضلِها.
رابعًا: نيلُ بركةِ اللهِ وعونِهِ وحفظُ المجتمعِ من العقوباتِ الأخلاقيةِ
فالتوقيرُ عبادةٌ يتقربُ بها العبدُ إلى اللهِ، ومن عظّمَ أهلَ الفضلِ عظّمَهُ اللهُ، ومن صانَ الكبيرَ صانَهُ اللهُ. وجاء في الحديث: «أبْرَكُكُمْ أكْابِرُكُمْ» (ابن حبان (559)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8991) حديث صحيح)، والمعنى أن البركةَ مع كبارِ السنِّ وأهلِ الفضلِ؛ فهم أهلُ الدعاءِ الصادقِ، والخشوعِ، والعبادةِ، وبهم يُنزِلُ اللهُ الرحمةَ، ويدفعُ البلاءَ، ويُصلِحُ المجتمعَ.
وإنَّ الأممَ التي تُحسنُ معاملةَ كبارِها، وتُنزّلُ الناسَ منازلَهم، وتعرفُ لأهلِ العلمِ فضلَهم، ولأهلِ التضحيةِ قيمتَهم، هي الأممُ التي كتب اللهُ لها البقاءَ والرفعةَ والتمكينَ؛ لأنَّها تشربتْ من معينِ النبوّةِ، واستظلّتْ بآدابِ الشريعةِ، وسارتْ على نهجِ من قال فيه ربُّه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. فاعمروا قلوبَكم بهذه القيمِ، وزكّوا بها بيوتَكم، وربّوا عليها أبناءَكم، فإنَّها مناراتُ هدايةٍ، وأعمدةُ صلاحٍ، وأسبابُ بركةٍ تحفظُ اللهُ بها البلادَ والعبادَ.
اللهمَّ احفظْ بلادَنا مصرَ، وأسبغْ عليها الأمنَ والأمانَ، والطمأنينةَ والإيمانَ، والبركةَ والخيرَ والرضوانَ. اللهمَّ ادفعْ عنها الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، واحرسْها بعينِكَ التي لا تنامُ، واكلأْها برعايتِكَ التي لا تُضامُ.
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، وابن ماجه، ابن حبان، سنن الترمذي، مسند أحمد، سنن النسائي، المستدرك للحاكم، المعجم الأوسط للطبراني والكبير ومسند الشاميين، . صحيح ابن خزيمة، شعب الإيمان للبيهقي، مسند أبي يعلي،
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير القرطبي، تَفْسِيرُ الرازي، فتح الباري لابن حجر، حلية الأولياء لأبي نعيم. صحيح التحبير لإيضاح معاني التيسير للصنعاني، شرح مشكل الآثار للطحاوي، الشمائل للترمذي، المجموع للنووي، البعث والنشور للبيهقي، الزهد لابن أبي عاصم.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
___________________________________
خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف علي صوت الدعاة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
و للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
و للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف








