وزارة الأوقاف : خطبة الجمعة في مساجد مصر اليوم : العقولُ المحمديّةُ
وزارة الأوقاف : خطبة الجمعة في مساجد مصر اليوم : العقولُ المحمديّةُ ، بتاريخ 14 جمادي الثاني 1447هـ ، الموافق 5 ديسمبر 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م بصيغة word بعنوان : العقولُ المحمديّةُ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.
انفراد لتحميل خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : العقولُ المحمديّةُ ، للدكتور أحمد رمضان.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م بعنوان : العقولُ المحمديّةُ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العنصر الأوّل: العقل… نعمةٌ ومناطُ التكليفِ
العنصرُ الثاني: التفكيرُ الإيجابيُّ والسلبيُّ… بين البناءِ والهدمِ
العنصر الثالث: خطواتٌ عمليةٌ لترسيخِ العقولِ المحمديةِ الإيجابيةِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م : العقولُ المحمديّةُ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
العقولُ المحمديّةُ
14 جمادي الآخرة 1447هـ – 5 ديسمبر 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الذي خصَّ الإنسانَ بنعمةِ العقلِ، فبه يميزُ بين الخيرِ والشرِّ، وبه يستدلُّ على سبلِ الرشادِ والنجاحِ، وجعله مناطَ التكليفِ، وسبيلَ الهدى والتشريفِ. نحمدُه سبحانه وتعالى حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أحاط كلَّ شيءٍ علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا.
وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالهدى ودينِ الحقِّ؛ ليخرجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النورِ، ومن الضلالةِ إلى الحقِّ والحبورِ. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
عناصر الخطبة:
العنصر الأوّل: العقل… نعمةٌ ومناطُ التكليفِ
العنصرُ الثاني: التفكيرُ الإيجابيُّ والسلبيُّ… بين البناءِ والهدمِ
العنصر الثالث: خطواتٌ عمليةٌ لترسيخِ العقولِ المحمديةِ الإيجابيةِ
أيها الأحبةُ الكرامُ… حديثُنا في هذه الخطبةِ عن «العقولِ المحمديةِ»؛ تلك العقولُ التي تستنيرُ بنورِ الوحيِ، وتهتدي بهدي سيدِ المرسلين ﷺ.
العنصر الأوّل: العقل… نعمةٌ ومناطُ التكليفِ
أيّها الإخوةُ المؤمنونَ… إنَّ العَقلَ نِعمةٌ كُبرى، مَنَّ اللهُ بها على الإنسانِ، فجعلهُ بها مُميّزًا عن سائرِ المخلوقاتِ، ومفضّلًا على الكائناتِ. فبالعقلِ يُدركُ المرءُ الحقائقَ، ويعرفُ الحلالَ والحرامَ، ويُفرّقُ بين الخيرِ والشرِّ، والنافعِ والضارِّ.
العقلُ في أصلِ اللغةِ مأخوذٌ من العِقالِ، وهو ما يُشدُّ به البعيرُ أو الرِّجلُ؛ لأنّ العقلَ يمنعُ صاحبَه ويَردعه عن التورّطِ في الباطلِ كما يمنعُ العِقالُ الدابّةَ من الانفلاتِ.
وفي الاصطلاحِ: هو نورٌ فطريٌّ أودعه اللهُ في الإنسانِ، يُمكّنه من إدراكِ المعاني، واستنباطِ الدلالاتِ، وفهمِ ما به صلاحُ دينِه ودنياه.
قال الإمامُ الغزاليُّ: “مثالُ العقلِ: البصرُ السليمُ عنِ الآفاتِ والأذى. ومثالُ القرآنِ الشمسُ المنتشرةُ الضياءُ… فالمُعرِضُ عنِ العقلِ مكتفيًا بنورِ القرآنِ، مثالُه المتعرِّضُ لنورِ الشمسِ مغمضًا للأجفانِ، فلا فرقَ بينه وبينَ العميانِ. فالعقلُ مع الشرعِ نورٌ على نورٍ”. الاقتصاد في الاعتقاد ص 10.
العقلُ من الضروراتِ الخمسِ: ولم يقتصر تكريمُ الإسلامِ للعقلِ على كونه مناطَ التكليفِ فحسب، بل جعله أحدَ الضروراتِ الخمسِ التي جاءت الشريعةُ بحفظِها وصيانتها، وهي: الدينُ، والنفسُ، والعقلُ، والمالُ، والنسلُ.
قال الإمامُ الشعراويُّ رحمه اللهُ: “ولو نظرتْ إلى هذهِ الضروراتِ تجدْ أنَّ الحفاظَ عليها يبدأُ من سلامةِ العقلِ، فسلامةُ العقلِ تجعلُه يفكرُ في دينِه. وسلامةُ العقلِ تجعلُه يفكرُ في حركةِ الحياةِ. وسلامةُ العقلِ تجعلُه يحتاطُ لصيانةِ العرضِ. إذنْ فالعقلُ هو أساسُ العمليةِ التكليفيةِ”. [تفسير الشعراوي ج2، ص941].
العقل مناط التكليف: لقد عظّم الإسلامُ شأنَ العقلِ أيّما تعظيمٍ، وجعلَه أساسًا في التديّنِ، وركنًا في التكليفِ. فلا عبادةَ بلا عقلٍ، ولا تكليفَ بلا إدراكٍ.
قال النبيُّ ﷺ: «رُفِعَ القلمُ عن ثلاثٍ: عن النائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ، وعن المجنونِ حتى يعقلَ» [أبو داود (4398)، والنسائي (3432) واللفظ له، وابن ماجه (2041)، وأحمد (24738) صحيح].
قال الشيخ الشعراوي رحمه الله: “عليكَ أنْ تعلمَ أنَّ العقلَ إنَّما أرادَه اللهُ سبحانهُ لكَ ليعقِلَكَ عنِ الحركةِ التي فيها هَوى، وتُحقِّقُ بها شهوةً ليستْ لكَ، ومغبَّتُها مُتعبةٌ. ويخطَأْ مَنْ يظنُّ أنَّ العقلَ يفتحُ البابَ أمامَ الانطلاقِ اللا مسئولِ باسمِ الحريةِ، ونقولُ لمَنْ يظنُّ مثلَ هذا الظنِّ: إنَّ العقلَ هو مناطُ التكليفِ، وهو الذي يوضِّحُ لكَ آفاقَ المسئوليةِ في كلِّ سلوكٍ”. تفسير الشعراوي، ج10، ص6232.
وقال الإمام العز بن عبد السلام: “والعقل هو مناط التكليف بإجماع المسلمين، مع أنَّ الشرع قد عدَّل العقل، وقبِل شهادته، واستدلَّ به في مواضع من كتابه” ملحة الاعتقاد ص22، وراجع/ شرح المقاصد ج2، ص332
ولهذا نهى الإسلامُ عن كلِّ ما يُغيّبُ العقلَ أو يُفسده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
مرادفاتُ العقلِ في القرآنِ الكريمِ
القلب: كثيرًا ما استُعمل “القلب” في القرآن للدلالة على محلّ الإدراك والعقل، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
اللُّبّ: وهو خالصُ الشيءِ وزُبدتُه، والعقلُ هو لُبُّ الإنسانِ وصفوتُه. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].
الفؤاد: وهو القلبُ إذا كان واعيًا مدركًا، قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11].
الأبصار: أي البصائرُ النافذةُ التي تدرك الحقائقَ بنور الله، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، قال مجاهد: الأبصارُ أي العقولُ.
الأحلام: قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور: 32]، والأحلامُ هنا بمعنى العقولِ.
الحِجْر: وهو العقلُ الذي يحجُرُ صاحبَه عن الوقوع في الباطلِ. قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5].
النُّهى: وهي العقولُ التي تنها أصحابَها عن التورّط في الباطل. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه: 54].
لقد كان العقلُ المستنيرُ بالوحيِ سببًا في هدايةِ كبارٍ الصحابةِ: فهذا سلمانُ الفارسيُّ رضي اللهُ عنه، تركَ مجوسيةَ قومِه، وارتَحلَ بعقلِه باحثًا عن الحقِّ، حتى ساقه اللهُ إلى الإسلامِ. فقال فيه النبيُّ ﷺ: «سلمانُ منّا أهلَ البيتِ» [مجمع الزوائد ج6، ص132 ، ضعفه فريق وحسنه الترمذي].
العنصرُ الثاني: التفكيرُ الإيجابيُّ والسلبيُّ… بين البناءِ والهدمِ
أيها الإخوةُ المؤمنونَ… إنَّ العقلَ المحمديَّ الذي يسيرُ على هديِ الوحيِ لا يعرفُ إلّا التفكيرَ الإيجابيَّ الذي يُعمِّرُ الحياةَ، ويَبني الأُممَ، ويزرعُ في القلوبِ أملاً صادقًا في رحمةِ اللهِ ونصرِه.
أما التفكيرُ السلبيُّ فهو مَسلَكُ الشيطانِ، يُثبِّطُ العزائمَ، ويُعطِّلُ الطاقاتِ، ويزرعُ القنوطَ واليأسَ في القلوبِ.
التفكيرُ الإيجابيُّ في القرآنِ والسنةِ
قد أمرَنا ربُّنا جلَّ وعلا بالنظرِ إلى الحياةِ بعينِ الأملِ والرجاءِ فقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]. وقال سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
وقد جسّد رسولُ اللهِ ﷺ أعظمَ الأمثلةِ في التفاؤلِ والتفكيرِ الإيجابيِّ. ففي الهجرةِ النبويةِ، قال أبو بكرٍ: لو نظرَ أحدُهم تحتَ قدميهِ لرآنا. فقال له النبيُّ ﷺ: «ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللهُ ثالثُهما» [البخاري (3653)، ومسلم (2381)].
ثمارُ التفكيرِ الإيجابيِّ: أيها الأحبةُ الكرامُ… إنَّ للتفكيرِ الإيجابيِّ ثمارًا عظيمةً في حياةِ الفردِ والمجتمعِ: يورثُ حسنَ الظنِّ باللهِ تعالى، وقد قال النبيُّ ﷺ عن ربِّه: «أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي» [البخاري 7405، ومسلم 2675].
يفتحُ أبوابَ الإبداعِ والبناءِ، ويجعلُ المؤمنَ نافِعًا لأمّتِه. يعينُ على الصبرِ عندَ المصائبِ، والشكرِ عندَ النعمِ.
التفكيرُ السلبيُّ في القرآنِ والسنةِ
أما التفكيرُ السلبيُّ فقد نَسبَه القرآنُ إلى المنافقينَ، الذين كانوا يرونَ في كلِّ محنةٍ هلاكًا، وفي كلِّ أزمةٍ دليلاً على زوالِ الإسلامِ. قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
أيها الإخوةُ… إنّ التفكيرَ السلبيَّ يجرُّ وراءَه آثارًا وخيمةً:
يُضعِفُ الهممَ، ويقتلُ روحَ المبادرةِ. يُعطِّلُ الطاقاتِ ويُطفئُ جذوةَ الإبداعِ. ينشرُ القلقَ والتشاؤمَ في المجتمعاتِ.
وقد يُفضي إلى القنوطِ من رحمةِ اللهِ، قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
نماذجٌ من السيرةِ في الإيجابيةِ والسلبيةِ
في غزوةِ بدرٍ: كان المسلمونَ قلةً ضعفاءَ، ومع ذلك ملأهم النبيُّ ﷺ بالأملِ والثقةِ، وقال: «والذي نفسي بيدِه، لا يُقاتلُهم اليومَ رجلٌ فيُقتلُ صابرًا محتسبًا إلّا أدخلَه اللهُ الجنةَ» [ابن هشام في سيرته (٣/ ١٧٥)، والخطيبُ البَغْدَاديُّ في الأَسماء المبهمة من طريق أبي نُعيم (٣/ ٢٠٦)، وابن عبد البر في التمهيد (٢٤/ ٩٩).].
وفي الخندقِ: لما ضرب النبيُّ ﷺ الصخرةَ خرج منها نورٌ أضاء قصورَ فارسَ والرومِ واليمنِ، وبشّر أصحابه بفتحِ تلك البلادِ، وهم في حالٍ من الجوعِ والخوفِ. إنه التفكيرُ الإيجابيُّ الذي يحوّلُ المحنَ إلى منحٍ.
وفي غزوةِ أُحدٍ: لما خالف الرماةُ أمرَ النبيِّ ﷺ، ونزلوا يطلبونَ الغنيمةَ، دبَّ الاضطرابُ واليأسُ، فكانت الثغرةُ التي دخل منها العدوُّ. قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153].
إخوتي الأحبةُ… إن التفكيرَ الإيجابيَّ عقلٌ محمديٌّ، يرى بنورِ الوحيِ آفاقَ الأملِ والتمكينِ، ويصنعُ المستقبلَ بالثقةِ باللهِ. أما التفكيرُ السلبيُّ فهو عقلٌ معطَّلٌ، لا يرى إلا الظلامَ، ولا يَجني إلّا الوهنَ واليأسَ.
فاخترْ لنفسِك عقلَ الأملِ لا عقلَ اليأسِ، عقلَ البناءِ لا عقلَ الهدمِ، وكنْ من الذينَ قال اللهُ فيهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 63-64].
من هو العاقلُ في ميزانِ الإسلامِ: أيّها الإخوةُ الأحبّةُ… إذا كان العقلُ هو مناطَ التكليفِ، وأساسَ الفهمِ، ومفتاحَ الهدايةِ، فإنّ السؤالَ الذي يَطرحُ نفسه: مَن هو العاقلُ حقًّا في نظرِ الإسلامِ؟
العاقلُ في ميزانِ الوحيِ ليس هو صاحبَ الحيلةِ الدنيويةِ، ولا مَن جمعَ الأموالَ، ولا مَن بهرَ الناسَ بمظاهرِ الذكاءِ والدهاءِ، بل هو مَن نظرَ في عاقبةِ الأمورِ، وعلمَ أنّ الدنيا دارُ ممرٍّ، والآخرةَ دارُ مقرٍّ. قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
وفي الحديثِ الصحيحِ قال النبيُّ ﷺ: «الكَيِّسُ مَن دانَ نفسَه وعملَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَن أتبعَ نفسَه هواها وتمنّى على اللهِ الأماني» [الترمذي (2459)، وأحمد (17164)، وابن ماجه (4260) صحيح].
قال الإمامُ الشافعيُّ رحمه اللهُ: «كلُّ ما قلتُ لكم ولم تَشهد عليه عقولُكم أو تقبلْه أو تراه حقًّا فلا تقبلوه؛ فإنَّ العقلَ مضطرٌّ إلى قبول الحقِّ». مناقب الشافعي للبيهقي ج2، ص186. فبيَّن أنَّ العقلَ الصحيحَ لا يتعارضُ مع الحقِّ، بل يشهدُ له ويَرتاحُ إليه.
ويقول تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: ” فَاعْلَم أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يُخَاطب إِلَّا أولى الْعُقُول والألباب والبصائر… والْعقل الَّذِي هُوَ منَاط التَّكْلِيف وحاسب الله تَعَالَى النَّاس بِهِ وَقبل شَهَادَته ونصبه وَأثبت بِهِ أصُول دينه” ج9 ، 84 – 85 باختصار.
العنصر الثالث: خطواتٌ عمليةٌ لترسيخِ العقولِ المحمديةِ الإيجابيةِ
أيها الإخوةُ الأحبةُ… إن العقولَ المحمديةَ لا تُبنى بالشعاراتِ ولا بالكلماتِ الرنانةِ، وإنما تُبنى بالعلمِ الراسخِ، والعملِ الصالحِ، والتربيةِ المتوازنةِ، والتزكيةِ الصادقةِ. وإذا أردنا أن نواجهَ طوفانَ الأفكارِ السلبيةِ والمتطرفةِ، وأن نُرسِّخَ في واقعِنا التفكيرَ الإيجابيَّ البنّاءَ، فلا بدَّ من خطواتٍ عمليةٍ واضحةٍ.
أولًا: العلمُ والتربيةُ الراسخةُ
أيها الإخوةُ الأحبّةُ… إنّ أولَ ما يُحصّنُ العقلَ من الانحرافِ والزيغِ هو نورُ العلمِ الشرعيِّ الصحيحِ، والتربيةُ الراسخةُ على منهجِ الوحيِ. قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ثانيًا: التفاؤلُ والأملُ وصناعةُ الهممِ
أيها الأحبّةُ… العقلُ المحمديُّ عقلٌ متفائلٌ، لا يعرفُ اليأسَ ولا القنوطَ، بل يعيشُ الأملَ في نصرِ اللهِ ورحمتِه. قال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]. وقد علّمنا رسولُ اللهِ ﷺ أن ننظرَ إلى الحياةِ بعينِ التفاؤلِ، فقال: “بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسّروا» [البخاري (69)، ومسلم (1734)]. وقال ﷺ لما قال له الخباب ابن الأرت رضي الله عنه: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟: “… واللهِ ليتمنّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجلون» [البخاري 6943].
ثالثًا: العملُ والإبداعُ والبذلُ
إخوتي الأحبةُ… إنَّ العقلَ المحمديَّ عقلٌ عاملٌ، لا يعرفُ الكسلَ ولا الاتّكالَ، ولا يرضى بالعطالةِ والسلبيةِ. بل هو عقلٌ يسعى إلى عمارةِ الأرضِ، وإحياءِ القلوبِ، وصناعةِ الحياةِ. قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، أي طلبَ منكم عمارتَها وإصلاحَها.
رابعًا: التفكيرُ النقديُّ والحوارُ وصيانةُ العقولِ
أيها الإخوةُ الكرامُ… إنَّ من أعظمِ ما يُرسِّخُ العقولَ المحمديةَ أن تتربّى على التفكيرِ النقديِّ الرشيدِ، فلا تقبلُ كلَّ ما يُعرضُ عليها بلا تمحيصٍ، ولا ترفضُ كلَّ جديدٍ بلا برهانٍ. وإنما تزنُ الأمورَ بميزانِ الشرعِ والعقلِ السليمِ. قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
فالعقلُ ميزانُ الشرعِ، والنقلُ نورُ العقلِ، وإذا اجتمعَ الميزانُ والنورُ استقامَ الفهمُ، وزالَ الانحرافُ.
ومن صيانةِ العقولِ كذلك نشرُ ثقافةِ الحوارِ والتواصلِ، فإنَّ النبيَّ ﷺ كان يُحاورُ أصحابَه، ويستمعُ إليهم، ويجادلُ أعداءَه بالتي هي أحسنُ. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
خامسًا: الأسرةُ والتعليمُ والإعلامُ والقدوةُ
أيها الإخوةُ الأحبّةُ… إنّ بناءَ العقولِ المحمديةِ الإيجابيةِ لا يكتملُ إلا بتضافرِ جهودِ مؤسّساتِ المجتمعِ كلِّها، وأوّلُها الأسرةُ، فهي المدرسةُ الأولى ومصنعُ القيمِ. ثم تأتي التربيةُ والتعليمُ، وقد جعل الإسلامُ طلبَ العلمِ فريضةً، فقال ﷺ: “طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ» [ابن ماجه].
ولا ننسى القدوةَ الإيجابيةَ، فإنّ العقولَ لا تُبنى بالكلامِ فقط، بل بالأفعالِ والمواقفِ. فإذا رأى الشبابُ آباءَهم ومعلّميهم وقادتَهم يعيشونَ الأملَ، ويواجهونَ الصعابَ بروحٍ إيجابيةٍ، تشبَّعوا بذلك بلا وعظٍ طويلٍ. وقد كان رسولُ اللهِ ﷺ القدوةَ العمليةَ الأولى، يحملُ الحجارةَ في بناءِ المسجدِ، ويعيشُ مع أصحابِه آمالَهم وآلامَهم، ليغرسَ فيهم معنى أنّ القيادةَ قدوةٌ قبل أن تكونَ كلمةً.
أيها الأحبةُ… بهذا تتكاملُ اللبناتُ: أسرةٌ واعيةٌ، تعليمٌ راشدٌ، إعلامٌ صادقٌ، قدوةٌ حيّةٌ، فإذا اجتمعتْ صنعتْ العقلَ المحمديَّ المستنيرَ، الذي يبني ولا يهدمُ، ويُعطي ولا يبخلُ، ويزرعُ الأملَ ولا يُشيعُ اليأسَ.
فالعقلُ الإيجابيُّ هو عِمادُ النهضةِ، وسرُّ البقاءِ، وسلاحُ الأمةِ في مواجهةِ التحدياتِ، وبه تُشيَّدُ الحضاراتُ، وتُصانُ الأوطانُ، وتُحفَظُ الرسالةُ.
فليكنْ لكلِّ واحدٍ منَّا وقفةٌ صادقةٌ مع عقلِه، يحاسبُه ويهذِّبُه، ويجعلُه أداةَ بناءٍ وخيرٍ ونفعٍ، لا أداةَ هدمٍ وشرٍّ وفسادٍ. وليحذرْ من أن يُعطِّلَ عقلَه عن نورِ الوحيِ، أو يُسيطرَ عليهِ اليأسُ والتشاؤمُ، فإنَّ ذلكَ سببُ الخسرانِ في الدنيا والآخرةِ.
اللهمَّ ارزقنا التفكيرَ الإيجابيَّ الذي يعمِّرُ حياتَنا، ويجمعُ كلمتَنا، ويصونُ أوطانَنا.
اللهمَّ احفظْ بلادَنا مصرَ سخاءً رخاءً آمنًا مطمئنًا، وسائرَ بلادِ المسلمينَ.
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، وابن ماجه، سنن الترمذي، مسند أحمد. سنن النسائي
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري، تفسير ابن كثير، تَفْسِيرُ، تفسير الشعراوي، إحياء علوم الدين للغزالي، تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى مجمع الزوائد للهيثمي، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، سيرة ابن هشام، مناقب الشافعي للبيهقي، الأَسماء المبهمة للخطيب البغدادي، شرح المقاصد للتفتازاني، التمهيد لابن عبد البر.
د. أحمد رمضان
___________________________________
خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف علي صوت الدعاة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
و للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
و للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف






