خطبة الجمعة القادمة : التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء ، للدكتور أحمد رمضان
خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025 بعنوان : التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء ، إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 14 جمادي الثاني 1447هـ ، الموافق 5 ديسمبر 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م بصيغة word بعنوان : التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.
انفراد لتحميل خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء ، للدكتور أحمد رمضان.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م بعنوان : التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العنصرُ الأوَّلُ: التشكيكُ والحَيْرَةُ… خطرٌ يضربُ اليقينَ في مقتل
العنصرُ الثانيُ: كيفَ تتحوَّلُ الحَيْرَةُ إلى تشاؤمٍ، ويُغتالَ الأملُ في القلوبِ؟
العنصرُ الثالثُ: اليقينُ دواءُ الشكِّ، والتفاؤلُ سلاحُ المؤمنِ
العنصرُ الرَّابعُ: واجبُنا في مواجهةِ التشكيكِ والحيرةِ وبناءِ الأملِ في النفوسِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 5 ديسمبر 2025م : التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء
14 جمادي الآخرة 1447هـ – 5 ديسمبر 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الَّذي أنقذَ باليقينِ قلوبًا من الهلاكِ، وأحيا بالأملِ أممًا من بعدِ اليأسِ، وجعلَ حسنَ الظنِّ به حياةً للنفوسِ بعد موتِها، ونورًا للأرواحِ بعد ظلامِها، أحمده سبحانه حمدَ من علمَ أنَّ الفرجَ من عنده، وأنَّ الطمأنينةَ من لدنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعلَ اليقينَ عِزًّا للمؤمنين، وأشهد أن سيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، إمامُ المتفائلين، وقائدُ الواثقين، وبشيرُ القلوبِ الحائرةِ إلى نورِ ربِّ العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد…
عناصر الخطبة:
العنصرُ الأوَّلُ: التشكيكُ والحَيْرَةُ… خطرٌ يضربُ اليقينَ في مقتل
العنصرُ الثانيُ: كيفَ تتحوَّلُ الحَيْرَةُ إلى تشاؤمٍ، ويُغتالَ الأملُ في القلوبِ؟
العنصرُ الثالثُ: اليقينُ دواءُ الشكِّ، والتفاؤلُ سلاحُ المؤمنِ
العنصرُ الرَّابعُ: واجبُنا في مواجهةِ التشكيكِ والحيرةِ وبناءِ الأملِ في النفوسِ
فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أن أخطرَ ما يُصاب به الإنسانُ بعد فسادِ العقيدةِ: فسادُ اليقين، وأولُ طريقِ الانهيارِ من الداخل: الشكُّ والحيرةُ والتشاؤم، حين تتحول القلوبُ من مناجمِ ثقةٍ بالله، إلى مستنقعاتِ خوفٍ واضطراب، وحين يُطفَأ نورُ الأملِ في الصدور، وتُرفَع راياتُ السواد في العقول.
عبادَ الله… إننا نعيشُ زمانًا تُبثُّ فيه الشبهاتُ كما يُبثُّ الهواء، وتُزرعُ فيه الحيرةُ كما تُزرعُ الفتن، ويُروَّجُ للتشاؤمِ حتى صار عند بعضِ الناسِ ثقافةً، وعند بعضهم منهجَ حياة!
ومن هنا كان حديثُنا اليوم: التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء.
العنصرُ الأوَّلُ: التشكيكُ والحَيْرَةُ… خطرٌ يضربُ اليقينَ في مقتل
عِبادَ اللهِ… إنَّ مِن أعظمِ نعمِ اللهِ على عبدِه بعدَ الإيمانِ: نعمةَ اليقينِ، اليقينُ الذي تطمئنُّ به القلوبُ، وتستقرُّ به النفوسُ، وتثبتُ به الأقدامُ عندَ الزلازلِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4]. قالَ ابنُ جريرٍ الطبريُّ في تفسيرِها: “أي بالبعثِ والقيامةِ والجنةِ والنارِ والحسابِ والميزانِ”. تفسيرُ الطبريِّ: 1/217.
وقالَ سبحانهُ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، قالَ ابنُ كثيرٍ: “لما كانوا صابرينَ على أوامرِ اللهِ وتركِ نواهيهِ وزواجرِهِ وتصديقِ رسلِهِ واتباعِهم فيما جاؤوهم به، كانَ منهم أئمةٌ يهدونَ إلى الحقِّ بأمرِ اللهِ”. تفسيرُ ابنِ كثيرٍ: 6/370.
عِبادَ اللهِ… فإذا نُزعَ اليقينُ من القلبِ، نزلت مكانَه الحيرةُ، وتكاثرت عليه الشبهاتُ، وتسَلَّطت عليه الوساوسُ، فلا يثبتُ على حقٍّ، ولا يطمئنُّ لوعدِ اللهِ، قالَ تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]. قالَ القرطبيُّ: “أي ما بعدَ عبادةِ الإلهِ الحقِّ إذا تُركت عبادتُه إلا الضلالُ”. تفسيرُ القرطبيِّ: 8/336.
عِبادَ اللهِ… والتشكيكُ إذا استقرَّ في القلبِ لم يبقَ سؤالًا بريئًا، بل يتحولُ إلى داءٍ قلبيٍّ يُفسدُ الإيمانَ شيئًا فشيئًا، قالَ النبيُّ ﷺ: “دعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يُريبُكَ فإنَّ الصدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبَةٌ“. رواه الترمذيُّ: 2518، وأحمد (1723)، والنسائي (5711) حديث صحيحٌ.
قالَ المباركفوريُّ: أي اتركْ ما تشكُّ فيه إلى ما تطمئنُّ إليه النفسُ. تحفةُ الأحوذيِّ: 7/231.
عِبادَ اللهِ… وإنَّ من أخطرِ مراحلِ التشكيكِ أن يُفضيَ بصاحبِه إلى سوءِ الظنِّ باللهِ، قالَ تعالى: ﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: 12].
قالَ الرازي: “فَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ ظَنَّكُمْ عِنْدَكُمْ حَتَّى قَطَعْتُمْ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ يُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ، وَيَضُمُّ إِلَيْهَا مُخَايَلَةً يَقْطَعُ بِهَا الْغَافِلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشُكُّ فِيهَا الْعَاقِلُ”. تفسير الرازي 28/74. وقال الطاهر ابن عاشور: ” وَهَكَذَا شَأْنُ الْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالنُّفُوسِ الْهَاوِيَةِ أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تَتَصَوَّرُ بِهَا الْحَوَادِثُ إِلَّا الصُّورَةَ الَّتِي تَلُوحُ لَهَا فِي بادىء الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا تَلُوحُ لَهَا أَوَّلَ شَيْءٍ لِأَنَّهَا الصُّورَةُ الْمَحْبُوبَةُ ثُمَّ يَعْتَرِيهَا التَّزْيِينُ فِي الْعَقْلِ فَتَلْهُو عَنْ فَرْضِ غَيْرِهَا فَلَا تَسْتَعِدُّ لِحِدْثَانِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: حُبُكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ. “. التحرير والتنوير 26/264.
عِبادَ اللهِ… وما أخطرَ الحيرةَ إذا طالَ أمدُها؛ تُضعفُ العزيمةَ، وتُعطِّلُ الإرادةَ، وتجعلُ صاحبَها أسيرًا للترددِ، قلقًا على مستقبلِه، خائفًا من غدِه، قالَ النبيُّ ﷺ: “يَأْتي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَن خَلَقَ كَذا وكَذا؟ حتَّى يَقُولَ له: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فإذا بَلَغَ ذلكَ، فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ“. متفقٌ عليه: البخاريُّ 3276، مسلمٌ 134.
عِبادَ اللهِ… وقد قعَّدَ السلفُ قاعدةً عظيمةً في هذا البابِ، قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: “خيرُ ما أُلقيَ في القلوبِ اليقينُ”. الزهدُ لهنادٍ 1/287.
عِبادَ اللهِ… فالتشكيكُ إذا خرجَ من الصدورِ إلى الألسنةِ، صارَ وباءً يُعدي، وفكرًا يُفسدُ، وقد توعَّدَ النبيُّ ﷺ من يُشيعُ الإحباطَ في المجتمعِ، فقالَ: “إذا قالَ الرجلُ: هلكَ الناسُ فهو أهلكُهم“. رواه مسلمٌ: 2623.
قالَ النوويُّ: معناه أنه أشدهم هلاكًا … هُوَ جَعَلَهُمْ هَالِكِينَ لَا أَنَّهُمْ هَلَكُوا فِي الْحَقِيقَةِ. شرحُ مسلمٍ: 16/175.
عِبادَ اللهِ… إنَّ أخطرَ خسارةٍ تصيبُ الأممَ ليستْ خسارةَ المالِ ولا السلاحِ، ولكنْ خسارةَ اليقينِ، فإذا فُقدَ اليقينُ، ضاعَ الأملُ، وإذا ضاعَ الأملُ سقطتِ الراياتُ قبلَ أن تُرفعَ.
العنصرُ الثانيُ: كيفَ تتحوَّلُ الحَيْرَةُ إلى تشاؤمٍ، ويُغتالَ الأملُ في القلوبِ؟
عبادَ اللهِ… اعلموا أنَّ الحيرةَ إذا أُطلقت بلا ضوابطَ شرعيةٍ، ولم تُعالَج بنور الوحي، لم تبقَ حيرةً فكريةً بريئة، بل تنقلبُ – مع الأيام – إلى تشاؤمٍ مُهلِكٍ، ويأسٍ قاتلٍ، وقنوطٍ يُطفئ نور الرجاءِ في القلب، حتى يصبح العبدُ ينظرُ إلى الحياة بعينٍ سوداءَ لا ترى إلا العثرات، ولا تتوقَّع إلا الخسارات.
وقد كشف القرآنُ هذا التحوُّلَ الخطيرَ حين نُزع اليقينُ، فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 15–16].
قال ابنُ كثيرٍ: “يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الإِنْسَانِ فِي اعْتِقَادِهِ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ لِيَخْتَبِرَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِكْرَامٌ لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: 55–56]. وَكَذَلِكَ فِي الجَانِبِ الآخَرِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَامْتَحَنَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِهَانَةً لَهُ”. تفسير ابن كثير: 8/433. فهذا هو منشأ التشاؤم: فهمٌ معكوسٌ عن الله، وظنٌّ فاسدٌ في قضاء الله.
عبادَ اللهِ… إنَّ الحيرةَ إذا طال أمدُها تُفقِد القلبَ ميزانَ التفسير الصحيح للوقائع، فيقرأ الفتن على أنها نهايات، ويقرأ الابتلاء على أنه عقوبة، ويقرأ التضييق على أنه إهانة، فيقع صاحبها في دوامة التشاؤم القاتل.
ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
قال القرطبي: “أَيْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ فَرَجِ اللَّهِ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، يُرِيدُ: أَنَّ المُؤْمِنَ يَرْجُو فَرَجَ اللَّهِ، وَالكَافِرَ يَقْنَطُ فِي الشِّدَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ القُنُوطَ مِنَ الكَبَائِرِ، وَهُوَ اليَأْسُ”. تفسير القرطبي: 9/226. فتأمَّلوا – عباد الله – ربط اليأس بالكفر العملي القلبي؛ لأنه اتهامٌ ضمنيٌّ لرحمة الله، وطعنٌ في وعده، وسوءُ ظنٍّ بقدرته.
عبادَ اللهِ… ومِن أخطر ما يُغذِّي التشاؤمَ في القلوبِ تكرارُ الخطابِ الهدميِّ، وتداولُ عباراتِ الإحباطِ، وتضخيمُ الفشلِ دون نظرٍ إلى سنن الله في التغيير. ولهذا عالج النبي ﷺ هذا السلوكَ علاجًا نفسيًّا واجتماعيًّا بالغَ العمق، فقال: “إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ”. رواه مسلم: 2623.
فتأملوا – عباد الله – كيف جعل النبي ﷺ نشر التشاؤم جريمةً نفسيةً في حق المجتمع، وصاحبه أول الهالكين.
عبادَ اللهِ… إنَّ الحيرةَ حين تُترك بلا علاجٍ شرعيٍّ، تتحولُ إلى خوفٍ دائم، والخوفُ يتحولُ إلى قلقٍ، والقلقُ يتحولُ إلى تشاؤمٍ، والتشاؤمُ ينتهي بصاحبه إلى الشلل النفسي والإحباط الوجودي، فلا يُحسن عبادة، ولا يُحسن عملاً، ولا يُحسن ظنًّا بربه. وقد نبَّه النبي ﷺ إلى هذا الانحدار النفسي الخطير فقال: “إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ”. رواه مسلم: 2812.
عبادَ اللهِ… وهكذا يعمل الشيطان: يشكِّكُ أولًا، ثم يحيِّر ثانيًا، ثم يُقنِط ثالثًا، ثم يُحطِّم رابعًا.
فتُغتالُ طاقةُ الرجاء في القلب، ويعيش صاحبُ التشاؤم أسيرًا لوهم الهزيمة ولو لم تقع، ويستبق السقوط وهو ما زال واقفًا، ولهذا قال تعالى في وصف المنافقين وأهل التشاؤم: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: 4]. قال الشعراوي: “وهم يتصرفون هكذا لأن الريبة تملأ أعماقهم. 9/5494.
العنصرُ الثالثُ: اليقينُ دواءُ الشكِّ، والتفاؤلُ سلاحُ المؤمنِ
عبادَ اللهِ… إذا دخلَ الشكُّ قلبًا أظلمَهُ، وإذا استوطنتِ الحيرةُ نفسًا أعيتهَا، ولا شيءَ يقتلُ الشكَّ قتلَ اليقينِ، ولا شيءَ يكسرُ سوداويةَ التشاؤمِ مثلَ التفاؤلِ، فهما دواءانِ أنزلهما اللهُ رحمةً بعبادهِ، وسلاحانِ يقاتلُ بهما المؤمنُ في معركةِ الحياةِ.
عبادَ اللهِ… اليقينُ هو أعلى مراتبِ الإيمانِ، وهو السكونُ الذي يسكنُ به الفؤادُ إلى وعدِ اللهِ، قالَ تعالى: ﴿وبالآخرةِ هم يوقنونَ﴾ [البقرة: 4]. قال محمد سيد طنطاوي: “ويوقنونَ من الإيقانِ وهو الاعتقادُ الجازمُ المطابقُ للواقعِ، بحيثُ لا يطرأُ عليهِ شكٌّ، ولا تحومُ حولهُ شبهةٌ”. تفسير طنطاوي 1/46 وقالَ سبحانهُ: ﴿واعبدْ ربكَ حتى يأتيكَ اليقينُ﴾ [الحجر: 99].
قالَ الطاهر بن عاشور في تفسيره (1/239): “وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَا الْوَصْفُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِمْ لِأَنَّهُ مِلَاكُ التَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ الَّتِي جُعِلُوا مَوْصُوفِينَ بِهَا”.
عبادَ اللهِ… ومتى استقرَّ اليقينُ في القلبِ، انقلبَ الخوفُ أمنًا، والحزنُ طمأنينةً، والضيقُ فرجًا، قالَ النبيُّ ﷺ: “عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كلَّهُ لهُ خيرٌ…» رواهُ مسلمٌ: 2999.
عبادَ اللهِ… ومن أعظمِ ثمارِ اليقينِ حسنُ الظنِّ باللهِ، وهو أساسُ التفاؤلِ، قالَ النبيُّ ﷺ فيما يرويهِ عن ربِّهِ: “أنا عندَ ظنِّ عبدي بي» متفقٌ عليهِ: البخاريُّ 7405، مسلمٌ 2675.
قال ابنُ مسعودٍ: واللهُ الذي لا إلهَ إلا هو ما أُعطيَ عبدٌ مؤمنٌ قطُّ شيئًا خيرًا من حُسنِ الظنِّ باللهِ، واللهُ الذي لا إلهَ إلا هو لا يُحسِنُ عبدٌ الظنَّ إلا أَعطاهُ اللهُ ظنَّهُ، وذلكَ أنَّ الخيرَ في يدَيْهِ.وقال سفيانُ بنُ عيينةَ: لا يَمنعنَّ أحدًا من الدعاءِ ما يَعلمُ من نفسِهِ، فإنَّ اللهَ تعالى قد أجابَ دعاءَ شرِّ الخلقِ إبليسَ «قالَ أنظرني إلى يومِ يُبعثونَ، قالَ إنك من المُنظَرينَ» [الأعراف: 14، 15]. شرح البخاري ابن بطال 10/100.
عبادَ اللهِ… أما التفاؤلُ فهو روحُ المؤمنِ، ونبضُ القلبِ الحيِّ، وقد كانَ النبيُّ ﷺ يحبُّ الفألَ الحسنَ، قالَ ﷺ: “لا طيرةَ، وخيرُها الفألُ» رواهُ البخاريُّ: 5754. قال النووي: “والتطير التشاءم وَأَصْلُهُ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ”. شرح النووي علي مسلم 14/218.
عبادَ اللهِ… والتفاؤلُ لا يعني غفلةً، ولا تغافلًا عن الواقعِ، بل هو عملٌ مع رضا، وأخذٌ بالأسبابِ مع ثقةٍ في ربِّ الأربابِ، قالَ تعالى: ﴿فإنَّ معَ العسرِ يسرًا * إنَّ معَ العسرِ يسرًا﴾ [الشرح: 5-6]. قال السعدي في تفسيره (ص929): بِشارةٌ عظيمةٌ، أنَّهُ كلَّما وُجِدَ عُسرٌ وصعوبةٌ، فإنَّ اليسرَ يُقارِنُهُ ويُصاحِبُهُ، حتَّى لو دَخَلَ العُسرُ جُحرَ ضبٍّ لَدَخَلَ عليهِ اليسرُ، فأخرجهُ، كما قال تعالى: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾، وكما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا“. الترمذي (2516)، وأحمد (2803). صحيح.
عبادَ اللهِ… إنَّ المؤمنَ باليقينِ والتفاؤلِ يعيشُ في الدنيا وقلبُهُ معلقٌ بالسماءِ، تحدقُ بهِ الأزماتُ فلا تكسِرُهُ، وتحاصرهُ الشدائدُ فلا تسقِطُهُ، لأنه يعلمُ أنَّ لهُ ربًّا لا يخلفُ وعدَهُ، ولا يخيِّبُ رجاءَهُ، ولا يضيعُ عبدًا تعلَّقَ بهِ.
العنصرُ الرَّابعُ: واجبُنا في مواجهةِ التشكيكِ والحيرةِ وبناءِ الأملِ في النفوسِ
عبادُ اللهِ… إنَّ أخطرَ ما تُبتلى بهِ المجتمعاتُ اليومَ ليسَ الفقرَ في الأموالِ، ولا الضعفَ في الإمكاناتِ، ولكنَّهُ الفقرُ في اليقينِ، والضعفُ في العزائمِ، وانطفاءُ شعلةِ الأملِ في النفوسِ، فإذا ماتَ الأملُ تعطَّلتِ الطاقاتُ، وإذا سادَ الشكُّ تكسَّرتِ الإراداتُ، وإذا انتشرَ التشاؤمُ خربتِ القلوبُ قبلَ أنْ تخربَ البيوتُ، وقد قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139]. قال السعدي: “أيْ: ولا تهنُوا وتضعفُوا في أبدانِكُم، ولا تحزنُوا في قلوبِكُم، عندما أصابتكُم المصيبةُ، وابتُليتكُم بهذه البلوى، فإنَّ الحزنَ في القلوبِ، والوهنَ على الأبدانِ، زيادةُ مصيبةٍ عليكُم، وعونٌ لعدوِّكُم عليكُم، بل شجِّعُوا قلوبكُم وصبِّروهَا، وادفعُوا عنهَا الحزنَ”. تفسير السعدي ص149
إنَّ واجبَنا اليومَ في مواجهةِ هذهِ الآفةِ الخطيرةِ واجبٌ إيمانيٌّ قبلَ أنْ يكونَ واجبًا اجتماعيًّا، لأنَّ اللهَ استخلفَنا في الأرضِ لنعمرَها بالأملِ لا باليأسِ، وبالثقةِ لا بالريبةِ، وبالتفاؤلِ لا بالتشاؤمِ، قالَ تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود:61]. قالَ القرطبيُّ: أيْ طلبَ منكم عمارتَها بالطاعةِ والإيمانِ وصلاحِ الأحوالِ. تفسيرُ القرطبيِّ: 9/86.
الواجبُ الأول: ترسيخُ اليقينِ في القلوبِ، وخاصةً في قلوبِ الشبابِ، فلا تُتركُ عقولُهم فريسةً للشبهاتِ، ولا تُسَلَّمُ أفكارُهم لرياحِ التشكيكِ، بل يُربَّونَ على أنَّ هذا الدينَ حقٌّ، وأنَّ وعدَ اللهِ صدقٌ، وأنَّ المستقبلَ لهذا الدينِ مهما طالَ الطريقُ، قالَ تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة:4].
الواجبُ الثاني: ضبطُ اللسانِ عن نشرِ السلبيةِ، فإنَّ الكلمةَ قد تزرعُ أملًا، وقد توقظُ يأسًا، وقد تحيي قلبًا، وقد تقتلُ عزيمةً، فكمْ من كلمةٍ محبِطةٍ أطفأتْ جذوةَ الأملِ في نفوسِ شبابٍ، وكمْ من عبارةٍ متفائلةٍ صنعتْ إنسانًا، وبنتْ مستقبلًا، وقد قالَ النبيُّ ﷺ: “الكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ» رواهُ البخاريُّ: 2989، ومسلمٌ: 1009.
الواجبُ الثالث: بناءُ العقولِ على منهجِ العملِ لا القعودِ، فالتشاؤمُ يعيشُ في النفوسِ العاطلةِ، والشكُّ يسكنُ القلوبَ الخاويةَ، أما القلوبُ العاملةُ، والعقولُ المنتجةُ، فلا تعرفُ اليأسَ، لأنَّها مشغولةٌ بالبناءِ لا بالبكاءِ على الأطلالِ، قالَ تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ [التوبة:105].
الواجبُ الرابع : إحياءُ سنَّةِ التفاؤلِ في البيوتِ والمساجدِ والمدارسِ، بأنْ نربِّيَ أبناءَنا على الكلمةِ الطيبةِ، والروحِ الإيجابيةِ، والنظرةِ المشرقةِ للحياةِ، وأنْ نعلِّمَهم أنَّ العثراتِ مراحلُ، وأنَّ الفشلَ محطاتٌ، وأنَّ النجاحَ لا يُولدُ إلَّا بعدَ صبرٍ وكفاحٍ ومجاهدةٍ.
الواجبُ الخامس: مواجهةُ الشبهاتِ بالعلمِ لا بالانفعالِ، وبالحجةِ لا بالصراخِ، وبالبرهانِ لا بالتخوينِ، فإنَّ العقولَ لا تُقنعُ بالقهرِ، ولكنْ تُقنعُ بالحجةِ، ولا تُهزمُ الشبهةُ بالصوتِ العالي، ولكنْ تُهزمُ بالعلمِ الراسخِ والفهمِ العميقِ، قالَ تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:111].
عبادُ اللهِ… إنَّ بناءَ الأملِ ليسَ كلمةً تُقالُ، بلْ مشروعُ حياةٍ يُغرسُ في البيوتِ، ويُسقى في المدارسِ، ويُثبَّتُ في المساجدِ، وتتشابكُ فيهِ جهودُ العلماءِ والمربينَ والدعاةِ والإعلامِ، حتى ينشأَ جيلٌ لا يعرفُ اليأسَ، ولا يتغذى على الشكِّ، ولا يستسلمُ للتشاؤمِ.
إنَّ الأمةَ التي تُتقنُ صناعةَ الأملِ في نفوسِ أبنائِها أمةٌ لا تموتُ، والمجتمعَ الذي يزرعُ الثقةَ في قلوبِ شبابِهِ مجتمعٌ لا يُهزمُ، والبيتَ الذي يُربى فيهِ الأبناءُ على التفاؤلِ بيتٌ لا يعرفُ الانكسارَ.
عبادُ اللهِ… كونوا دعاةَ أملٍ لا دعاةَ يأسٍ، وكونوا بناةَ يقينٍ لا ناشري شكٍّ، وكونوا مفاتيحَ للخيرِ لا مغاليقَ لهُ، فإنَّ اللهَ لمْ يستخلفْنا في هذهِ الأرضِ لنبثَّ فيها الإحباطَ، بلْ لنحييَ فيها الرجاءَ، ونغرسَ فيها الثقةَ، ونوقظَ فيها روحَ العملِ والبناءِ، قالَ تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف:87].
الخاتمةُ: عبادَ اللهِ… ربُّكم سبحانهُ يناديكم من فوقِ سبعِ سماواتٍ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر 53، وينهاكم عن اليأسِ والقنوطِ، ويأمركم بالأملِ والرجاءِ، ويزرعُ في قلوبِكم الثقةَ بوعدِه، واليقينَ بنصرِه، والاطمئنانَ إلى تدبيرِه.
اللَّهُمَّ احفظْ شبابَنا من الحيرةِ، وعقولَنا من الضلالِ، وقلوبَنا من الاضطرابِ، واجعلْنا مفاتيحَ للخيرِ، مغاليقَ للشرِّ، ربانيينَ في أقوالِنا، إيجابيينَ في أعمالِنا، صادقينَ في توكُّلِنا عليكَ.
اللَّهُمَّ اجعلْ بلدَنا مِصْرَ آمنةً مطمئنةً، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلادِ المسلمينَ
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، وابن ماجه، سنن الترمذي، مسند أحمد. سنن النسائي
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري، تفسير ابن كثير، تَفْسِيرُ القرطبي، تفسير الشعراوي، تفسير طنطاوي، تفسير الرازي، تفسير الطاهر بن عاشور، تفسير السعدي، شرح البخاري لابن بطال، شرح النووي علي مسلم، الزهدُ لهنادٍ ، تحفةُ الأحوذيّ للمباركفوري.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
___________________________________
خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف علي صوت الدعاة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
و للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
و للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف






