خطبة الجمعة الثانية بعنوان : التَّكَاتُفُ الِاجْتِمَاعِيُّ ، للدكتور أحمد رمضان
لـ خطبة الجمعة القادمة : إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ ، د. أحمد رمضان

خطبة الجمعة الثانية بعنوان : التَّكَاتُفُ الِاجْتِمَاعِيُّ لـ خطبة الجمعة القادمة : إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ ، د. أحمد رمضان ، بتاريخ 21 صفر 1447هـ ، الموافق 15 أغسطس 2025م.
خطبة الجمعة الثانية بعنوان : التَّكَاتُفُ الِاجْتِمَاعِيُّ . د. أحمد رمضان
خطبة الجمعة الثانية بعنوان : التَّكَاتُفُ الِاجْتِمَاعِيُّ. د. أحمد رمضان
______________________________________
لقراءة خطبة الجمعة الثانية بعنوان : التَّكَاتُفُ الِاجْتِمَاعِيُّ كما يلي:
التَّكَاتُفُ الِاجْتِمَاعِيُّ
21 صفر 1447هـ – 15 أغسطس 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَمَرَ بِالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، وَنَهَى عَنِ القَسْوَةِ وَالتَّجَافِي، الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي التَّكَاتُفِ قُوَّةً لِلأُمَمِ، وَعِزَّةً لِلشُّعُوبِ، وَنُصْرَةً لِلضُّعَفَاءِ وَالمَحْرُومِينَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، جَعَلَ المُسْلِمِينَ إِخْوَةً يَتَوَادُّونَ وَيَتَعَاطَفُونَ، وَيَتَكَافَلُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَاعِي الرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عبادَ الله، حديثُنا اليومَ عن ركيزةٍ عظيمةٍ في بناءِ الأُممِ، وقُوَّةٍ كُبرى في حياةِ المجتمعاتِ، بها تَسودُ المحبَّةُ، وتَشيعُ الرَّحمةُ، ويَستقيمُ الميزانُ بينَ الفُقراء والأغنياءِ… إنَّه التَّكاتُفُ الاجتماعيُّ، الذي يَنبُعُ من صميمِ شريعةِ الإسلامِ، ويتجلَّى في صورِ المواساةِ للمحتاجينَ، والعطفِ على الفُقراء والمساكينِ، ونشرِ المودَّةِ بينَ المسلمينَ.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: فَضْلُ التَّكَاتُفِ فِي مُوَاسَاةِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ
أيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ التَّكَاتُفَ الِاجْتِمَاعِيَّ لَيْسَ مَجَرَّدَ شِعَارٍ يُرْفَعُ فِي المُنَاسَبَاتِ، بَلْ هُوَ فَرِيضَةٌ شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى، وَغَرَسَ بُذُورَهَا فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، فَتَجِدُ الغَنِيَّ يَرْحَمُ الفَقِيرَ، وَالقَوِيَّ يَعِينُ الضَّعِيفَ، وَالمُوسِرَ يَبْذُلُ لِلمُعْسِرِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
وقالَ ابنُ كثيرٍ (ج8، ص96، ط. دار طيبة): “يُقَدِّمُونَ مَحَبَّةَ إِخْوَانِهِمْ عَلَى مَحَبَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَيُؤْثِرُونَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ عَلَى حَاجَاتِهِمْ”.
روي البخاري (ح 3780): عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: “لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ، آخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِيَ امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَيَّهُمَا أَعْجَبَتْكَ فَسَمِّهَا لِي، أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجْتَهَا.
قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ.
فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَمَا انْقَلَبَ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ. ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَهْيَمْ؟ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً.
قَالَ: مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ – أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ – قَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ”. البخاري (ح 3780)، مسلم (ح 1427)، النسائي (ح 5308)، دلائل النبوة للبيهقي، باب المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ج3، ص281 (طبعة دار الكتب العلمية).
فتحُ الباري (ج4، ص346): “وفيه فضيلةُ الإيثار، وفضلُ المهاجرِ الذي يكتسبُ بيدِه، وتركُ الاعتمادِ على غيره”.
قِصَّةٌ مِنْ عَامِ الرَّمَادَةِ
يروي أبو هريرة – رضي الله عنه: رَأَيْتُهُ – يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – عامَ الرمَادةِ، وهو يحملُ على ظهرهِ جرابين وعَكَّةً من زَيْتٍ في يَدِهِ، وإنه ليعتقبُ هو وأسلمُ فَلما رآني قال: من أينَ يا أبا هريرةَ؟ قلت: قريبًا. قال: فأخذتُ أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى صرارٍ، فإذا نحوَ عشرين بيتًا من محاربٍ. قال عمر: ما أقدمُكم؟ قالُوا: الجهد. قال: فأخرجوا لنا جلدَ المَيْتَةِ مَشْوِيًا كانوا يأكلونه، ورَمَّةَ العظامِ مَسحوقَةً كانوا يُسِفونها. فرأيتُ عمرَ طرحَ رِداءَهُ ثمَّ اتَزَّر، فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا. ثمَّ أرسلَ أسلمُ إلى المدينةِ فجاءنا بأبعرة (قافلةٍ) فحملهم عليها، حتى أنزلهم الجبَانةَ ثمَّ كساهم. وكان يختلفُ إليهم وإلى غيرهم، حتى رفعَ الله ذلك. الطبقات الكبرى لابن سعد بن مَنِيع البصري الزهري، ج3، ص313، طبعة دار صادر.
النَّاسُ لِلنَّاسِ ما دامَ الوَفاءُ بِهِمْ والعُسْرُ واليُسْرُ أوقاتٌ وساعاتُ
وأكرمُ النَّاسِ ما بينَ الوَرى رَجُلٌ تُقْضى على يَدِهِ للنَّاسِ حاجاتُ
وقال النبيِّ ﷺ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى» [البخاري 6011، مسلم 2586].
العُنْصُرُ الثَّانِي: المَوَدَّةُ وَالمَحَبَّةُ أَسَاسُ التَّكَاتُفِ الِاجْتِمَاعِيِّ
أيُّهَا الإِخْوَةُ الأَفَاضِلُ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ تَكَاتُفٌ حَقِيقِيٌّ بَيْنَ أَبْنَاءِ المُجْتَمَعِ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةٍ مَتِينَةٍ مِنَ المَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، فَهُمَا الرُّوحُ الَّتِي تُحَرِّكُ جَسَدَ الأُمَّةِ، وَالرَّابِطَةُ الَّتِي تَجْمَعُ القُلُوبَ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10].
قَالَ القُرْطُبِيُّ فِي الجَامِعِ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ (ج16، ص323، ط. الرِّسَالَة): “أَخُوَّةُ الدِّينِ أَوْكَدُ مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ، فَإِنَّ الأُخُوَّةَ فِي اللهِ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا، وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ تَرَاحُمَ المُؤْمِنِينَ وَتَوَادَّهُمْ”.
رَوَى البُخَارِيُّ (ح 2567)، وَمُسْلِمٌ (ح 2624) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ”.
فَالمَوَدَّةُ تُحْيِي القُلُوبَ، وَالمُبَادَرَةُ بِالسَّلَامِ تُذِيبُ جَلِيدَ القَسْوَةِ، وَتُطْفِئُ نِيرَانَ العَدَاوَةِ.
وقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ –: “إِخْوَانُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَهْلِينَا، أَهْلِينَا يُذَكِّرُونَا الدُّنْيَا، وَإِخْوَانُنَا يُذَكِّرُونَا الآخِرَةَ” (حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ، أَبُو نُعَيْم، ج2، ص144).
صُوَرٌ مِنَ المَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ فِي عُصُورِ العِزِّ
فِي زَمَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، كَانَ المَرْءُ إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ وَجَدَ مَنْ يُوَاسِيهِ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ حَاجَةٌ وَجَدَ مَنْ يَقْضِيهَا، وَإِذَا فَرِحَ فَرِحُوا مَعَهُ، وَإِذَا حَزِنَ بَكَوْا مَعَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ… مَثَلُ الجَسَدِ” [البُخَارِي 6011، مُسْلِم 2586].
أَخُوكَ أَخُوكَ مَنْ لَا يَمِيلُ بِهِ الهَوَى وَلا يَتَّخِذُ الدُّنْيَا عَلَيْكَ سَبِيلَا
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مَعَ القَوْمِ أَلَفَةً فَقَدْ شَرِبُوا مَعَ غَيْرِكَ المَاءَ بَلْلَا
أيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّ تَحْقِيقَ المَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ فِي المُجْتَمَعِ لَيْسَ أَمْرًا تَرْفِيًّا، بَلْ هُوَ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِبَقَاءِ التَّكَاتُفِ وَاسْتِمْرَارِ قُوَّةِ الأُمَّةِ. وَإِذَا فَقَدَ المُجْتَمَعُ حُبَّ أَفْرَادِهِ لِبَعْضِهِمْ، تَفَكَّكَتِ العُرَى، وَضَعُفَ البُنْيَانُ، وَأَصْبَحَ كَالبَيْتِ الَّذِي تَسَرَّبَتْ إِلَيْهِ الرِّيَاحُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: العَطْفُ عَلَى الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ… فَرِيضَةٌ وَأَخْلَاقٌ
أيُّهَا الإِخْوَةُ الأَفَاضِلُ، إِنَّ التَّكَاتُفَ الِاجْتِمَاعِيَّ يَنْبُعُ مِنْ قَلْبٍ رَحِيمٍ، وَنَفْسٍ شَفُوقَةٍ، وَرُوحٍ تَرَى آلامَ الآخَرِينَ كَأَنَّهَا آلامُهَا، فَالعَطْفُ عَلَى الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ هُوَ أَجَلُّ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَالمَوَدَّةِ، وَأَحَدُ أَعْمِدَةِ بِنَاءِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 8-9].
وقال ابنُ كثيرٍ – رحمه الله -: «يُطْعِمُونَ هَؤُلَاءِ وَهُمْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ» (تفسير ابن كثير، ج8، ص293، ط. دار طيبة).
وعن أبي هريرةَ –رضي الله عنه– أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: “السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ”. صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب فضل إعانة الأرملة والمسكين، ح 2982.
قال النَّوويُّ – رحمه الله-: «فِيهِ فَضْلُ القِيَامِ عَلَى حَاجَاتِ الأَرَامِلِ وَالمَسَاكِينِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُعْدَلُ أَعْظَمَ أَعْمَالِ البِرِّ» (شرح النووي على مسلم، ج18، ص113، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قصةَ الأنصاري الذي ضيَّف رجلاً فقيرًا، فبات هو وزوجته جائعَيْن إيثارًا له، فأطْفَأَ السِّراجَ وأوهما الضيفَ أنهما يأكلان، فلمَّا أصبحوا، قال النَّبِيُّ ﷺ: «عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِلَيْلَتِكُمَا» (البخاري، كتاب مناقب الأنصار، ح 3798؛ مسلم، كتاب الأشربة، ح 2054).
وقال الشاعر في معنى المواساة:
أَطْعِمِ الجَائِعَ إِنْ لَقِيتَهُ وَامْسَحِ الدَّمْعَ عَنْ اليَتِيمِ الحَزِينِ
فَالبِرُّ خَيْرٌ وَفَضْلُهُ شَرَفٌ يَبْقَى وَإِنْ فَنِيَتْ هَذِهِ السِّنِينِ
ومن أخبار الصحابةِ في ذلك: أنَّ أبا بكرٍ – رضي الله عنه – كان كثير الإنفاق على الفقراء (حلية الأولياء، ج1، ص30)، وكان عمرُ – رضي الله عنه- يحمل الدقيق ليلاً للأرامل (سير أعلام النبلاء، ج2، ص511)، وكان عثمانُ – رضي الله عنه – يُغدق العطاء على المحتاجين (تاريخ دمشق، ج39، ص435)، وكان عليٌّ – رضي الله عنه- يُؤْثِر الفقيرَ بالطعام والثوب على نفسه.
أيُّهَا الأَحِبَّةُ، لَا يَكُونُ المُجْتَمَعُ المُسْلِمُ حَيًّا إِلَّا بِقَلْبٍ نَابِضٍ بِالرَّحْمَةِ، وَعَيْنٍ تَسْهَرُ لِرَاحَةِ الضُّعَفَاءِ، وَيَدٍ تَمْتَدُّ لِتَمْسَحَ الدُّمُوعَ، وَتَرْفَعَ الكُرُوبَ، فَمَنْ عَاشَ لِنَفْسِهِ مَاتَ وَحِيدًا، وَمَنْ عَاشَ لِغَيْرِهِ عَاشَ مَلِكًا فِي قُلُوبِ النَّاسِ.
العُنْصُرُ الرَّابِع: العَطْفُ عَلَى الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالمُوَاسَاةُ لَهُمْ
أيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ، إِنَّ التَّكَاتُفَ الِاجْتِمَاعِيَّ فِي الإِسْلَامِ لَمْ يُتْرَكْ عَفْوِيًّا أَوْ مُجَرَّدَ دَعْوَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ، بَلْ جَعَلَهُ الشَّرْعُ فَرِيضَةً مُؤَسَّسِيَّةً، وَنَظَّمَ لَهُ أُطُرًا تُضْمِنُ دَوَامَهُ وَاتِّسَاعَ أَثَرِهِ فِي المُجْتَمَعِ.
بيتُ المال في العهد النبوي
مُنْذُ أَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ دَوْلَةَ المَدِينَةِ، جَعَلَ بَيْتَ المَالِ مَرْكَزًا لِجَمْعِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَالفَيْءِ وَالغَنَائِمِ، وَتَوْزِيعِهَا عَلَى المُسْتَحِقِّينَ، وَكَانَ يُشْرِفُ عَلَيْهِ خَازِنٌ أَمِينٌ يَرْقُبُ اللهَ فِي عَمَلِهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾ [التوبة: 60].
قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ (الجامع لأحكام القرآن، ج8، ص175، ط. الرسالة): “هَذِهِ الآيَةُ أَصْلٌ فِي تَقْسِيمِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَضَبْطِ مَصَارِفِهَا، وَأَنَّهَا تُخَرَجُ فِي مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ بِتَنْظِيمٍ يَضْمَنُ عَدَمَ الضَّيَاعِ”.
التطور المؤسسي في عهد الخلفاء الراشدين
فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، اسْتَمَرَّ بَيْتُ المَالِ وَأُحْسِنَ تَدْبِيرُهُ، وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْشَأَ الدَّوَاوِينَ لِتَسْجِيلِ أَسْمَاءِ المُسْتَحِقِّينَ وَتَحْدِيدِ مَقَادِيرِ العَطَاءِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي المَدِينَةِ مُحْتَاجٌ إِلَّا وَهُوَ مَضْمُونُ الكِفَايَةِ. وَيَرْوِي ابْنُ كَثِيرٍ (البداية والنهاية، ج7، ص107، ط. هجر) أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَمُرُّ لَيْلًا فِي أَزِقَّةِ المَدِينَةِ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَ النَّاسِ، وَيَحْمِلُ الطَّعَامَ عَلَى ظَهْرِهِ لِلأَرَامِلِ وَالمَسَاكِينِ.
مؤسسات الأوقاف
مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ التَّكَاتُفِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ الأَوْقَافُ، فَقَدْ وَقَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ أَمْوَالًا وَأَرَاضِيَ لِإِطْعَامِ الفُقَرَاءِ، وَتَزْوِيجِ الشَّبَابِ، وَعِلَاجِ المَرْضَى، وَتَعْلِيمِ الأَيْتَامِ. وَمِنْ أَبْرَزِ الأَوْقَافِ وَقْفُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِئْرَ رُومَةَ لِسُقْيَا أَهْلِ المَدِينَةِ [البخاري 2778].
وَفِي عَصْرِنَا، أَوْقَافُ وِزَارَةِ الأَوْقَافِ تَقُومُ بِدَوْرٍ كَبِيرٍ فِي هَذَا الِاتِّجَاهِ، وَبَيْتُ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ التَّابِعُ لِلأَزْهَرِ الشَّرِيفِ وَغَيْرُهُمَا.
قصة وعبرة: فِي العَهْدِ العُثْمَانِيِّ، كَانَتْ هُنَاكَ أَوْقَافٌ تَخُصُّ إِطْعَامَ الطُّيُورِ فِي مَحَطَّاتِ القِطَارِ وَالسَّاحَاتِ العَامَّةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُمْ مَعَ الطُّيُورِ، فَكَيْفَ بِحَالِهِمْ مَعَ البَشَرِ المُحْتَاجِينَ؟!
قال أبو تمام:
بُنِيَتْ لَكُمُ الأَوْقَافُ تَسْقِي فَقِيرَكُمْ وَتُطْعِمُ جُوعَانًا وَتَأْوِي يَتِيمَا
فَصَانَكُمُ الرَّحْمَنُ مَا عِشْتُمُ عَلَى تَرَاثِ نُفُوسٍ فِي المَكَارِمِ قُوَّمَا
أيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِذَا أُدِيرَتِ المَسَاعِي الخَيْرِيَّةُ وَالمُؤَسَّسَاتُ الإِغَاثِيَّةُ بِمِنْهَاجٍ إِسْلَامِيٍّ صَافٍ، حَفِظَتِ الأَمْوَالَ، وَوَصَلَتِ الحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا، وَانْقَطَعَتْ أَسْبَابُ الحِرْمَانِ، وَعَاشَ المُجْتَمَعُ فِي أَمْنٍ وَسَلَامٍ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْـحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
المَحَبَّةُ وَالمَوَدَّةُ وَالمُوَاسَاةُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ
أيُّهَا الإِخْوَةُ الأَفَاضِلُ، إِنَّ المُوَاسَاةَ لِلْفُقَرَاءِ لَيْسَتْ صَدَقَةً مَادِّيَّةً فَقَطْ، بَلْ هِيَ مَشَاعِرُ دَافِئَةٌ، وَكَلِمَاتٌ طَيِّبَةٌ، وَمُعَامَلَةٌ تُشْعِرُ المَحْرُومَ أَنَّهُ لَيْسَ وَحِيدًا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 8-9].
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ (تفسير القرآن العظيم، ج8، ص289، ط. دار طيبة): “قائلين بلسان الحال: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي: رجاءَ ثوابِ اللهِ ورِضاه، (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)”.
قصة مؤثرة من السيرة
رَوَى البُخَارِيُّ (3798) وَمُسْلِمٌ (2054) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: “إِنِّي مَجْهُودٌ”، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ: “مَنْ يُضَيِّفُ هَذَا اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللهُ”، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَضَافَهُ، وَبَاتَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ جَائِعَيْنِ، وَقَدَّمَا الطَّعَامَ لِضَيْفِهِمَا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. “أَيْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ” القرطبي (ج18- ص 29).
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ (تفسير القرآن العظيم، ج8، ص 104، ط. دار طيبة): “يَعْنِي: حَاجَةً، أَيْ: يُقَدِّمُونَ المُحَاوِيْجَ عَلَى حَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَبْدَءُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَهُمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ». رواه أبو داود (1680)، والنسائي (2526)، حديث صحيح. وَهَؤُلَاءِ آثَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ خَصَاصَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَى مَا أَنْفَقُوهُ”.
قال الشاعر:
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
إِذَا جَمَعْتَ المَالَ فَاحْرِصْ أَنْ تُفَرِّقَهُ فَالخَيْرُ يَبْقَى وَمَا جَمَّعْتَ فَانٍ
المحبة دواء القلوب
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ” [البخاري 13، مسلم 45]. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ المُسْلِمَ الحَقِيقِيَّ يَفْرَحُ لِفَرَحِ أَخِيهِ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَيَبْذُلُ مِنْ رِزْقِهِ وَوَقْتِهِ لِمُوَاسَاتِهِ.
خاتمة ودعاء: فَيَا عِبَادَ اللهِ، أَحْيُوا فِي قُلُوبِكُمْ رُوحَ الإِيثَارِ، وَاجْعَلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ مَآوِيَ لِلرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ لِلْمُحْتَاجِينَ، وَمِنْ أَمْوَالِكُمْ جُسُورًا لِلرَّحْمَةِ وَالمَوَدَّةِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ المُحْسِنِينَ، وَارْزُقْنَا قُلُوبًا رَحِيمَةً، وَأَعْيُنًا بَاصِرَةً لِحَاجَاتِ الفُقَرَاءِ، وَأَيْدِيًا مُعْطَاءَةً، وَمَنَّا عَلَى أُمَّتِنَا بِالوَحْدَةِ وَالمَحَبَّةِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
المراجع:
- القرآن الكريم، سورة الحشر، الآية 9، سورة الإنسان، الآيتان 8–9، سورة الحجرات، الآية 10، سورة التوبة، الآية 60.
- كتب الحديث
صحيح البخاري — للإمام محمد بن إسماعيل البخاري
صحيح مسلم — للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري
سنن النسائي — للإمام أحمد بن شعيب النسائي
دلائل النبوة — للإمام أحمد بن الحسين البيهقي
- كتب التفسير
تفسير القرآن العظيم — للإمام إسماعيل بن عمر ابن كثير
الجامع لأحكام القرآن — للإمام محمد بن أحمد القرطبي
- شروح الحديث
فتح الباري شرح صحيح البخاري — للحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني
شرح صحيح مسلم — للإمام يحيى بن شرف النووي
- كتب السِّيَر والتاريخ والآثار
الطبقات الكبرى — للإمام محمد بن سعد البصري
البداية والنهاية — للإمام إسماعيل بن عمر ابن كثير
سير أعلام النبلاء — للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء — للإمام أحمد بن عبد الله أبو نعيم الأصفهاني
تاريخ دمشق — للإمام علي بن الحسن ابن عساكر
د. أحمد رمضان
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
وللإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف